من الغريب حقا أن ينسى بعض العراقيين تلك القوة الحديدية التي كانت تجذبهم إلى المركز وتسيطر عليهم سيطرة تامة في كل تفاصيل حياتهم، فحتى أصغر القرارات وأقلّها شأنا، لا يمكن للمحافظة وإدارتها أن تتخذه بسبب التبعية التامة للمركز، وهذا يعني حصر الصلاحيات كلها في يد شخص واحد، هو الحاكم الفرد، يعينه على تقوية القبضة الحديدية حزب أوحد يشرف على كل شاردة وواردة، ويراقب كل نأمة تصدر من هنا أو هناك، كي يتحرك بقوة وسرعة لقص كل ما يعارض النظام بمقص السلطة الصارمة.
أما الصحيح كما في تجارب الأنظمة السياسية الناجحة، فيكمن في أهمية منح الأطراف (المحافظات) سلطة تضاهي السلطة المركزية في صلاحياتها، مع أهمية فرصة التجريب السياسي والإداري لغرض الوصول إلى الصيغ الفضلى، على أن يتم اختيار حكومات المحافظات عبر ضوابط دستورية انتخابية تضع الأفضل والأكثر خبرة وأمانة في صدارة الحكم المحلي، ولأننا كعراقيين لم نجرب على مدى تاريخنا السياسي لاسيما المنظور والمعاصر منه، لم نجرب أن نحكم أنفسنا بأنفسنا، فإن الخطأ في إدارة الحكم واتخاذ القرارات والتصرف بالأموال وما إلى ذلك من أعمال تدخل ضمن اختصاص سلطة الحكومة المحلية، أمرا واردا جدا، فهذه هي سنة الحياة، لا يمكن لشيء أن يولد مكتملا، خصوصا ما يتعلق بالأنظمة التي تحاول أن تدير شؤون الناس والمدينة بصورة صحيحة.
أخطاء التجربة الجديدة وفوائدها
فالأخطاء إذاً واردة في التجربة الجديدة، ومع مرور الوقت، سيكون هناك تجريب سياسي وإداري قد يتوافر على بعض الأخطاء الكبيرة، لكن مع الشهور والسنوات، سوف يتم رصد الأخطاء ومعالجتها بالبدائل والإجراءات المناسبة، ولعله من أفضل وأهم مزايا النظام اللا مركزي، أنه يعطي فرصة للهوامش كي تتحرك بحرية، لتؤسس وتنتج وتبني وتبدع في الحياة العامة وفي إدارة الإنتاج والخدمات وما شابه، مع أهمية أن يتوقع الجميع حدوث الأخطاء القانونية والإدارية وحتى الدستورية هنا وهناك، وهو أمر لا يمكن تجنبه تماما، إلا مع مرور الوقت والتقادم الذي يتيح الفرصة لتحاشي الوقوع في الأخطاء، عبر الاستفادة من التجريب السياسي أو الإداري أو سواهما، لأن التجريب يتيح فرصة كبيرة لتحسين الأداء الحكومي المحلي وحتى الاتحادي.
بالطبع نحن هنا نختص بكلامنا هذا ورؤيتنا هذه ما يجري في العراق على الصعيدين السياسي والإداري، فمنذ ما يقرب عقدا ونصف العقد، تغيّر النظام السياسي في البلاد، وأزيحت القبضة الحديدية للسلطة، وحلّ بدلا عنها نظام لا مركزي، يمنح صلاحيات واسعة للمحافظات، ولكن ظهرت لدينا مشكلة خطيرة، هي عدم ضبط إيقاع الحكومات المحلية بالدستور، فحدثت انتهاكات كبيرة أثناء التجريب السياسي والإداري، وتصرفت الأحزاب بطريقة انتقائية استحواذية تسببت في أذى كبير للشعب وهو يجرب النظام السياسي الجديد.
ويرى المراقبون، أن النظام السياسي والإداري الجديد في العراق، يمكن أن يكون في طليعة الأنظمة الناجحة في الشرق الأوسط، خصوصا أن الأنظمة الفردية والعسكرية وليدة الانقلابات هي التي تهيمن في الشرق الأوسط لاسيما الدول العربية، مثلا في العراق ثمة تجربة جيدة من حيث الجوهر والفروع، ونعني بها تنظيم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومات المحافظات التي يطلق عليها بـ (الحكومات المحلية).
