الحوار هو لغة التفاهم الإنساني، فعبر الحوار يستطيع البشر أن يوصلوا للآخرين أفكارهم ومعتقداتهم، بالإقناع والتفهم والاحترام، وهذه هي القاعدة الأساسية التي يتفق عليها العقل البشري وعقلاء الأمم، ومع انقطاع الحوار تبرز التقاطعات البشرية كحقيقة ترتهنها النفوس الضيقة، كوسيلة لإيجاد حالة الصدام، وإثبات تسلطها وطغيانها...
الحوار هو لغة التفاهم الإنساني، فعبر الحوار يستطيع البشر أن يوصلوا للآخرين أفكارهم ومعتقداتهم، بالإقناع والتفهم والاحترام، وهذه هي القاعدة الأساسية التي يتفق عليها العقل البشري وعقلاء الأمم، ومع انقطاع الحوار تبرز التقاطعات البشرية كحقيقة ترتهنها النفوس الضيقة، كوسيلة لإيجاد حالة الصدام، وإثبات تسلطها وطغيانها على الآخرين.
فالملاحظ أن معظم الصراعات البشرية والحروب الدامية ما هي إلا نتيجة لانقطاع قنوات الحوار، وحلول اسلحة الصدام التي تتكلم بلغة واحدة غايتها تحطيم الآخر مهما كان الثمن؛ ففي عالم اليوم يبدو أن الصراع والتناحر صناعة آخذة في النمو فالأطراف المتناحرة تريد أن تأخذ قرارات مشتركة تؤثر في عملية صنع القرار، وغالبية البشر ترفض أن تملى عليها القرارات والخطوات(1).
إذ يصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة في حالة الصدام لحل المشاكل المترتبة على اختلاف الأفكار وتناقض المصالح؛ فعدم وجود الحوار المنفتح يؤدي بالتأكيد إلى الصدام، وهما حالتان لا يخلو الأمر من إحداهما، فالالتحام الإنساني في الفكر، واختلاف المصالح، واتصال المعرفة، يؤدي إلى وجود تثاقف وتواصل حتمي بين الجماعات والمجتمعات والحضارات، وهذا الاحتكاك الشديد - خصوصاً في زمن الثورة المعلوماتية - يستلزم بلورة الحوار وفتح آفاق التفاهم والتعايش، وإلا فإن الصراع منفجر حتماً، لأن الصراع في جوهره هو اصطدام إرادتين مصممتين على خوض الصراع حتى نهايته وتصفية الآخر(2).
لا يمكن أن نتجاوز ظاهرة العنف التي تمزق روح الأمة، إلا بالاعتماد على الحوار كلغة خطاب استراتيجية تفتح حالة التفاهم بشكلها الواسع على الجميع؛ فسوء الفهم والتباعد بين الأفكار وحالة الجفاء والعيش في جزر منفصلة عن الآخرين، هي عناصر أساسية لسوء الظن بالآخرين وبالتالي التصادم معهم بعنف؛ ومن هنا فإن الإصرار على مبدأ الحوار - حتى لو رفض الطرف الآخر - وعدم التراجع عن مبدأ المبادئ كلها (الحوار)، والثبات عليه، وإن كلّف الاستشهاد في سبيله، هو الذي يفتح الطريق لحل مشكلة العنف؛ لأن وجود هذه البذرة الخبيثة ولو في عالم الأفكار، يقود في النهاية إلى النزاع المادي؛ لأن الحروب تنشأ أولا في عقول الناس قبل وزارات الدفاع والثكنات العسكرية(3).
وفي كثير من الأحيان يعبر العنف عن حالة الضعف التي يعيشها مستخدمه، إذ يعجز عن استخدام لغة الحوار مع الآخر، لعدم فهمه لهذه اللغة خصوصا إذا عاش في أوساط منغلقة يلفها جو الاستبداد وتسلط الرأي الواحد، أو كونه لا يمتلك قوة المنطق في إقناع الآخرين؛ لفقدانه المعرفة اللازمة للحوار، ويمكن مشاهدة ذلك جليا في الحوارات اليومية التي يعيشها الناس؛ إذ يلجأ بعض الخصوم لرفع أصواتهم أو استعمال أيديهم أو إرهاب محاوريهم.
وهناك قصة صينية تعبر عن ذلك، مفادها أنه كان هناك اثنان من الصينيين يتشاجران وسط الزحام بالكلمات، وعندما مرّ أحد الأجانب على هذا المشهد عبر عن دهشته: إن الأمر لم يتعد الكلمات وكان لأحدهما أن يبدأ في ضرب الآخر لحسم الأمر ولكن جاءته إجابة من صديقه الصيني بالمبدأ الصيني القائل: (إن الذي يضرب أولاً كأنه يعترف بأن أفكاره ضعيفة ولم تصمد أمام أفكار الآخر)(4).
ويعبر اختيار الإنسان أو الجماعة للحوار في التعامل مع الآخرين عن قوة وقدرة على التواصل بإيمان وثقة دون خوف من أفكار الآخرين؛ فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (إن الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق له). وعن أمير المؤمنين علي (ع) أنه قال: (عليك بالرفق فانه مفتاح الصواب وسجية أولي الألباب.. ارفق توفق.. لن لمن غالظك فانه يوشك أن يلين لك.. من استعمل الرفق لان له الشديد).
فالتمسك بالحوار هو تعبير عن إدراك الفرد لهذه الثقافة الإنسانية التي تتوافق مع طبيعة الإنسان وغايته الوجودية، وتعبير عن قوة أفكاره ودلائله الشرعية والعقلية وقد أوصى أمير المؤمنين علي (ع) ولده الحسين(ع) قائلاً: (يا بني رأس العلم الرفق وآفته الخرق) (5).
إن أي مجتمع أو أمة إنما يصنع كل منهما ثقافته بقصد نفع نفسه، وليس بقصد الإضرار بالآخرين؛ بمعنى أن الثقافة السليمة الراشدة إنما هي في الأساس فعل يقصد به تحقيق مصلحة حياتية وحضارية للمجتمع وليست رد فعل عدواني(6).
بل إن الحوار مع الآخر يستهدف أساسا الانتفاع الذاتي معرفياً ومادياً؛ فالعدوان تجاه الآخر هو إضرار بالذات، وقطع الحوار هو حجب النور عن الواقع لرؤية الذات وفهم افكارها.
اضف تعليق