لم يسترعِ انتباهي تكدّس مئات الأجساد، رجال ونساء، كبار وأطفال، في ممرات هذا (المول) الحديث، الذي بات يلّبي حاجيات الناس المختلفة، حتى صار الجميع يتوجّهون إليه، ويتسوقون منه كلَّ ما يحتاجونه، ما أثار انتباهي صورة صغيرة لطفل كانت معلّقة فوق رأس صاحب المول الذي يجلس خلف طاولة...
لم يسترعِ انتباهي تكدّس مئات الأجساد، رجال ونساء، كبار وأطفال، في ممرات هذا (المول) الحديث، الذي بات يلّبي حاجيات الناس المختلفة، حتى صار الجميع يتوجّهون إليه، ويتسوقون منه كلَّ ما يحتاجونه، ما أثار انتباهي صورة صغيرة لطفل كانت معلّقة فوق رأس صاحب المول الذي يجلس خلف طاولة مصنوعة من الألمنيوم موضوع قرب الباب، وفوقها حاسبة إلكترونية، وجهاز محاسبة الزبائن، حيث يتسوّق الزبون ما يحتاجوه من داخل المول وقبل خروجه يدفع الحساب لهذا الرجل الذي يعلِّق فوق رأسه صورة لطفل صغير!.
شغلتني صورة الطفل، هذا الوجه الهادئ البريء مرَّ بي فيما مضى، إلتقيتُ به في مكان ما، ولكن أين؟، بدأت أحرّك شريط الذاكرة، مرّت الكثير من الوجوه أمامي، حتى تذكّرتُ وجه الطفل الذي كان يقاسمني مقعد الدراسة الابتدائية، ثم سألتُ نفسي: تُرى هل هذه صورة الطفل تعود للرجل الكهل الذي يستلم النقود من الناس عند خروجهم من المول؟.
قارنت بين الصورة ووجه الرجل الكهل، توصّلتُ إلى ما يلي: أما هي صورة الرجل عندما كان طفلا، أو أنها صورة ابنه الصغير!.
تذكّرتُ اسمه حين كان يجلس جنبي على مقعد الدراسة في الصف الابتدائي، إنهُ سمير، الطفل الهادئ الجميل الذكي، سألني الرجل الكبير قائلا: أراك منشغلا بشيء ما، هل أنت بحاجة إلى مساعدة، أنا حاضر لمساعدتك؟
أجبتهُ: نعم أنا بحاجة لمساعدة، ولا أظن هناك غيرك يستطيع مساعدتي فيها!.
اندهش الرجل الكهل ونادى على أحد عمال المول وطلب منه أن يجلس خلف جهاز المحاسبة كي يحاسب الزبائن الخارجين، ثم نهض من خلف الطاولة واقترب مني وقال لي: أنا الآن متفرّغ لك كليّا، أطلب حاجتك وسألبيها حالاً.
ارتبكتُ من موقفه هذا، ثم سألته بشكل مباشر: هل أنت سمير أمْ أبوه؟
فوجئ الرجل الكهل بسؤالي المباشر وبدت الحيرة واضحة في قسمات وجهه، ثم قال: هل أنت تعرفني، هل من أقربائي أو صديق قديم؟
قلت له: أرجو أن تجيبني أولا، هل أنت سمير؟
قال: نعم أنا سمير بالفعل.
قلتُ: وتلك (وأشرتُ لصورة الطفل)، هل هي صورتك؟
ضحك وقال: هي صورة ابني عليّ.
ثم سألته: ألا تعرفني؟
قال: بدأت أتذكّر وجهك، أظن أنت محمد صديق طفولتي في الدراسة الابتدائية، أليسَ كذلك؟
ضحكت وفرحتُ كثيرا، وفتحتُ له ذراعيّ وقلتُ له: نعم أنا محمد صديق الطفولة الرائعة التي جمعت بيننا.
