اتفق معظم من كتب عن المفكر الاسلامي الشهيد السيد حسن الشيرازي –إن لم نقل جميعهم- على أنه شهيد الكلمة... ولما تمرّس عليه من صنوف وأشكال هذه الكلمة، من الشعر والكتابة والخطابة والمواقف الحازمة، وبلغ خطوط النار في المواجهة الحضارية الكبرى، فانه جديرٌ بأن يحمّل المثقفين على مر الاجيال، رسالة الكلمة الصادقة والمسؤولة التي يفترض انهم يتمرّسون عليها طيلة مشوارهم الثقافي، سواءً من كان شاعراً او قاصّاً او خطيباً او كاتباً او حتى عالم دين. ذلك أن هؤلاء – وربما نكون منهم- قد بلغوا مستوى راق من النضوج الثقافي يمكنهم من إسقاط التأثيرات الثقافية على المنظومة الثقافية الموجودة في أرجاء المجتمع، بما يحتاجه الصغير والكبير والرجل والمرأة، من ملء لفراغ في السلوك والعادات والتاريخ ونمط التفكير. كل ذلك يضفي أهمية كبيرة على هذه الرسالة، لأهمية وخطورة الدور الذي يضطلع به المثقفون، وايضاً للثمن الكبير الذي قدمه الشهيد الشيرازي لهذا الدور الرسالي والحضاري.
فمادامت القضية تمثل شكلاً من اشكال العلاقة المتبادلة بين جانبين: المثقف والجماهير؛ الكاتب والقارئ او المتلقي، وأن هناك حرصاً واضحاً على الظهور على صفحات الكتب والمطبوعات، وحديثاً على مواقع النت والتواصل الاجتماعي، فان شهيدنا الشيرازي ينبه الى نقطة غاية في الاهمية والحساسية في عديد مؤلفاته، وهي ضرورة كبح جماح الذاتية وتطويعها لخدمة الجمهور والقيم السامية والقضايا الكبرى. وطالما أكد على أن المثقف اذا شعر يوماً بحجمه الكبير، سواءً في شعره او رواياته او خطاباته او كتاباته ومختلف نتاجاته، عليه في الوقت نفسه التحقق من عمق الإيمان وسعة الرؤية وعمق التفكير، فان عمقه وسعة رؤيته هي التي تحقق له حجمه ومكانته في المجتمع والامة. وهذا ما أشار اليه في كتبه الأدبية مثل "الأدب الموجه" و "العمل الأدبي"، وايضاً في كتبه الدينية منها "كلمة الله"، وتحديداً في المقدمة الثرية والقيّمة التي بحق يفترض ان تتحول الى كرّاس او كتاب مستقل تُبحث فيه رؤية الشهيد حول العلاقة بين المثقف بشكل خاص، وعامة افراد المجتمع بشكل عام، وبين السماء. بين ما يفكر ويريده الانسان لنفسه، وما يريده الله – تعالى- لهذا الانسان.
في هذه الرسالة دعوة مفتوحة بأعذب الكلمات وأرق التعبيرات، الى النفوس والقلوب لأن تسمو وترتفع الى حيث تحمّل المسؤولية والتفكير بالبناء الثقافي في المجتمع بعد مرحلة البناء الذاتي وتنمية المواهب. علماً ان الشهيد يقرّ بحقيقة نفسية لدى كل انسان – بمن فيهم المثقف- بان "أي كتاب يقرأه يحب أن يكون صورة مشجعة لهم، كما هم، وبكل ما هم عليه من افكار وعواطف نحو الخير او الشر"، ثم يتطرق الى التوجه الخاص بأن ثمة اشخاصاً "عندما يقرأون كتباً دينية يرغبون في ان يجدوه تبريراً يشهروا منه سلاحاً ماضياً على ضمائرهم ومجتمعاتهم التي تؤنبهم على كل انحراف..." .
صحيح؛ ان الساحة تشهد نشاطات ثقافية متنوعة ومكثفة، حيث تعقد الندوات والمؤتمرات ويُكرم الأدباء والمثقفون والكتاب، وتقام المعارض وتشيّد المكتبات وغيرها من أشكال الحراك الثقافي، بيد أن "العبرة بالنتائج"، حيث المطلوب معرفة حجم التأثير والاستجابة على الصعيد الجماهيري، لنتصور مسرحاً ضخماً لكنه خالٍ من الحضور، فهل يوافق الممثلون على تقديم العرض أمام مقاعد فارغة؟!
