نمطية التفكير وثباته ينمّ عن بيئة متخلفة، تصنعها عقول قارّة لا يستهويها التغيير، وتفضّل بقاء الحال على ما هو عليه، وتتطيّر من الجديد والتجديد وترى فيه تجاوزا على القيم وطرائق العيش، وتراه أيضا نوعاً من العبث في الحياة الاجتماعية، ولا يقتصر رفضها على التغيير الاجتماعي، وإنما تذهب الى ما يمكن أن نسميه (عدم التغيير الشامل)، والبقاء في كسل بيئة التخلف، ونمط اللامبالاة الذي يهيمن على العقول بكل مستوياتها لاسيما البسيطة منها.
ويعرّف بعض المختصين (التفكير) بأنه عملية عقلية تستخدمها الكائنات لتكوين ارتباطات نفسيه فيما بينها لتسهيل حركة الحياة والعلاقات المتبادَلة، ويعرَّف التفكير بأنه نوع من التلاعب بالمعلومات، لتكوين مفاهيم، وإيجاد الحل اللازم للمشكلات، مع إمكانية دراسة الأسباب واتخاذ القرارات، والفكرة يمكن أن تكون صوره، أو صوت، أو حتى شعور يأتي من الدماغ. ولكنه يحدث تحت وطأة الحاجة دائما.
وهناك مجموعة من المختصين يُعرِّف الفكر بأنّه نتاج العقل والأحداث الحاصلة في الوقت الحاضر، وهو تشكيل عقلي لمجموعة من الصور بشكلٍ ميكانيكيّ، أو بشكل معين، أو بصورة محددة في الدماغ، ويعتقد الكثيرون بأنّ العقل هو نفس الفكر، إلا أنّه اعتقاد خاطئ، حيث إنّ الفكر هو الشكل، ويُعدّ التفكير وسيلة للحصول عليه، بمعنى هناك منتِج للفكر وهو العقل، لهذا لا يمكن التشابه بين المنتِج والمنتَج.
وقد خاض كثير من المفكرين والعلماء والكتاب المختصين في الأهمية التي تنتج عن التفكير أو تكمن فيه، فمن خلال التفكير يمكن طرح البدائل في مختلف حقول العمل، لكي يوفر العديد من الحلول الجذرية لبعض المشاكل الحضارية التي يعاني منها المجتمع، عن طريق الدراسة، أو وضع الخطط، أو تقديم النماذج المتقنة من خلال إتباع رؤية فكريّة شاملة وناضجة.
وتشير الحقائق والثوابت أنه ليس هناك فرصة لإهمال التفكير أو الاستغناء عنه، طالما أن العالم في تطور مستمر، وخطوّ دائم الى أمام في مجمل ميادين الحياة، فصناعة بيئة حضارية شاملة تضم المجالات كافة، تستلزم تأجيج خلايا العقل على الدوام وإعمالها وتنشيطها وزقّها بالجديد من الأفكار بما يتماشى والمستجدات الفكرية في العصر، مع مراقبة دقيقة لما يحدث في المجتمعات المتطورة، كي يحدث نوع من التحايث الفكري لتحفيز العقول ولإحداث التغيير المُرام.
وما يهمنا كعراقيين في هذه الجوْلة الفكرية، هي المرحلة الحساسة التي يمر بها المجتمع العراقي، وهي مرحلة حساسة ودقيقة وينبغي التعامل معها بعقلية لا تقبل اللبس أو الاشتباه أو الخطأ، فنحن نعيش في ميدان الانتقال من (ثقافة وقيم الأنظمة الشمولية الفردية العسكرية)، الى (ثقافة وقيم الديمقراطية)، وهذا الهدف الكبير والمصيري، يستدعي أن نُعِدّ له العقول الجبارة لإنتاج الأفكار المتوافقة مع الديمقراطية، مع أهمية وأد قيم الأنظمة الشمولية كافة.
