الخلاف كما يرى أصحاب الاختصاص، متعدد الاشكال والاهداف والمضامين، ومنه الخلاف الفكري والعقائدي وخلاف الرأي الذي قد يتحول في مراحل لاحقة الى خلاف سلوكي، وهذه الدرجة من الخلاف قد تكون الاخطر والأصعب، كونها تنطوي على مخاطر جديدة مادية على طرفيّ الخلاف، كما نلاحظ ذلك في نشوء حالات الاحتراب، فعندما يعجز الحوار، وعندما يتم غلق ابواب الكلام، وعندما يصل احد الاطراف الى قناعة تامة بأن الخلاف الفكري او اللفظي لم يعد يكفي، عند ذاك يتم اللجوء الى نوع آخر ودرجة اعلى من درجات الخلاف ألا وهي حالات الاقتتال بأشكالها المتعددة.
فقد يكون الاقتتال فرديا، وذا طابع اجتماعي، وربما جماعيا ذا طابع قبلي، صعودا الى الخلاف السياسي الحاد بين الدول، ولا يقتصر الخلاف بين الدول فحسب، ولا ينحصر في صراعات دولية او اقليمية، وليست السياسة وحدها ميدان الخلاف، ولعل أصعب الخلافات تلك التي تهدد التماسك المجتمعي، فهي قد تبدأ صغيرة، لا تُرى بالعين، ولا تُسمَع بالاذن، وربما لا يكون لها اي دور في خلخلة النسيج المجتمعي في بداية نشوئها، ولكنها مع الوقت تأخذ طابعا عدائيا شديدا بين الاطراف المختلفة، الامر الذي يقود الى تدمير الثقة الاجتماعية بين مكونات المجتمع الواحد.
بعد هذه المرحلة يكون السلم الأهلي هو الهدف القادم للخلافات السياسية او الاجتماعية وما شابه، وعندما يصل الخلاف الى مرحلة تهديد السلم الامني، فإن بنية المجتمع كلها، تكون تحت مرمى خطر الاقتتال والبغض والتسقيط، فضلا عن السبل والطرق والاشكال الاخرى للصراع، ولعل اخطر أنواع الخلاف كما يرى علماء الاجتماع والسياسة، هو الخلاف السلوكي الذي يعد من الخلافات الهدامة للبنية المجتمعية علما أن الخلاف السلوكي هو غير النزاع حول المحتوى او الفكر او الرأي، كون أن هذا النوع من الخلاف له علاقة بطريقة تصرف وسلوكية الفرد او الجماعة.
وهناك نوعان من الخلاف السلوكي، الأول يتناول تصرفات غير مهنية عند التواصل مع بقية اعضاء المجتمع، والثاني يتناول اسلوب تحرير يعتبر تخريبي وفظ وهدام، يستهدف التنظيم المجتمعي بالدرجة الاولى.
لذلك نلاحظ تأكيد الامام علي عليه السلام على هذا الجانب في قوله (الخلاف يفسد الأُمور المنتظمة).
بمعنى يفسد الامور المرتبطة في بعضها كأنّها منظومة في خيط حيث يُفسدها الخلاف بين أصحاب تلك الأُمور، أي أنّ الغالب هو أنّه إذا كان أفراد طائفة وجماعة معيّنة متّفقين فيما بينهم فإنّ أُمورهم ستكون منتظمة، فإن هم اختلفوا فيما بينهم اختلّت أُمورهم وفسدت، فيجب إذاً الحذر من الخلاف والفُرقة.
كذلك يعد الخلاف من الوسائل الهدامة للآراء المتفقة مع بعضها، لذلك ينصح أهل الاختصاص والمعنيون بأهمية وأد الخلاف في مهده، كونه اذا تضخّم واشتدّ عوده يصبح خارج السيطرة، وعند ذاك سوف يهدد الآراء المتقاربة، ويحولها الى آراء متناقضة وربما متقاتلة، وتعد هذه المرحلة اقصى مراحل الخطر في الخلاف، كونها تمثل بوابة الدخول الى الخلاف السلوكي الذي قد يقود الى الاقتتال والاحتراب!.
فكما جاء في قول الامام علي عليه السلام حول هذا الموضوع ايضا، أن (الْخِلافُ يَهْدِمُ الآراءَ).
أي أن الخلاف يهدم الآراء ويفسدها، وكلّما كان أرباب الحلّ والعقد في الدولة والمجتمع أو أصحاب أيّ مصلحة واستشارة ينزعون إلى مخالفة بعضهم البعض، ولم يكونوا متّفقين متآلفين، فإنّ هذا المعنى سيُفسد آراءهم وتدابيرهم، لأنّهم سيخالفون كلّ من يُظهر رأياً مخالفا لهم ـ ولو اعتقدوا بصلاح رأيه وصواب فكرته ـ وسوف يختلقون لرأيه المفاسد، فلا يصلون في نهاية الأمر إلى رأي على أمر ما، فتختلّ الأمور لديهم، لذا على أولياء المجتمع وأصحاب كلّ استشارة أن يكونوا متصافين بعيدين عن الغشّ، من أجل أن يتّفقوا على ما يرونه صواباً، وأن لا يخالفوا ذلك الرأي من أجل أغراضهم وأهوائهم ومصالحهم.
ولابد من السعي الجماعي والفردي على حد سواء لمحاصرة الخلاف المجتمعي وهو في بداية نشوئه، حتى لا يشتد ولا ينمو، ولا يصل الى مرحلة الخلاف السلوكي، وحتى في حالة بلوغ الخلاف هذه الدرجة الخطيرة، هناك سبل متواجدة للحل، لذلك يرى أهل الاختصاص ان هناك سبلا وطرقا للقضاء على الخلاف بكل انواعه، لاسيما السلوكي منه، كونه ينطوي على اضرار معنوية ومادية غالبا ما يتعرض لها طرفا النزاع، ويمكن اتباع إحدى الطريقتين التاليتين لفض النزاع السلوكي الفردي قبل أن يتحول الى سلوك جماعي يلحق الأذى بالمجتمع عموما، وهما كما يرى المتخصصون:
- أن يبقى الانسان هادئا، وهذا هو الميدان الأساسي لحل الخلافات حول السلوكيات.
- لابد من الطلب من احدى الشخصيات او الجهات الموثوقة تقييم السلوكيات واتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع الحلول المطلوبة في هذا الصدد.
لذا في جميع الاحوال ينبغي أن يترك الحبل على الغارب، وان لا تترك الامور تسير على هواها فيما يتعلق بالخلاف بين مكونات المجتمع الواحد، وأن يبقى باب التفاهمات مفتوحا على الدوام، فعندما يتم غلق ابواب الحوار بصورة تامة، هذا يمثل دليلا قاطعا على عجز القيادات عن الارتقاء الى مرحلة النضوج الفكري والانساني معا، لأن النتيجة تعني الاحتراب، ومن الواضح أن اصحاب القرار لا يتحملون نتائج تهديد التماسك المجتمعي، بل من يتحمل ذلك الشعب أو الامة.
لذا تستدعي الحكمة أن تتم معالجة الخلاف الفردي او الجماعي الداخلي (المجتمعي)، لحفظ السلم الاهلي وترسيخ التعايش، ثم معالجة الخلاف على صعيد الدولة، كونه سوف ينعكس على الخلاف المجتمعي في نهاية المطاف ويشكل خرقا له، لاسيما عندما تنعكس ضغوط الاقتتال على التماسك المجتمعي وتطيح به، كما اثبتت التجارب في الدول التي خاضت حروبا داخلية كثيرة.
اضف تعليق