في العراق تجاورَتْ المركزية واللامركزية داخل النظام السياسي في وقت واحد، فقد حصل إقليم كردستان على الحكم الذاتي في مطلع السبعينيات لكن الوضع بقيَ شكليا، أي أن مركزية السلطة ظلّت قائمة، حتى حرب الخليج الثانية في 1991 حيث خرجت المحافظات الشمالية عن النظام المركزي بالقوة...
تعد المركزية من أخطر الأمراض الإدارية التي تصيب الأنظمة السياسية، وينسحب ذلك على إدارة المنظمات أيضا، فالمركزية هي أسلوب إداري يؤدي إلى تجميع السلطات بيد عدد محدود من الأفراد في المنظمة أو الحكومة، وقد يتم تركيز السلطات والصلاحيات كافة في شخص الحاكم بلا حدود، هنا سوف تظهر العيوب الفادحة للمركزية حين يتم اختصار دولة وشعب كامل في شخص القائد وعقله وأمراضه النفسية المزمنة.
أما معنى المركزية على مستوى الإدارة العامة فهي أسلوب من أساليب نشاط الدولة يؤدي إلى تجميع الأمور الإدارية بيد الوزير والعاملين معه، مع عدم استقلال الوحدات الإدارية في مجال اتخاذ القرارات الإدارية منها بعيداً عن السلطة المركزية في الأقاليم ببعض النشاطات الإدارية حسب توجيهات الحكومة المركزية، وبناءً على ذلك فإن الدولة ممثلة بجهازها الإداري في المركز وفروعه خارج المركز تقوم بمباشرة نشاطاتها وتقديم خدماتها إلى المواطنين كافة من دون استثناء في بقاع الدولة كافة، عن طريق موظفيها الذين يتم تعيينهم من قبلها للقيام بمختلف أوجه النشاطات، وهؤلاء الموظفون يخضعون في ممارستهم تلك الوظائف لرقابة وتوجيه الجهة الأعلى في السلم الإداري.
أما مفهوم اللامركزية فهي تنظيم إداري يعتبر واحداً من أهم مبادئ حكم الأكثرية التي تقوم عليها الديمقراطية، وهي نقيض مفهوم المركزية، وهي عملية توزيع الوظائف، والسلطات، والأشخاص أو الأشياء بعيدا عن موقع مركزي أو سلطة أحادية، وفي حين ان المركزية لاسيما في المجال الحكومي، تجري دراستها وممارستها على نطاق واسع، فإنه لا يوجد تعريف أو فهم مشترك للامركزية، وقد يتباين معناها جزئيا بسبب اختلاف الطرق التي تطبق بها.
وقد استخدمت كلمه "المركزية" في فرنسا في 1794 حيث ان قياده الثورة الفرنسية أنشأت هيكلا حكوميا جديدا، ودخلت كلمه "اللامركزية" حيز الاستخدام في1820"، أما المركزية" فدخلت حيز الاستخدام في الثلث الأول من 1800، ويذكر أيضا أن اللامركزية ظهرت لأول مرة في منتصف القرن التاسع عشر.
مشكلات الحكم المركزي
في العراق تجاورَتْ المركزية واللامركزية داخل النظام السياسي في وقت واحد، فقد حصل إقليم كردستان على الحكم الذاتي في مطلع السبعينيات لكن الوضع بقيَ شكليا، أي أن مركزية السلطة ظلّت قائمة، حتى حرب الخليج الثانية في 1991 حيث خرجت المحافظات الشمالية عن النظام المركزي بالقوة كما هو معروف، وتمتعت أربيل وسليمانية ودهوك بحكم منفصل عن الحكم المركزي.
هناك مشكلات كبيرة تلازم الحكم المركزي، وعكس ذلك تماما تظهر محاسن كثيرة وكبيرة بانتهاج الحكم اللامركزي، من أخطر تلك المشكلات (المركزية) جمع السلطات في بوتقة واحدة وتركيزها لدى شخص القائد الأعلى، فيتم ضرب الدستور وإنْ كان مؤقتا، وبهذا لا يخضع الحاكم الفرد لأية سلطة تحد من قراراته التي تنتج عن عقلية معقدة مدعومة بإطار نفسي مريض، وهكذا يكون الشعب كله وسياسة الدولة بأكملها تحت رحمة عقل (قيادي فردي) مريض وفي الغالب يكون مصاب بالجهل والتخلف وانعدام الرؤية المستقبلية الثاقبة.
