تختلف النظريات الثقافية والأدبية والسياسية عن بعضها، ملما يختلف المؤمنون بها عن بعضهم البعض، فمنهم من يرفض الدمج بين الكتابة والرسالة التربوية، ومنهم من يرى عكس ذلك، في حين ينشغل بعضهم بالجماليات الفنية للكاتبة ولا تعنيهم قضايا النصح والتوجيه، بل يذهب بعضهم إلى تقويض مهمة الكاتب الرسالي، وينعتونه بنعوت ربما لا يستحقها، ولكن ينبغي أن يتفق معشر الكتاب على ضوابط وبديهيات أولها وأهمها حرية الكاتبة فيما يؤمن ويكتب ويؤيد ويرفض، فالحرية في الاختيار الفكري والكتابي هي المعيار الذي يعطي الإنسان قيمته الصحيحة.
من هذا الباب أحاول في هذه الكلمة أن أطرح الرأي الذي أقـتنع به بخصوص مهمة الكتابة، والذي تمليه على ذائقتي وإدراكي، جذوري التربوية والرسالية التي فرضتها عليَّ قراءاتي وتأثرّي بشخصيات قد لا تكون لها علاقة بالفكر أو الكتابة، فأنا مثلا لا أستطيع أن أتخيّل الكتابة بلا دور تربوي أو فكري، ولا يمكن أن أدوّن نصاً ما، إذا لم أخطط مسبقا بطرح قضية مهمة تفيد الناس في مفردات وسطور هذا النص، ولو عدنا لمدرسة الفن للفن، فهي أيضا تنطوي على رسالة، صحيح أن هذه المدرسة لا تعنيها الرسالة التربوية أو الفكرية، لكنها تدخل في باب إظهار جماليات الفن، وهذه رسالة بحد ذاتها، فلماذا يستكثر أصحاب هذه المدرسة ومريدوها على المدارس الرسالية مهمة تقديم النصح ونقل التجارب المفيدة للعقل البشري؟.
فالكاتب أياً كانت النظرية أو المدرسة التي يؤمن بها، يعد صاحب مشروع، خصوصا في المجتمعات التي لم تصل بعد إلى مرتبة الكمالية كما هو حال بعض مجتمعات الغرب، ذلك أن جميع البلدان المتأخرة تنظر إلى الكتابة الجمالية أو المهتمة بالجماليات فقط، إنما هي ضرب من اللهو عديم الفائدة، لهذا تبحث مجتمعاتنا المتأخرة في أنماط العيش أو بعض الجوانب الأخرى عن الكلمة التي تقدّم النصح والإرشاد والمساعدة للناس حتى يمكنهم من فهم الأمور الغامضة والتي يمكنها أن تغيّر حياتهم بعد الإطلاع عليها وفهمها.
من هنا فإن الكاتب المنفعل مع الجماعة، لا يخدم المجتمع في طروحاته أو فيما يذهب إليه، لسبب واضح، أن هذا النوع من الكتاب لا يمتلك رؤية فكرية أو رسالية تنبع من وعيه وذاته، وإنما هو كاتب منفعل يستمد مخزونه الفكري الرؤيوي مما يسود الساحة من أخبار وأفعال وقضايا تطفو على السطح بصورة مفاجئة، أي أن هذا النوع من الكتاب يُحسَب على الكتاب المتسرعين المنساقين بعواطفهم وليس بأفكارهم، لذلك تأتي كتابته منفعلة أيضا وخالية من أية رؤية عميقة تصب في صالح بناء المجتمع وتطويره.
وكذا الحال بالنسبة للكاتب المتذمر، فهو في الغالب يكون ذا توجّه يبالغ في السوداوية، ويرسم انطباعا مسيئا أو مشوّها عن الواقع، وهو في هذه الحالة يزيد طين (التخلف) بلّة، ولا يمكن أن يسهم في فتح آفاق التغيير والتطور في المجتمع، بسبب الانطباع الساخط والمسبق له، والذي ينتجه الحس المتذمر لديه، فطالما يكون العقل ناقما ساخطا على الواقع (حتى لو كان يعيش في وسطه)، فإنه لا يمكن أن يكون قادرا على تقديم الصورة المستقبلية المفيدة للمجتمع.
فإذا كان حال العراق وواقع العراقيين متردّيا، بماذا يفيد الأمر عندما يبالغ الكاتب في وصف هذا الواقع، وما الذي سيقدمه للمجتمع من فائدة سوى زرع اليأس والقنوط في نفوس الناس، بالطبع نحن لا نقول علينا تجميل الواقع، وإعطاء صورة مجافية للحقائق، كلا نحن لا ندعو لذلك، ولكننا نقول أن الكاتب المتفائل الذي يعطي في أفكاره ومقالاته فرصا أكثر للتصحيح، ويمنح الناس أملا يحثّهم على تغيير الواقع إلى مرتبة أفضل، سيكون أفضل بكثير من الكاتب الساخط المتذمر الذي يعكس رؤيته هذه على الجميع فيصيبهم بالشلل وعدم الأمل ومن ثم الاستسلام للواقع المرير الذي يعيشونه، لذلك من أكبر القضايا والأهداف التي يتصدى لها الكاتب هي تحفيز المجتمع على التغيير والسعي والإبداع.
