تؤكد صفحات التاريخ بأن المعارك وحدها لا تبني الدول، وأن الجيوش القوية التي لا يدعمها نظام سياسي ديمقراطي مستقر، وإعلام مهني محترف، لا يمكنها الحفاظ على قوتها، وسوف تضعف الدولة وتؤول بالنتيجة الى الانهيار، لذلك فإن بناء الدولة العراقية الجديدة، يحتاج بالدرجة الأولى للمشورة العلمية في مجالات السياسة والاقتصاد والتشريع والتعليم ولكل ما يتعلق بشؤون بناء هيكلية الدولة العصرية، ومن ثم هنالك حاجة ملحّة جدا للمنظمات والمؤسسات الإعلامية والثقافية، لأداء دورها الكبير في دعم الهدف الأهم، وهو بناء الدولة المؤهلة لحماية الحريات والحقوق المدنية.
وفي ضوء ذلك ينبغي أن يكون هنالك تلاحما فعليا بين المؤسسات العلمية والمؤسسات الإعلامية لكي تقوم بدورها الفاعل في الواقع العراقي الراهن، حيث يحتاج قادة العراق، وموظفي إدارة مؤسساته المختلفة الى الكثير من المقترحات والمشورة ومساعدتهم في فتح آفاق ورؤى ومشاريع متنوعة، تسهم في تحقيق ما يصبو إليه الشعب، وتدعم كيان الدولة، وقد تكون مثل هذه المقترحات والاستشارة غائبة عن بال القائد السياسي والإداري، لذلك فإن المؤسسة الجامعية يقع عليها الدور العلمي في معالجة مثل هذه النواقص، فيما يتصدى الإعلام لمهم وضع وترويج الرؤى والمقترحات السليمة أمام القادة على نحو غير قابل للتوقف.
أي أن الإعلام مطالَب بمساندة رجال الدولة وقادتها في التنبيه على الأخطاء، ونشر الخطوات الجيدة ودعمها من أجل التشجيع والاستمرار في العطاء الجيد، فيما تواصل الجامعات والمؤسسات العلمية برصد مواطئ الخلل هنا وهناك ومن ثم دراستها من قبل مراكز البحوث والدراسات، ومعرفة أسبابها، وطرق معالجتها، ومن ثم الخروج بوصايا علمية مهمة يتم توصيلها الى صانع القرار لكي ينطلق في أداء دوره العملي في ضوء مشورة المؤسسة العلمية والمؤسسات الثقافية والإعلامية، حيث ينبغي أن تحرص هاتان الجهتان على إحداث وتطوير نوع من التعاون المشترك، علميا وإعلاميا، من خلال عقد المؤتمرات العلمية الرصينة، ومناقشة المشكلات المستعصية، أو تلك التي تحتاج الى حلول مهمة، لتنتهي الى تقديم وصايا لصانع القرار تستند الى العلم والتخصص، ويكون للمثقف والإعلامي دوره في هذا الجهد المهم.
مؤتمر علمي إعلامي نموذجي
وكنموذج عملي لمثل هذا النوع من التعاون العلمي الثقافي الإعلامي المشترك، يمكن أن تندرج هنا ما تقوم به (مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام)، من مؤتمرات علمية مشتركة مع عدد من المؤسسات الجامعية العلمية، لتحقيق هذا الهدف الحيوي، حيث عقدت هذه المؤسسة بالفعل عددا من المؤتمرات والندوات مع عدد من الجامعات، منها جامعة كربلاء المقدسة، وجامعة بغداد، وكذلك مع العديد من مراكز البحوث والدراسات الموجودة والفاعلة في عموم محافظات العراق.
وقد شكلت هذه المؤتمرات مثالا نموذجيا لإمكانية وأهمية التعاون المشترك بين المؤسسات العلمية والإعلامية لدعم صانع القرار، من خلال مناقشة القضايا المهمة والمعقدة، ودراسة المشكلات المستعصية، ومناقشة السبل العلمية والعملية التي يمكن من خلالها أن يتحرك رجل الدولة وصانع القرار، لكي يرى الساحة بوضوح، ويتحرك وفق خطط علمية متخصصة، وهذا ما حدث بالفعل من أجل وضع النقاط على حروفها في هذا المجال.
ولعل المثال الأقرب عن هذا النوع من التعاون بين المؤسسات الجامعية العلمية والمؤسسات الثقافية الإعلامية، هو إقامة مؤتمر سنوي في جامعة بغداد، بالتعاون مع مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام، حيث عقد مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في جامعة بغداد ومؤسسة النبأ للثقافة والإعلام مؤتمراً علمياً، تحت شعار "من اجل عراق آمن ومستقر وموحد"، وجاء هذا المؤتمر تحت عنوان "الاستقرار الأمني والمجتمعي في العراق لمرحلة ما بعد داعش"، وذلك صباح يوم الاثنين الموافق (23تشرين الأول 2017) في قاعة المعهد العالي للدراسات المحاسبية والمالية في الجامعة، بمشاركة أكاديمية واسعة ومنظمات وشخصيات.