فضحك الرجل الكهل وقال: هل انتهت حاجتك الآن وهل يمكنني العودة إلى عملي؟
تبسّمتُ وقلتُ له: لم تنتهِ حاجتي بعد، عندي أسئلة كثيرة أريد أن تجيبني عنها؟
أوصى عامل المحل الذي أخذ مكانه في محاسبة الزبائن بأن يتقن عمله، وأمسك بيدي وأخذني إلى غرفة صغيرة مؤثثة ومبرَّدة جيدا، جلسنا في الغرفة لوحدنا، وقال أنا تحت أمرك اطرحْ أسئلتك؟
فسألته مرةً أخرى كأنني لم أصدِّق إجابته الأولى: هل أنت سمير صديق الطفولة؟
قال: سبق أجبتك، والآن مرة أخرى أقول لك أنا سمير وأنت محمد صديق الدراسة الابتدائية.
قلتُ له: لم تكن غنياً كما أنت الآن وأبوك كان موظفاً بسيطا، من أين لك هذا الثراء؟، هل أنت وزير أو مدير عام أو رئيس حزب سياسي؟
فوجئ صديقي بسؤالي وأقسم أغلظ الأيمان: لا أنا، ولا أبي نعمل في الحكومة أو السياسة؟
قلتُ لهُ بإصرار مستفهما ثراءَه: ولكن كيف حصلت على هذا المول، هل عامل فيه أم ملكيته تعود لك؟
قال مع ابتسامة ارتسمت في ثغره: المول تعود ملكيته لي؟
قلت بدهشة: من أين لك هذا المال وهذا الغنى؟.
قال دعني أخبرك بهذه الحكاية التي لأم أتكلم بها سابقا، وبدأ يحكي لي حكاية غناه وثرائه، فقال: أنتَ يا صديقي تتذكر أبي الموظف البسيط، وتتذكر بيتنا الذي استأجرناه بالقرب من بيتكم.
قلتُ لهُ: نعم أتذكر بيتكم وبيتنا ومدرستنا.
أكملَ كلامه: في ذلك الوقت وأنا طفل، اقترحت أمي على أبي أن يدّخرا لي مبلغا أسبوعيا، وافق أبي، وجعله مبلغ يومي صغير، واتفق مع أمي أن لا يقتربا من مبلغ الادّخار المخصص لي مهما كانت الظروف، ولم يخبراني بهذا المشروع، استمر الادخار يوميا وعلى مرّ السنين تراكم المبلغ، فنقلهُ أبي إلى أحد المصارف، وواصل الادخار اليومي في البيت، وحين صار المبلغ كبيرا أودعه في المصرف، وواصل الادخار بمبلغ يومي بسيط، وحين بلغت سن الاستقلال (18 عاماً)، أخذني إلى المصرف، وحصلت على دفتر توفير، أو دع فيه مبلغ الادّخار الذي لك أكن أعرف قيمته في حينها، وأخذ أبي الدفتر واحتفظ به في مكان لا أعرفه، وطلب مني أن أنسى هذا الدفتر ولا أفكر فيه، وواصل أبي الادخار اليومي وكانت أمي تذكرّه بذلك يوميا، وحين تزوجت ورزقني الله بأول طفل، فاتحني أبي بمشروع عمل، عبارة عن فتح دكان صغير لبيع المواد الغذائية، وفرحتُ بهذا المشروع البِكْر، وحرصتُ على تطويره، وكان أبي يساعدني بالأفكار والتنظيم والتطوير، فانتقلتُ إلى دكان أكبر وأكثر تطوراً، لقد زرع أبي وأمي الحرص في قلبي وروحي وعقلي وصار سلوكا لي، يرافقه حب العمل والحرص على تطويره، وهذا المول يا صديقي هو ثمرة مشروع الادّخار الذي بدأ في بداية حياتي، الفضل يعود لأمي وأبي وللادخار الذي تواصل عمرا كاملا، واليوم مع امتلاكي لهذا المول، أقوم بالادخار اليومي لأولادي وأعلمهم فائدة الادخار والحرص على التطور والابتكار.
شكرتُ صديقي على هذا الدرس، ورفعتُ يديّ ودعوتُ له بالرزق، وفكّرتُ أن أبدأ منذ اليوم بهذا المشروع لولدي الوحيد الذي يعيش معي!!.
اضف تعليق