وهكذا لا يحتاج المجتمع إلى أفكار سوداوية تزيد وتضاعف من سواد الواقع، ولا يرغب الناس بتعكير الأجواء أكثر مما هي عليه من سوء، إنما يبحث الإنسان اليائس عمّن ينقذه من يأسه ويدفعه بقوة نحو محاولات التغيير موجة بعد أخرى، حتى يتحقق ذلك بصورة فعلية، كذلك لا توجد فائدة تُذكَر عندما يقوم الكاتب المنفعل بإذكاء روح التردد في نفوس وعقول الناس، كما أننا لا يمكن أن نرضى بأفكار الكاتب الانفعالية التي (تنعق مع كل ناعق)، إنما ما يفيد المجتمع هي تلك الأفكار المبدعة التي ترسم الطريق الصحيح المتفائل أما المواطن والمسؤول على حد سواء، وتذكّر الطرفين بمسؤولياتهم، وبأهمية أن يكون الأمل سلاحهم في التغيير، مع طرح البدائل والمقترحات العملية سهلة التطبيق للتغيير.
في هذه الحالة سوف يضمر وينتهي دور الكاتب الانفعالي، بل على هذا النوع من الكتاب، التفكير بجدية عن دورهم الذي يقدمونه للناس من أجل انتشالهم من واقعهم المزري، وليس صحيحا أن نزيد من غرق المواطن في لجّة اليأس، ولا يصح مطلقا أن نضاعف من همومهم، ونغلق النوافذ والأبواب في وجوههم، على العكس من ذلك تماما، ينبغي أن نبرهن للناس على قدراتنا الفكرية النظرية في تحسين الواقع من خلال تحريض الناس على انتهاج مبادئ التغيير، يدفعهم إلى ذلك الأمل الكبير الذي يزرعه الفكر الثاقب المتفائل في نفوسهم وعقولهم.
وحتى نكون أكثر دقة في طرحنا ضمن هذه المقالة، فإننا نقترح بعض البنود التي تساعد في تغيير رؤية الكاتب من التذمر إلى القبول والمساندة، ومن الانفعال إلى الرؤية العميقة الهادئة للواقع، ومن ثم التعامل معه وفق بصيرة فكرية متأنية هدفها الإسهام في تطوير الناس ومنحهم الأمل والسعي نحو التغيير المنشود، ومن هذه البنود والمقترحات.
- أن يتركّز مضمون المقال على البحث عن حلول وعدم الاكتفاء بذكر النواقص ومرارة الواقع.
- أن يحرص الكاتب على الحيادية والموضوعية في طرح الآراء المختلفة.
- أن يبتعد الكاتب قدر الإمكان عن السوداوية في النظر للواقع.
- أن يتخلى الكاتب عن الدوافع المادية التي تسوقه نحو التركيز على الأخطاء وغلق الأبواب أمام الحلول.
- أن ينأى الكاتب بنفسه عن موجات الانفعال التي غالبا ما يكون مصدرها من الوسط المنفعل الذي لا يمتلك رؤية بعيدة المدى لمستقبل أفضل.
- أن يبحث الكاتب عن نوافذ جديدة للتفاؤل.
- أن يحرص إقران أسلوبه بالأمل الفاعل وليس الأمل المخدِّر.
- أن يتميز الكاتب برؤية مستقبلية تغييرية خاصة به يمكن أن تكون هوية شخصية له.
- أن يكسب ثقة الناس ليس عن طريق تضخيم الأخطاء، وغلق السبل نحو المستقبل المضيء، وإنما عن طريق رسم الواقع بريشة المستقبل الأجمل.
- لا يعني ذلك غض الطرف من قبل الكتاب عن أخطاء الساسة وقادة البلد.
- مطلوب من الكاتب أن ينبّه المسؤولين عن أخطائهم باستمرار.
- ويجب أن لا يكتفي الكاتب بتأشير النواقص والأخطاء، وإنما يُسهم في طرح الحلول الواقعية المناسبة أمام المسؤول ومتابعة تنفيذها.
وفي هذه الحالة ستكون مهمة الكاتب ناجحة وذات هدف مزدوج، كمن يضرب عصفورين بحجر، فهو من جهة ينير سبل التصحيح أمام المسؤول ويضعه أمام أخطائه وجها لوحه، ومن ثم يتابع ذلك بلا كلل أو ملل، من ناحية أخرى سوف يكسب ثقة المواطن عبر التفاؤل والأمل بالتغيير، وليس عبر الانفعال والسوداوية التي تزيد من مرارة الواقع ولا تُسهم في تغييره مطلقاً.
اضف تعليق