متى تتفرعن السلطة ولماذا؟ إن الصفة الفرعونية تكبر وتنمو في ذات الحاكم الذي يرى في ذاته حاكما أعلى مسلّطا على الناس وحرياتهم وآرائهم وأفكارهم من قبل الإله، وهذا الحاكم يسوّق هذه الفكرة بألف طريقة وطريقة، فهو ومعاونوه وحكومته وأعضاؤها المستفيدون من الحاكم ماديا وحياتيا، نفوذا وجاها وأموالا، يروجون لفكرة التنصيب الإلهي للحاكم
للسلطة سحر خاص لا يضاهيه سحر آخر، غاص العلماء والمفكرون والفلاسفة في أعماقه من أجل استكناه خواصه وماهيته، فوجد بعضهم الشر في القوة المادية والمعنوية التي تمنحها السلطة للسلطان، وغالبا ما تستدرجه إلى الهاوية، وقلة ممن وصل قمة السلطة ولم يهوِ منها إلى الحضيض، فهناك من قهر السلطة وهناك من قهرته السلطة وحولته إلى عبد لها تلعبُ به أنّى تساء، وثمة من استحقرها واستصغرها فقارب تأثيرها عليه درجة الصفر، منهم الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي عجزت السلطة عن إغرائه والإيقاع به.
وبحسب ما يقدّم علماء السياسة والاجتماع من تفسيرات وتعريفات عن السلطة، فهي تعني الاستخدام الشرعي للقوة بطريقة مقبولة اجتماعيًا، وهي القوة الشرعية التي يمارسها شخص أو مجموعة أشخاص على آخرين، ويعد عنصر الشرعية هامّاً لفكرة السلطة وهو الوسيلة الأساسية التي تتمايز بها السلطة عن مفاهيم القوة الأخرى الأكثر عمومية، ويمكن فرض القوة قسرًا باستخدام العنف، وتعتمد السلطة في المقابل على قبول المرؤوسين منح الحق لمن فوقهم من رؤساء بإصدار الأوامر أو التوجيهات، والقبول بتنفيذها، وهنا يصبح المرؤوسون هم مصدر شرعية السلطة، وفي حال رفضهم منح الشرعية لحاكم فإن سلطته على الآخرين تصبح باطلة.
سؤالنا هنا متى تقف السلطة على حافة الهاوية، ثم تتدحرج من القمة على السفح وتستقر في القعر أو الحضيض؟، ثمة ما يحيط بالسلطة من شبهات وعقبات بحيث يدفع بها دفعاً باتجاه السقوط، ما هي هذه الظروف أو المواقف أو السياسات التي تحيط بالسلطة فتسقطها؟ بالطبع أهم المسببات والعقبات التي تعجّل بسقوطها، حين يتململ مانح الشرعية لها من أفعالها ويسخط وينقم عليها، بسبب ما تلحقه بالأمة (وهي مانحة الشرعية للسلطة) من حيف وأذى وظلم، يجعل أصحاب الشرعية يعارضون السلطة ويحتجون ويدعون للتصحيح، لكن حين تستبد وتهتاج وتصبح وحشا ضاريا، يفترس الأمة بأساليب القهر والتعذيب والمطاردة والتصفية والسجون، عندها لا تجد الأمة سوى الانتفاض طريقا لدفع السلطة نحو الهاوية.
متى تتفرعن السلطة ولماذا؟ إن الصفة الفرعونية تكبر وتنمو في ذات الحاكم الذي يرى في ذاته حاكما أعلى مسلّطا على الناس وحرياتهم وآرائهم وأفكارهم من قبل الإله، وهذا الحاكم يسوّق هذه الفكرة بألف طريقة وطريقة، فهو ومعاونوه وحكومته وأعضاؤها المستفيدون من الحاكم ماديا وحياتيا ، نفوذا وجاها وأموالا، يروجون لفكرة التنصيب الإلهي للحاكم، كأنه لا يختلف عن الأئمة المعصومين بشيء، كل هذه الأساليب تُستخدم ويتم الترويج لها لكي تصل الأمة إلى قناعة (الحاكم الأعلى) المنزّه من الزلل، وفي حال يرفض الناس أو أحدهم فكرة الأحادية السلطوية، ويعارضون فكرة التنصيب الإلهي لإنسان لا يختلف بشيء عن البشر، سيبدأ الحاكم الجائر بالتكشير عن أنيابه، فيبطش بكل من يقول بغير ما يريده الحاكم الأوحد وما يصبو إليه، وتتصاعد هذه المشكلة حين تجد الذات المتضخمة سلطويا من يساندها، ويدافع عنها ويصطف إلى جانبها.