وهذا بالطبع ليس هيّناً ولا يمكن التعامل معه على أنه مضمار سهل وبسيط، خاصة أن هناك من بين العراقيين من لا يشغل عقله وتفكيره بأهمية هذا النوع من الانتقال الفكري والقيَمي، ويقول هؤلاء أن الأمور يمكن أن تتدرج بصورة آلية وتتغير القيم والثقافة والسلوك بلا جهد فكري يبذله المختصون في هذا الميدان، وهذا ليس صحيحاً بالطبع، فلا يمكن إحداث التغيير الفكري بلا جهد منظّم، لذلك ينبغي التعاضد والتعاون والتنسيق بين النخب (العقلية الفكرية)، لنقل العراق والعراقيين بشكل كلّي للتعايش والاندماج مع مرحلة الأفكار والقيم والثقافة الديمقراطية.
ولعلّ الخطورة الكبرى تتبلور وتتركز لدى (المتحجرين فكريا)، أولئك الرافضون لتغيير الفكر والقيم بما يتناسب والمرحلة الجديدة، وهؤلاء يتذرعون بالتمسك بالأصالة، لكن الهدف المخفي لهم هو تعويق انتقال العراقيين الى أنماط فكرية جديدة تدفع بهم الى أمام للحاق بالركب المتقدم، لذلك يضع هؤلاء المتحفظين العصيّ في دواليب عجلة نقل العراقيين من (ثقافة الدكتاتورية) الى (ثقافة الديمقراطية)، لهذا أثار هؤلاء الكثير من المشكلات الأمنية والإنتاجية والإدارية وسواها الكثير، حتى يزرعون اليأس في نفوس العراقيين لكي يرددوا بأن (الفكر الشمولي هو الأنسب لنا من سواه)، وقد حدث هذا بالفعل!!.
لكن الصحيح، هو أن يتصدى العلماء والمفكرون لمواجهة مثل هذه الدعوات الكاذبة، فمسؤولية التغيير الفكري القيَمي بما يتناسب وروح العصر، تقع بالدرجة الأولى على عاتق هؤلاء، بالإضافة الى النخب الثقافية والعلمية المستقلة والبعيدة عن المآرب السياسية والمنعة بأشكالها كافة، وإذا وجهنا سؤالا واضحا، هل يحتاج العراقيون الى قفزة قوية لتحقيق اللحاق بالمجتمعات المتقدمة؟، فإن الجواب سوف يأتي بنعم من الجميع، بيد أن هناك من يعمل بالضد من هذا الهدف في الخفاء، كون الثقافة الشمولية لا تزال تنبتُ في أعماقه ولا يستطيع التخلّص منها.
لقد مرّ ما يقرب من عقدٍ ونصف على حدوث التغيير السياسي في العراق، وقد حدث ذلك في نيسان 2003، وأصبح الانتقال من الفكر الفردي الى المتعدّد جارياً بالفعل، ولكن ثمة سؤال رديف للسؤال الأول، هل تحقّق للعراقيين ما يصبون له من انتقال قيَمي وفكري، بالطبع سيكون الجواب كلا، بل على العكس من ذلك إذ حدثت هجمة معاكسة للقيم السيئة التي تسللت الى الأنشطة الإدارية والمجتمعية وحتى السياسية وثمة سواها أيضا.
فما هو السبب الذي جعل من انتشار قيم دخيلة أمرا شائعا، بالطبع هناك من يقف وراء هذا الفعل المنظّم، ليس فقط العقول التي ترفض التغيير، ولا أولئك الذين ضُرِبَتْ مصالحهم، بل هناك من دعاة الديمقراطية أعمت المصالح بصائرهم وأبصارهم، فتنكّروا لمبادئهم وقيمهم وأساء بعضهم استخدام السلطة، وأغمض عينيه عن الأخطاء الفادحة، ووقف في الحياد من تسلل القيم الرديئة الى الوسط السياسي وسواه، فصار هؤلاء (الديمقراطيون) لا يختلفون عن دعاة عدم التغيير (الديمقراطي).
وهكذا أصبحت الديمقراطية محط مقت الناس وكرههم، لكن الديمقراطية لا ذنب لها، بل جاء تطبيقها مشوّها، واستفحلت الأنانية، واللهاث المحموم على المنافع الفردية، بدلا من بناء نظام سياسي (حياتي) إستراتيجي ديمقراطي، يكون قادرا على منح العراق (أوسمة) التقدم والاستقرار والتنعّم في ظلال الديمقراطية والرخاء والهناء واللحاق المحسوم بالدول المتقدمة.
اضف تعليق