وهذا ما حدث في العراق إبان الحكومات الفردية العسكرية الانقلابية، حيث عانت محافظات الشمال والجنوب وحتى الوسط من فقر في العمران والخدمات وتخلف في الأداء والنمو، نظرا لمركزية القرارات المجحفة، وترهلت المرافق والدوائر الحكومية، وانتشر الفساد والضعف في الأداء، وظهرت قيم بائسة في المجتمع، خلخلت النسيج المجتمعي، ونبتت حالات الاختلاس والرشا والمحسوبية في السلوك العام وصارت مقبولة لدى الجميع وصنعت قاعدة جذرية لبقاء هذه القيم حتى الآن، لذلك لازلنا نعيش المشكلات ذاتها وإن صرنا نحاول أن نعتمد اللامركزية في إدارة الدولة.
ويمكن أن نعزو أسباب المشكلات التي يعاني منها العراق سابقا ولاحقا إلى الأمراض التي غرسها النظام المركزي في الدولة والمجتمع، فالتبعية للمركز دائما تجرّد الأطرف من القدرة على الإبداع والتطوّر لأنها تكبّل العقول بعقل مركزي واحد، وحين تسعى العقول الأدنى إلى التطوير والتميز، يتصدى لها العقل الحاكم (وإن كان أدنى منها فهما ورؤية وابتكارا)، فيقمعها ويحجّم دورها وقدراتها، وتعود القهقرى وتنأى بنفسها عن أية رغبة أو محاولة في الابتكار والتطور الفكري أو المادي.
من فوائد اللامركزية أنها تمنح الأطراف (المحافظات وتوابعها) فرصا غير محدودة للبناء والتغيير، وذلك من خلال منحها الصلاحيات اللازمة للتطوير العمراني وحتى العلمي أو الخدمي، ففي زيارة لي قبل أيام إلى أربيل التي تقع شمال العراق، رأيت من العمران والشوارع الكبيرة وتكنولوجيا المرور الحديثة والمجمعات السكنية الكبيرة ما لم أره حتى في بغداد، يُضاف إلى ذلك حضارية التعامل والسلوك من عامة الناس، حيث انعكس التطور العمراني والرفاهية النسبية على طريقة التعامل مع القادمين إلى هذه المدينة للسياحة أو العلاج أو العمل وسواه.
اللامركزية وصناعة القرار
هذه التجربة التي مررنا بها في عجالة لضيق المساحة، من الممكن أن تتكرر في جميع محافظات ومدن العراق فيما لو ساد النظام اللامركزي في الإدارة، ومن الممكن جدا أن يستفيد الجميع من هذه التجربة (في أربيل) بعيدا عن (التناقضات والمماحكات السياسية) التي تأتي على شكل مزايدات لا طائل من ورائها، لأن المطلوب اليوم في جميع المحافظات العراقية هو النظام الإداري اللامركزي للسلطة وصناعة القرار، ولكن هنالك شروط معروفة لتسليم الصلاحيات إلى الحكومات المحلية وأولها أن توضع (الميزانيات المالية) المخصصة للمحافظات بأيدٍ أمينة وأن تحمى بقوة قانونية دستورية رادعة من ذوي النفوس المريضة.
إذاً فالفارق بين النظام المركزي واللامركزي كبير وملموس لمس اليد والعين والعقل، والأخير هو الذي يبني البلدان والشعوب معاً ضمن اشتراطات يمكن تحقيقها عبر خطوات مهمة ينبغي أن تأخذ بها الحكومات المحلية والجهات المختصة، من هذه الخطوات:
- أن تتفق الطبقة السياسية عن قناعة بأن النظام المركزي خطر كبير لا يزال يحدق بالعراق والعراقيين، لهذا ينبغي عدم العودة إليه في أي حال.
- الاتفاق في الخطوة الأولى أعلاه لا يتم بالكلام أو التوافق الشفوي وإنما يجب أن يتم عمليا قانونيا دستوريا.
- اعتماد اللامركزية تستدعي دعائم عدة، أولها الدستور والقانون ومن ثم الثقافة الاجتماعية والسياسية التي تحسم الميول إلى هذا النظام حصرا.
- منح السلطات التنفيذية المحلية ما يكفي من الصلاحيات المستقلة، وعدم تكبيلها بنظام بيروقراطي مركزي يحد من أدائها في تنفيذ المشاريع والخطط التنموية المحلية الآنية وبعيدة المدى.
- نشر الثقافة اللامركزية في الأسرة والمدرسة وأماكن العمل والشوارع العامة من خلال اللافتات والشعارات التي تقترن بالأداء الفعلي.
- توظيف الجهد الإعلامي اللازم لجعل المركزية منبوذة جماهيريا وإداريا.
- ليس هناك بأسا من إقامة زيارات ميدانية إلى المحافظات التي استفادت من اللامركزية في تطوير مدنها ماديا (عمرانيا) وفكريا (حضاريا).
- سن التشريعات والقوانين الواضحة لرفع السيطرة المركزية عن كاهل المحافظات.
- إزاحة أو إبطال جميع القوانين التي لم تعد مناسبة للعمل بها اليوم إذا كانت تتعارض مع النظام والمنهج اللامركزي.
اضف تعليق