فهناك في كل الأنظمة المستبدة، رأس أعلى يقف على قمة هرم السلطة، تحيط به مجموعة رؤوس تعلن الولاء له، والدفاع عنه، وتوافقه على الولاية الأبدية غير القابلة للرفض أو المناقشة أو الاعتراض خصوصا إذا ورد هذا الأمر من عامة الأمة، فأفراد الأمة ومكوناتها وجماعاتها غير مسموح لهم بالإطلاق أن يعلنوا رأيا مختلفا حتى لو كان بمثابة التصحيح لقرار أو أمر أو إجراء خاطئ يلحق أعمق الأضرار بعموم الأمة، وما يمكن أن تنتظر الأمة غير الإساءات والإهمال والفساد السلطوي من حاكم أوحد مستبد؟!.
على أننا نعيش اليوم في عصر لم تعد فيه الأحاديات السلطوية مواكبة له أو متسقة معه أو مقبولة فيه، حتى لو كانت سلطة كاريزمية، فهذه السمة لا تبرر لها قط، التفرد بالحكم، وإعلان الأبدية في التمسك بالسلطة، وإذا كانت السلطة الكاريزمية القوة التي تستمد شرعيتها من خلال القدرات الشخصية الخارقة للعادة والتي تُلهم الولاء والطاعة، فإن عصرنا هذا لم تعد تتوافق أو تنسجم معه مثل هذه التبريرات، فلا كاريزما قيادية ولا سواها تضاهي أو تعدل الشرعية الأصلية للسلطة والتي لا يمكن الوصول إليها والحصول عليها إلا من الأمة أو الشعب، فهو وحده من يقرر شرعية السلطة أو بطلانها، نعم هناك نوع من التوازن بين السلطة وصاحبها من جهة وبين الجهة المانحة لشرعية هذه السلطة، أي لابد أن يكون هنالك توازن وقبول بين الطرفين الحاكم والمحكوم، ولا يجوز للأول أن ينسف هذا التوازن والقبول المتبادَل ويتحول إلى أسلوب القمع والاستبداد.
لهذا السبب المعقول، يرى عالم النفس والاجتماع (ماكس ويبر) أن السلطة الشرعية هي تلك التي يرى الحاكم والمحكوم بأنها مشروعة ومبررة، ومن هذه النقطة انطلقت فكرة العقد الاجتماعي الذي بموجبه يتنازل الشعب عن جزء من حرياته إلى الحاكم في مقابل الحصول على فوائد لا يجوز للحاكم التنصل منها، مثل ضمان (الخدمات والأمن وحق المسكن والمأكل والاحترام...الخ)، بالإضافة إلى قدسية الحقوق والحريات التي لا يمكن للحاكم أن يتقرب منها أو يتجاوز عليها خصوصا حرية الرأي والإعلام والعمل والحريات المعروفة الأخرى، ولم يقل (ويبر) أو غيره من العلماء بأرجحية السلطة مهما كان نوعها، حتى السلطة الكاريزمية، لا يمكن أن تبرر الأحادية والأبدية في القيادة، حيث يدّعي القائد أنه يستمد سلطته من "قوة عليا" (مثال: قوانين أو حقوق إلهية أو طبيعية) أو "إلهام" يفوق صلاحية السلطة التقليدية والسلطة العقلية القانونية.
مما تقدّم يحيلنا ذلك إلى بعض الحكومات الإسلامية وقادتها، والإجراءات التعسفية التي تتخذها بموافقة وتوجيه من قادتها، فماذا يعني ذلك غير الاستبداد والتشبث بالسلطة، وحين يصرّح الحاكم الأعلى وحكومته بأنه يحكم وفق نظرية (ولاية الفقيه)، كمثال عمّا أوردناه في أعلاه، فماذا يعني ذلك غير الخروج على صيغة التوازن بين الحاكم والمحكوم، وحين يُعتقل رجل دين أو مواطن لمجرد أدلى برأي معارض لأسلوب الحكم وإجراءاته الموغلة بالفردية والتسلط، فهذا يعني إلحاق أفدح الأضرار بحالة التوازن بين الطرفين الحاكم والمحكوم حول إدارة السلطة وفق ضمان الحقوق والواجبات المتبادَلة.
وإذا ما استمرّ هذا الاختلال في إدارة الحكم، وترسّخ منهج خرق التوازن لشرعية السلطة، وبقي الحاكم الأعلى يتصرف كما تصرّف بقية الحكام الأحاديين سابقا وراهنا، بعيدا عن احترام حقوق الأمة وحريات الأفراد في الرأي والإعلام وبقية الحقوق، فإن الأمة لن تجد حينذاك سوى أسلوب التنصّل عن شرعية الحكم التي منحتها للحاكم وحكومته تبعا لمبدأ التوازن بين الحقوق والواجبات، وإذا ما أخلّ الحاكم في صيانة الحقوق لن تترتب على الأمة أية واجبات، لتبدأ مرحلة سقوط السلطة نحو الهاوية.
اضف تعليق