وقد شارك في هذا المؤتمر عدد كبير من الأكاديميين المختصين، وقدموا عددا من البحوث والدراسات المهمة، في أربع جلسات، تم في كل جلسة منها مناقشة أربعة بحوث، وناقشت هذه البحوث قضايا مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية، منها مثلا طبيعة العلاقات السياسية بين العراق ودول المنطقة، وخاصة الجارتين (إيران وتركيا)، وكذلك مناقشة قضية النازحين وحقوقهم، والاستفتاء الذي جرى مؤخرا وما تبعه من تداعيات وأحداث بين الحكومة الاتحادية، وحكومة الاقليم، وقد أكد مدير مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الدكتور علي الجبوري، على أن هذا المؤتمر ينعقد في مرحلة بالغة الخطورة بالنسبة العراق ومستقبله لاسيما بعد الانجازات العسكرية المهمة لقواتنا البطلة ضد داعش ومن ثم الشروع على استعادة الأراضي الأخرى وفقا للدستور العراقي الذي يبيح للحكومة الاتحادية السيطرة على عموم أراضي العراق.
المهام الكبيرة بحاجة الى التخطيط
وقد حقق هذا المؤتمر العلمي الأهداف التي تم عقده لأجلها، فقد أسهمت البحوث والدراسات التي ألقيت من على منصة المؤتمر، في فتح آفاق واسعة أمام رجال الدولة، ربما تكون غائبة عنهم، وهنا تبدو الحاجة ملحة لمواصلة عقد مثل هذه المؤتمرات، ومواصلة التعاون بين المؤسسات الجامعية والإعلامية استنادا الى ما تحقق من نتائج تتعلق بوضع المشكلات السياسية والحقوقية والاقتصادية والتعليمية وسواها أمام طاولة المسؤولين لمعالجتها.
ويأتي انعقاد هذا المؤتمر العلمي بعد الانتصارات التي حققتها قواتنا على داعش، ما يعني أننا في مواجهة مرحلة صعبة أيضا وهي مرحلة بناء الدولة ومؤسساتها التي لا تقل صعوبة وتعقيدا عن مرحلة مواجهة الإرهاب، ومثل هذه المهام الكبيرة بحاجة الى التخطيط العلمي والتعاون الإعلامي، فعندما يكون التخطيط علميا سليما، تكون النتائج مضمونة النجاح بنسبة كبيرة، وهذا ما تحقق بالفعل في النتائج المذهلة لمعركة تحرير الموصل وطرد داعش الإرهابي، الأمر الذي يشكل مرحلة جديدة عنوانها الاستقرار والبناء والمستقبل.
وقد جاء في كلمة مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام في هذا المؤتمر، بأن المؤسسات العلمية الجامعية كجامعة بغداد، ومراكز البحوث والدراسات، والمؤسسات الفكرية الثقافية كمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام، تعد من الجهات والنخب التي ينبغي أن تتصدر قيادة التخطيط والتفكير في هذه المرحلة الجديدة، ونعني بها مرحلة بناء الدولة في أجواء السلم والسلام، ولهذا فإن هذه الفعالية العلمية، تمثل تجسيدا فعليا للتعاون المؤسسات العلمية والثقافية والفكرية في تقديم المشورة والرؤى والأفكار والبحوث والدراسات والمقترحات لصانعي القرار في العراق، من أجل استثمار الانتصارات العراقية الكبيرة، وتوحيد البلاد، وتحرير الأراضي من دنس الفساد والعنف، والتفرغ للبناء وتطوير الدولة ومؤسساتها واقتصادها صناعةً وزراعةً وإنتاجاً.
لذلك تعد مثل هذه المؤتمرات العلمية بالغة الأهمية، خصوصا في هذه المرحلة الحرجة التي يجتازها العراق اليوم، وما هذا المؤتمر إلا نموذج علمي يقدم البحوث والدراسات والمشورة والمقترحات للحكومة والجهات المعنية الأخرى، من اجل استثمار هذه المرحلة بأفضل صورة ممكنة.
وهذا الأمر يضع مسؤوليات كبيرة على عاتق الجامعات والكوادر العلمية، والمنظمات والمؤسسات الثقافية والإعلامية، إذ ينبغي عليها أن تستغل الظروف الراهنة، (بعد القضاء على داعش والإرهاب) من أجل بناء العراق الجديد بأسرع وأنجع السبل الديمقراطية، لذا فإن هذا المؤتمر العلمي يعد مثالا ينبغي أن يشكل درسا للآخرين من (المؤسسات الجامعية العلمية والإعلامية والثقافية)، لكي يقوموا بدورهم في بناء الدولة العراقية الجديدة.
اضف تعليق