لذا فان شهيدنا الغالي ينبهنا الى أمرين –من جملة أمور- في هذه الرسالة، ربما تكون العقبة، او لنقل الشرنقة – إن صحّ التعبير- أمام فسحة الثقافة والمعرفة بكل ما حول الانسان في هذه الحياة، من امور مادية ومعنوية، وعنه هو ايضاً كموجود ضمن الموجودات في هذه الحياة:
الاول: الانسان كما ينبغي لا كما هو عليه
هذه القاعدة ليست من ابتكارات وابداعات السيد الشهيد، بقدر ما هي من اسقاطاته الروحية والايمانية في مقدمة "كلمة الله"، فهو يخاطب بكل صراحة وشفافية، كل من يتناول النصوص الدينية، سواءً القرآن الكريم او نهج البلاغة او الاحاديث الشريفة، او حتى سيرة المعصومين، عليه السلام، بان لا يكون كالذي "يحلو له ان يكون من الملتزمين، يأخذون من الكتاب كلمة توحي بما هم عليه، ويهملون الكلمات التي توحي بما ليسوا عليه...". وهذا ما ساقه لنا "الفلاسفة المسلمون" مثل الفارابي، الذي نُقل عنه: "ليس بالامكان أفضل مما كان"، ثم تم طبخ المقولة لتتحول الى قاعدة فكرية ينطلق منها الكثير في كتاباتهم الى حيث القارئ والمتلقي. فلا حاجة – إذن- للتغيير، اذ لا ضمانات لتحقيق الافضل، فضلاً عن ان الأسوء ربما هو القادم، وهذا ما يسمع اليوم من الشريحة المثقفة. وهذا تحديداً ما جعل الأدب، متعة ذهنية، والتنظير، ترف فكري، مهما حمل من افكار ودلالات وعبر، لان الكاتب (المثقف) يوحي – احياناً- في نتاجه بأنه لن يزاحم أي فرد في المجتمع على سلوكه وعاداته ومعظم متبنياته ومنظومته الثقافية، لانه هو بالذات اقفل على نفسه باب التغيير والتقويم، فكيف يفتح على الناس هذا الباب؟!
أما النتيجة التي يلاحظها الجميع، فهي إعطاء جلّ الاهتمام الى الإطراء والتكريم والمديح، والصفة قبل الاسم، والجلوس في المقاعد الاولى و... الى آخر القائمة.
الثاني: المثقف في مدرسة الحياة لا الذات
هنا يصارحنا الشهيد الشيرازي مرة ثانية بأن التفوق والنجاح في الحياة، لمن يتواضع لحقائق الحياة وللقيم والمبادئ السامية، فيكون كالنبتة الصغيرة، كلما تواضعت في التربة وأمدت جذورها في الارض، وجدت عناصر الحياة والنمو اكثر، والعكس بالعكس قطعاً.
فالبعض، ورغم ما ينشده ويدعو اليه بصوت عال، من افكار وطروحات يقول انها تخدم المجتمع والامة، إلا انه لن يجد الطريق نحو تحقيق كل ذلك على ارض الواقع، ما دام بعيداً عن مدرسة الحياة ولم يشعر بانه "جزء من مجموعة كبيرة، هي بدورها خاضعة لمجموعة اكبر من القوى والمقاييس الفكرية والطبيعية التي يجريها الله وفق حكمة بالغة الدقة. وانحسار الايمان العملية ترك فراغاً متعطشاً استغلته الافكار المتمردة التي تملي بشعور عفوي على بان الفرد اكبر مما هو ومن واقعه... في حين يفترض ان يتلقّى ويتجاوب اكثر مما عليه أن يرفض ويتمرد، فعليه ان يكون على اتمّ الاستعداد لالتقاط ما يفتقر اليه وتصحيح خُطئ منه من قبل".
بالمحصلة؛ نفهم أن الشهيد الشيرازي، الذي عُرف بمقارعته الظلم والطغيان والانحراف، متمثلاً بالحكام والتيارات الفكرية الوافدة، واهتمامه البالغ بالبناء الثقافي والفكري للمجتمع، فانه اضافة الى كل ذلك يحرص على وجود شريحة تواكب الاجيال أبداً، تتسم بعمق التفكير وسعة الرؤية والتكاملية مع حقائق الحياة وسنن الله. وبكلمة؛ أن يكون المثقف انساناً حيوياً، نابضاً، يمنح الحياة والسمو للآخرين، ويكون كالشمعة التي يستنير بها من حوله، كما حاول الشهيد نفسه ان يكون كذلك، ونجح بامتياز، فكان الاسم والعلم الذي يشار اليه بالبنان، رغم مرور 35عاماً على رحيله المفجع، وإني اجدني ملزماً بالاعتذار للشهيد الكبير وللقراء الكرام، على التأخير في تقديم هذه السطور المتواضعة في ذكراه، ارجو ان نكون في الطريق الذي سار عليه علّنا ان نفلح في الدنيا والآخرة.
اضف تعليق