q
هربتُ من السوق أو بالأحرى من فوضى المكان، وأوساخه، وضجيجه، دون أن أشتري أي شيء، في طريق عودتي إلى البيت خاليا من الخضرة والفواكه، رأيت محلّاً جديدا لم أره من قبل، يقع على ساحة كبيرة، واجهته جميلة جدا، يعرض أنواع الفواكه والخضر خلف زجاج شفاف نظيف...

منذ سنوات لم أدخل سوقا للخضروات، فقد اكتفيت بأولادي الذي قاموا بهذه المهمة بدلا عنّي، قبل عيد الفطر بيوم صارت مهمة التسوق للبيت على عاتقي، حين دخلت سوقا كبيرة لبيع الخضراوات والأسماك، أصبتُ بالدوار، كأنني أدخل مكانا غريبا يملأه الضجيج والفوضى، جميع محالّ الباعة يضعون مكبرات صوت تعلن عن أسعار الخضار والفواكه المعروضة، الأصوات حادة ومؤذية ومتداخلة مع بعضها، مما يجعل الناس في دهشة من هذا السباق الصوتي العجيب للأسعار!.

ليس الأصوات التي تطلقها مكبرات الصوت هي الوحيدة التي تزعج المتسوقين، هناك الفوضى وعدم النظام في محال البيع، بالإضافة إلى المزابل التي تحيط بها، لتصبح حاضنات جيدة لأسراب الذباب الذي يضيف أزيزه صوتاً آخر، يساعد مكبرات الصوت على مضاعفة الضجيج والفوضى والتقزز.

وقفتُ عند أحد المحال، حاولت أنْ أركّز على ما يطلقه مكبّر الصوت من أسعار، ثم بدأتُ بتقليب الطماطم التي كانت على نوعين، كوم من الطماطم الجيدة الريانة والنظيفة، وكوم آخر أقل جودة بكثير، سألتُ صاحب المحل البقال: كم سعر كيلو الطماطم؟، فقال: الكيلو ألف دينار.

وحين قلت له إن مكبّر الصوت يقول غير ذلك، أنت تعرض الطماطم بملغ 500 دينار للكيلو الواحد وليس ألف دينار؟، أشار لي البقال بيده على كوم الطماطم الرديء، وقال يمكنك أن تأخذ من هذا النوع بمبلغ 500، قلت له: لكن هذا احتيال!، فقال: حجي الكيلو الزين بـ 1000 دينار واذا ما يعجبك اشتري من غيري.

هذا النوع من التعامل يسري على جميع الخضر والفواكه، يعلن لك سعرا في مكبر الصوت، ويبيعك بسعر آخر، ولا أظن أنني أغالي إذا قلت هذا نوع من الاحتيال الذي لا يقبل اللبس، هذه الفوضى في الأصوات والأسعار والقذارة التي تحيط بمحال السوق كلها تقريبا، تعطينا إشارة واضحة عن الفوضى الشاملة التي نعيشها في العراق.

آلاف المحال التي تنتشر على جوانب الطرق، في مركز المدينة، وفي الأحياء السكنية، مظهر فوضوي بامتياز، يشي بعدم التنظيم، ويسيء إلى جمالية المدينة العراقية، الأرصفة أيضا تعج بمحال الخضار والفواكه والأسماك والدجاج، كأننا شعب لا يملّ ولا يكلّ من الشراء والاستهلاك.

رأيت موظف بلدية يجبي مبالغ معينة من البقالين، سألته: لماذا لا تبنون أسواقا نظامية للباعة، لماذا لا تمنعون هذا الانتشار المخيف للمحال والأسواق فوق الأرصفة، لماذا لا تمنعون الباعة من اعتماد مكبرات الصوت لإعلان الأسعار، لماذا لا تطلبون من الباعة العودة إلى عرض الأسعار في ورق مقوّى ووضع السعر على نوع الفاكهة أو الخضرة، هذه الطريقة حضارية، ولا تزيد من الضجيج الذي يصمّ الأسماع.

حين سمع موظف البلدية سيل أسئلتي، لم يجبني بكلمة، نظر في وجهي باستغراب، كأنني أتكلم معه بلغة أجنبية ولم يفهمني، ابتعد الموظف مواصلا جباية مبالغ معينة من أصحاب المحال، وسط ضجيج هائل مكرر، لأن الأسعار مسجلة في أجهزة تسجيل وتُعاد فيها نفس الكلمات ونفس الأسعار، في تداخل عجيب غريب، أظن أنه غير موجود في أي دولة بالعالم باستثناء العراق.

هربتُ من السوق أو بالأحرى من فوضى المكان، وأوساخه، وضجيجه، دون أن أشتري أي شيء، في طريق عودتي إلى البيت خاليا من الخضرة والفواكه، رأيت محلّاً جديدا لم أره من قبل، يقع على ساحة كبيرة، واجهته جميلة جدا، يعرض أنواع الفواكه والخضر خلف زجاج شفاف نظيف.

أغمضتُ عينيّ وفتحتهما، كأنني في حلم، المحل نظيف جدا، لا صوت مكبّر، قطع صغيرة من أوراق بيضاء مكتوب عليها الأسعار بوضوح، نوع الفاكهة أو الخضرة واحد في جودته، ليست هناك أكوام متباينة في الجودة، ولا تباين في الأسعار، دخلت المحل، كان التكييف مذهلا، وأرض المحل من المرمر، وجدرانه من السيراميك، والمذهل تلك اللوحات الفنية الرائعة التي توزّعت على جدرانه، كأنني دخلت إلى غاليري، أو غرفة استقبال مدهشة، لا صوت، لا ضجيج، لا أوساخ، لا احتيال في الأسعار، محل تسوق نموذجي تمنيت أن يسود جميع أسواقنا.

حاولت الدخول لمحل الخضار النموذجي الذي صنعته في خيالي كي أتزوّد منه بما احتاجه للبيت، لكنني لم أستطع، فقد أيقظني من حلمي السريع صوت مكّبر مزّق طبلة أذني، وأعادني إلى فوضى أسواقنا وشوارعنا وحياتنا التي لابد أن تتغير من الفوضى إلى النظام!!.

اضف تعليق