التاريخ هو مجموعة من التحديات والصراعات والتطورات تنتهي ببقاء الاصلح والأقدر على التغلب على المصاعب الطبيعية والتاريخية. لذلك فان الأمم مثل الرجال تنبعث من أعماقها فتعثر على قوامها لتواجه مصيرها وتختار طريقها وتحقق إرادتها. ولكي لا نبقى من الأمم التي تذبح يوميا في مسالخ الوهن...
لا يمكن للانفتاح السلبي إلا ان يؤدي إلى ذوبان وانصهار مطلق في آلة المعلومات الغربية كما ان القطيعة الكاملة لا تعني إلا تجاوزاً لكثير من المقتضيات والدواعي التعليمية والنفسية والاجتماعية، وقد يكون أفضل الحلول هو المواجهة الإيجابية التي ترتكز على الانفتاح المبني على التحصين الذاتي والاستعداد الذاتي والمناعة الداخلية وهي عملية صعبة تحتاج إلى كثير من الوعي والتنظيم والعمل الجاد.
لم يكن المقصود من بحث المعلوماتية هو التركيز على طرح الجانب السلبي لهذه الظاهرة بصورة متشائمة تدعو للقطيعة التامة، بل كان المقصود هو التنبيه المؤكد لخطورة التحديات التي تواجهنا، حيث لا يمكن لنا ان نتحرك إيجابيا ما لم تستنهضنا الأخطار التي تهب علينا من مختلف الجهات.
وليس الخطر فقط في وجود هذه الأعاصير التي تعصف بقوة في أساسياتنا محاولة قلعنا من جذورنا، بل الخطر الاكبر هو في كيفية استجابتنا لهذه التحديات ووعينا لحقيقة ما يمر علينا، اذ ان التاريخ هو مجموعة من التحديات والصراعات والتطورات تنتهي ببقاء الاصلح والأقدر على التغلب على المصاعب الطبيعية والتاريخية. لذلك فان الأمم مثل الرجال تنبعث من أعماقها فتعثر على قوامها لتواجه مصيرها وتختار طريقها وتحقق إرادتها.
ولكي لا نبقى من الأمم التي تذبح يوميا في مسالخ الوهن والاستغلال بعد ان تصبح راكنة راكدة كالحمل الوديع الذي استسلم لقدره، لابد ان نعرف ان الأعاصير سوف لاترحم والجزار لايحن وحركة الحياة لن تتوقف، بل ان الحقيقة الحاكمة هي صراع الارادات وحرب العقول ومعركة الافكار والمنتصر هو الذي استطاع بوعيه وقراءته الصحيحة لقوانين الحرب والصراع ان يستثمر الوقائع لصالحه.
وحتى الآن فنحن لازلنا الطرف الاضعف في هذه المعركة مع وجود كافة القابليات الذاتية التي يمكن ان تقودنا لنكون الافضل، ولكن عندما يتهلهل الوعي وتخور العزائم وتتهمش العقول وتهتاج الافكار تصبح قابلياتنا دفينة في اعماقنا تنتظر فيه اليوم الذي تتحقق فيه الشروط والاستعدادات. كل ذلك يقودنا إلى ان مشكلتنا هي في نوعية استجابتنا لتحدي المعلوماتية وقدرتنا على قراءة هذا الأمر والوصول إلى فهم متبصر لإدارته واستيعابه، اذ ان الحقيقة الاساسية التي نكتشفها اليوم ان السلبيات التي تكتنه هذه الظاهرة هي في الواقع من نتاج الرأسمالية وولادتها ولكن بشكل اكثر تركيزا وضررا.
فاذن ليست هي بالأمر الغريب ولكن الغريب هو كيفية تعاملنا مع هذه الظاهرة فمثلا عندما نرى الوضع الذي يحدث في الأراضي المحتلة في فلسطين عندما يتحول الجزار الاسرائيلي إلى ضحية والضحية إلى جلاد عبر الأدوات المعلوماتية التي يمتلكها العدو فيعكس للعالم الحقائق بصورة مغايرة، نفهم أننا بعيدون عن فهم التحديات التي تواجهنا عندما نتصور ان العالم سوف يقف معنا ويتعاطف مع قضيتنا. وكيف يتعاطف وهو يتلقى يوميا أفكاراً وإيحاءات وتصورات يعكسها من يمتلك القوة الصانعة للمعرفة والمغذية لها. وهذه مشكلة لازالت عالقة في خطابنا الحماسي وتفكيرنا العاطفي لتكون استجاباتنا الانفعالية هي الحاكمة في معظم قراراتنا وتحليلاتنا.
ان ما ذكرناه سابقا في سلبيات المعلوماتية هو ليس دعوة للقطيعة والانعزال في عوالمنا الخاصة بل هي محاولة لتسليط الاضواء على حقيقة الوضع من اجل استنهاض الهمم وتجديد الوعي لتحقيق استجابة إيجابية تتواصل مع هذه الظاهرة بشكل متفهم وقاريء مدرك لعناصر حركتها وصبها في الاتجاه الصحيح للمحافظة على اصالتنا وتجديد حياتنا دون الرضوخ لضغوطات التغريب والتهميش.
اذ ان كل ما رأيناه في واقعنا المعاصر هو اتجاهان مختلفان في استجابته لتحديات المعلوماتية، اتجاه من يتعامل بانفعالية مع كل ظواهر التقدم ويدعو للقطيعة الكاملة والحرب الشاملة ويستخدم العنف والتهييج الجماهيري في صراعه مع الغرب ولكنه في نفس الوقت يستخدم أدواته التكنولوجية. واتجاه من استسلم بشكل مطلق للتنويم المغناطيسي الذي يستخدمه الغرب للسيطرة على الشعوب فراح يقلد الغرب في كل شيء واصبحت منابره الإعلامية مجرد آلة من آلات الدعاية الرأسمالية.
هذه الاستجابات الانفعالية المتناقضة تؤكد حقيقة وضعنا المتأزم بازدياد لأنها استجابات لا تقود إلاّ لمزيد من الاخطاء والمشاكل، ولاتصب إلا في مصلحة العدو وبابتعاد الناس عن الاشتراك في عملية النهوض. والاستجابة الحقيقية الواعية هي الاستجابة المنطلقة من روح الاعتدال والتعقل والبصيرة حيث يمكن تحقيق النهوض التدريجي والوعي المتصاعد والفهم الأساسي لحركة الحياة وقوانين التاريخ. فالاعتدال والوسطية يوجدان تأملا مركزا في العقل وايحاءا هادئا في الفكر وتأنيا مدروسا في السلوك يقود بالنتيجة إلى تحقيق النتائج الأفضل والأسلم، لذلك يقول تعالى في كتابه الكريم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) البقرة 143.
من كل هذا يمكن ان يطرح السؤال المهم وهو كيف يمكن ان نواجه هذه التحديات وكيف تكون استجابتنا لها؟ ولكننا لابد ان نعرف أولا موقعنا في الطريق السريع للمعلوماتية وموقع الاقوياء فيه حتى نستطيع من خلال المقارنة ان نستوحي بعض الافكار في هذا البين.
اضف تعليق