الدكتاتوريات نجدها تنتعش فقط في المجتمعات ذات القصور الثقافي، وذات التبعية للآخر، في حين إن المجتمع الذي يتشبع بالحريات، وينهل هذه القيم من منبعها الأصل الأسرة، المدرسة، الجامعة، المنظمة، فإن المنهج الدكتاتوري سوف يعجز عن إخضاع مثل هذه المجتمعات المتنورة لمنطق التسلط وسلب الحريات...
الديكتاتورية يمكن أن تتجسد في بعض القيادات الثقافية، حين تلجأ إلى التشبث بمناصب قيادية في إدارة الثقافة، رسميا أو مدنيا، في الوزارات والمؤسسات والمنظمات التي تُعنى بالثقافة، أما الثقافة الدكتاتورية، في عبارة عن المرتكزات الفكرية والسلوكية التي تنمّي السلطة الفردية أو المؤسسية، فيُصبح المنهج التسلطي أو الدكتاتوري هو السائد في سلوك وتفكير الفرد والمجتمع.
في تعرف المختصين للديكتاتورية (باللاتينية: Dictatura) هي شكل من أشكال الحكم المطلق حيث تكون سلطات الحكم محصورة في شخص واحد، كالملكية أو مجموعة معينة كحزب سياسي أو ديكتاتورية عسكرية، وكلمة ديكتاتورية مشتقة من الفعل (لاتينية: dictātus ديكتاتوس) بمعنى يُملي أو يفرض أو يأمر، وللديكتاتورية أنواع حسب درجة القسوة أو التسلّط، فالأنظمة ذات المجتمعات المغلقة التي لا تسمح لأي أحزاب سياسية ولا أي نوع من المعارضة، وتعمل جاهدة لتنظيم كل مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية، وتضع معايير معينة للأخلاق وفق توجهات الحزب أو الفرد الحاكم، تسمى أنظمة شمولية مثل ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي والفاشية ويمكن اعتبارها نسخة متطرفة من السلطوية، حيث أن الأنظمة السلطوية لا تتحكم في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للبلد من الناحية النظرية على الأقل.
والأنظمة السلطوية بشكل أدق هي الأنظمة التي لا تحكم وفق أيديولوجية سياسية محددة، ودرجة الفساد فيها أعلى من تلك الشمولية. وللدكتاتورية أنماط عدة، منها الديكتاتورية الفردية وتكون بتسلط فرد على مقومات الدولة تسلطاً شاملاً، معتمداً على القوة العسكرية التي تتوافر لدى الدولة، ويقصد بالمقومات (الأرض، الثروة، الشعب، الحكم)، وغالباً ما يتصور الدكتاتور نفسه هنا بأن له صلة روحية بالله الذي يلهمه ما يجب أن يفعل، أو أنه يتصور نفسه أنه هو الإله، ولذا يحيط نفسه بهالة من الحصانة والعصمة.
وهناك نمط ثان هو الدكتاتورية الجماعية وتكون بتسلط جماعة على مقومات الدولة، وكلا النوعين السابقين يكون في الدولة ذات الطابع الملكي المطلق، أو الدولة ذات الطابع الجمهوري، وتختلف فيه الدولة الملكية عن الجمهورية بفرض قدسية الأسرة الحاكمة على الشعب وادعاء الحصانة المطلقة لها، والطبيعة الاجتماعية للدكتاتورية تظهر في المجتمعات المتخلفة والمتقدمة أيضاً، إلا أنه في المجتمعات المتخلفة يتحمل المجتمع أكبر قدر من صناعة ذلك الاستبداد نتيجة التقوقع الاجتماعي والتعصب العشائري والقبلي.
منْ يصنعُ الآخر، الثقافة أو الدكتاتورية؟
أما الثقافة فهي سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية، وتعدّ الثقافة مفهوما مركزيا في الأنثروبولوجيا، يشمل نطاق الظواهر التي تنتقل من خلال التعلم الاجتماعي في المجتمعات البشرية. بعض جوانب السلوك الإنساني، والممارسات الاجتماعية مثل الثقافة، والأشكال التعبيرية مثل الفن، الموسيقى، الطقوس، والتقنيات مثل استخدام الأدوات، الطبخ، المأوى والملابس، وهي بمثابة كليات ثقافية، توجد في جميع المجتمعات البشرية، كما أن مفهوم الثقافة المادية يغطي التعبيرات المادية للثقافة، مثل التكنولوجيا، والهندسة المعمارية والفن، في حين أن الجوانب غير المادية للثقافة مثل مبادئ التنظيم الاجتماعي (بما في ذلك ممارسات منظمة سياسية واجتماعية المؤسسات)، كالأساطير، الفلسفة، الأدب (على حد سواء المكتوب والشفوي)، والعلم يتكون من التراث الثقافي غير المادي للمجتمع.