بين الحكومتين الاتحادية والمحلية
ولأن هذه التجربة جديدة في مجال التجريب السياسي، فلابد أن تحدث خروقات كبيرة للدستور، ونواقص في العمل السياسي والإداري، لذا هناك عوائق كثيرة تجعل العلاقة بين الحكومتين المركزية والمحلية ملتبسة يشوبها الغموض، وأحيانا تكون السلطة الاتحادية كالسيف المسلط على رقاب الجميع، وهذا ما حدث إبان الحكومات الفردية، لكن الآن يتمتع العراق بنظام إداري لا مركزي، تسبّب في مشاكل تنطوي على خطورة بسبب حداثة التجربة والاستعداد لارتكاب الأخطاء كالتجاوز على المال العام، أو الانفراد بالمناصب والتعيينات وحصرها بالكتل والأحزاب، ومع الاستمرار بات حضور أنماط عملية مرفوضة أمرا واقعا، تسببت به الأنظمة الإدارية المعيقة للتقدم والتطور والإبداع، ومنها الأداء البيروقراطي الذي أثقل كاهل الشعب بخطوات وإجراءات إدارية لا مسوّغ لها، سوى نشر الفوضى الإدارية من اجل تحقيق منفعة مادية لبعض الموظفين الكبار والصغار معا معتمدين في حمايتهم على أحزابهم أو علاقاتهم مع الأقوياء من أصحاب القرار، وهذه المشكلة وليدة التجريب السياسي والإداري.
وحين نسلط الضوء على الحراك السياسي للأحزاب والعاملين في صناعة القرار، فإننا في واقع الحال سنكتشف نوعا من الصراع غير المنضبط، وهناك مشكلة مستجدة، أن أعضاء مجالس المحافظات ومعظم السياسيين يتحدثون عن الدستور ويقصرون في تطبيق بنوده، ولعلنا نلاحظ نوعا من الصراع بين الأحزاب والكتل السياسية بخصوص صلاحيات مجالس المحافظات، فبعضها لا يرى ضرورة لتوسيع الصلاحيات، وآخرون يرون أهمية منح المحافظات صلاحيات كبيرة لإدارة ملفات البنية التحتية والأمن والخدمات، حيث تشهد الساحة السياسية في العراق نوعا من التداخل والإرباك مصدره التجريب السياسي والإداري، وهو أمر متوقّع لحداثة عمر التجربة، فقد تحتاج بعض الديمقراطيات كي تتوطد وترسخ إلى عشرات العقود من السنوات.
وما يثبت صحة التجريب السياسي والإداري مع استمرارية الزمن، أن هنالك بعض النجاحات التي رافقت عمل بعض الحكومات المحلية وحتى الحكومة الاتحادية، خصوصا ملف طرد داعش من الأراضي والمدن العراقية بعد قتالٍ ضارٍ وتضحيات جِسام، وقد لاحظنا بعض النجاحات لبعض المجالس في اتخاذ خطوات إدارية جيدة تمس شرائح من المجتمع، وتهدف الى تحسين أوضاعهم المعيشية وحياتهم من حيث الجانب الخدمي والسكن وسوى ذلك، وقد باشرت بعض المجالس بتنفيذ مشاريع في السكن والطرق والاتصالات وسواها، حيث تقدمت الخدمات في هذا الجانب على نحو جلي، وهو أمر يجب الإشادة به لكي تواصل هذه المجالس تقديمها للخدمات الجيدة لعموم السكان، ولكن هذا لا يعني أن هذه المؤسسات الحكومية قد أدت ما عليها بأكمل وجه، بل هناك عثرات ونواقص لا يزال الشعب يشكو منها وينتقدها وعلى كل من يعمل في السياسة وإدارة البلاد أن يحسّن أداءه من خلال اعتماد آليات وخطوات صحيحية في مجال التجريب السياسي والإداري.
ومع وجود الأخطاء والكبوات والتجاوزات في الجوانب المالية أو الإدارية، لكن هناك تطور وإن كان بطيئا في عمل بعض الحكومات المحلية، ولو قمنا بمقارنة بين أسلوب التهميش المركزي للمحافظات سابقا، ومنحها حرية العمل والإدارية في يومنا هذا، لوجدنا (مع الأخطاء التي ترتكبها بعض الحكومات المحلية) فارقا كبيرا في الأداء والحرية وعدم التبعية المطلقة للحكومة المركزية والقرار المركزي الصارم.
إن كلمتنا هذه حول التجريب السياسي والإداري في ظل النظام اللامركزي الحالي، لا يعني أننا نزكّي هذا النظام، لكننا في الوقت نفسه نلمس الفوائد والفوارق الكبيرة بين النظام المركزي ونقيضه، وعلى العموم لابد من منح الفرصة الكافية للحكومات المحلية كي تقوم بواجباتها على النحو الأفضل، مع وجود هامش المراقبة حفاظا على المال العام، لاسيما أننا نعاني من ملف الفساد والتجاوز على المال العام، لهذا يتطلب الأمر رقابة قوية مشددة على الأعمال والمشاريع التي تتكفل بها الحكومات المحلية، مع أهمية تقوية الدور الرقابي للمؤسسات والدوائر المعنية من أجل تحقيق الهدف من التجربة الديمقراطية بعد تنقيتها من الكبوات والاهتزازات السياسية والإدارية.
اضف تعليق