هل الثقافة هي التي تصنع الدكتاتورية، أم الأخيرة هي التي تصنع الثقافة، في العلوم الإنسانية، كان الشعور بالثقافة بصفتها سمة للفرد هو الدرجة التي يزرعون بها مستوى معين من التطور في الفنون أو العلوم أو التعليم أو الأخلاق. كما ينظر أحيانا إلى مستوى التطور الثقافي على أنه يميز الحضارات عن المجتمعات الأقل تعقيدا، وتوجد أيضا وجهات نظر هرمية حول الثقافة في التمييز الطبقي بين الثقافة الرفيعة للنخبة الاجتماعية وبين الثقافة المتدنية أو الثقافة الشعبية أو الثقافة الفلكلورية للطبقات الدنيا، تتميز بالوصول إلى طبقة رأس المال الثقافي، والأخير يمكن أن تتحكم الأنظمة الدكتاتورية به، لكن في المجتمعات المتطورة، يكون رأس المال الثقافي هو المتحكم بطبيعة النظام وليس العكس.
وفي البحث والتقصي عمّن يسبق الآخر في قضية الفرض والتحكّم، فإن هذا يعود إلى بيئة المجتمع نفسه، وطبيعة حياته، فإذا كان النسيج المجتمعي متطورا واعيا ومثقفا، فسوف ينعكس ذلك على السياسة، وتظهر سطوة الثقافة بقوة، لأن البيئة الاجتماعية والفكرية تحتضن المثقف والسياسي والاقتصادي والمهني والكاسب البسيط.
لماذا نتشبث بالسلطة حتى النهاية؟
العناوين المذكورة في أعلاه كلها، وبمختلف مستويات التفكير والوعي لديها، تعيش في بيئة واحدة، تفرض عليهم جميعا بعض السلوكيات الجمعية المتشابهة بسبب التأثير المتبادَل بين الجميع، لذلك لا أرى فارقا نوعيا في السلوك، بسبب البيئة الحاضنة.
فالسياسي العراقي عبر عقود طويلة، تشبث بالمنصب والسلطة، وانتعش التملك إلى أقصاه، وبقيت قيادات البلد بنفس الوجوه طيلة حقبة الأنظمة الجمهورية أو الانقلابية، وكنّا نأمل بعد عام 2003 أن يسود الفكر والسلوك الديمقراطي في السياسة والاجتماع وسواهما، لكن ما حدث من استقتال على السلطة والمناصب، أرجأ تمنياتنا إلى المستقبل!.
حتى المثقفين بعد تغيير النظام الشمولي لم يسلموا من عاهة التمسك بالمنصب، وحين تحاججهم سوف ينبرون لك بالقول (إنها نتائج الانتخابات!!)، وهكذا يتشابه نموذج المثقف مع النماذج العراقية الأخرى في هذه الخاصيّة، والسبب يُعزى إلى ثقافة المجتمع العراقي، وقيمه وأعرافه وطريقة تفكيره ونظرته للحياة وتفاصيلها.
الجميع يتصوّر إن التميّز الشخصي يصنعه (المنصب، والمال، السلطة، والنفوذ)، وهو تصوَّر ليس وليد الصدفة، إنما هو مصنوع تراكمياً، من بيئة اجتماعية ثقافية عرفية متجذّرة، لهذا يمكن أن نستخلص ما فحواه ومفاده، إن الثقافة سباقة في الهيمنة السلوكية للسياسي أو غيره، فإنْ كان المجتمع مشبعا بثقافة حرية الرأي والاختيار والانتخاب، لا يمكن للدكتاتورية السياسية أن تمنعه عن ذلك.
الدكتاتوريات نجدها تنتعش فقط في المجتمعات ذات القصور الثقافي، وذات التبعية للآخر، في حين إن المجتمع الذي يتشبع بالحريات، وينهل هذه القيم من منبعها الأصل (الأسرة، المدرسة، الجامعة، المنظمة)، فإن المنهج الدكتاتوري سوف يعجز عن إخضاع مثل هذه المجتمعات المتنورة لمنطق التسلط وسلب الحريات، على العكس من ذلك حين تضمحل ثقافة حرية الرأي والاختيار والانتخاب، سوف تسود النزعة التسلطيّة.
بالنتيجة نعم هنالك نوع من الترابط الوثيق بين الطبيعة الثقافية والسلوكية والفكرية للفرد، وهذه الجدلية بدورها سوف تنعكس على طبيعة النظام السياسي، هل سيكون ديمقراطيا أم دكتاتوريا، في العراق كما يتجلّى الواقع يوما بعد آخر، هناك سعي لتفوق ثقافة الحريات على التسلّط، ولكن توجد عوائق كبيرة تقف بالمرصاد، ليس أمام العراقيين سوى عبورها أو تذليل مصاعبها أو تجاوزها.
في المشهد الاجتماعي الثقافي السياسي العراقي أيضا، هناك توالد مستمر للعقبات التي تسعى لإعاقة المنهج الحر الديمقراطي، لكن ما يثلج الصدر أيضا، هناك إصرار على تفتيت هذه العقبات، وإصرار على عبورها، وتشبث بالمنهج الذي تنتجه ثقافة الديمقراطية، وحرمان الدكتاتورية من صناعة الثقافة التي تخدم أهدافها.
هل نجح العراقيون في صنع ثقافة كابحة للدكتاتورية؟، من الصعب البتّ في ذلك، ولكن ما يُحسب للعراقيين إنهم يسعون (رغم المصاعب الجمّة)، إلى صناعة ديمقراطيتهم الكابحة للدكتاتورية، وإن تطلّب ذلك تضحيات، وبطء في توطين المنهج الحر الديمقراطي في العراق.
اضف تعليق