يرى بعض دارسي التاريخ ان عملية النمو والنهوض تتم عبر دورة ديناميكية مميزة فالظروف التي تحيط بالإنسان تمثل تحديا وتستثير إرادته وتحركه بردود أفعال اما ان تكون ناجحة او عقيمة، وعندما يكون رد الفعل موفقا تتحقق عملية النمو والنهضة، حيث يرى توينبي: النمو يكون مميزا بتحد يقود الى رد موفق يستثير تحديا جديدا يؤدي الى رد موفق وهكذا دواليك بانتظار الانهيار.
أي ان الانهيار يبدأ عندما لا يستجيب لها الفرد او المجتمع ولا يتأثر بنتائجها تأثرا عمليا وانما تتملكه حالة اللامبالاة، او يستجيب لها بشكل سلبي حيث رد الفعل يكون باتجاه التراجع او الجمود. ويضيف توينبي: أما التفكك فيكون متميزا بتحد يستجر ردا غير ناجح فيستثير محاولة أخرى تؤدي الى إخفاق جديد وهكذا دواليك بانتظار الاضمحلال.
فالأمم عندما تبدأ تقف وتنمو وتكبر فانها تستجيب بصورة إيجابية للتحديات وعندما لا تستجيب او ترد بسلبية على التحديات عبر ردود أفعال عنيفة في مواجهة الجديد فإنها تنغلق على أنفسها وتغمض اعينها عن حركة التطور وتعيش مزيد من التخلف والتراجع.
واذا لم نحاول ان نقرأ التحديات التي تجابه الأمة قراءة واعية ودقيقة فإننا لا نستطيع ان نستكشف الأولويات ولا نعرف أعماق المشكلة فإننا حينئذ نبقى على الهامش وننشغل بالشكليات ونحاول فقط ان نرمم ما تساقط من البناء في حركة التاريخ. فاستيراد التقنية الغربية وانتشار البضائع المتطورة لايمثل نمو حقيقيا بقدر ما هو غفلة عن واقع النهضة واستهلاك لما أنتجته حضارة الآخرين، لان النهضة ليست بالأمور المادية بقدر ما هي علل واسباب نفسية وأخلاقية واجتماعية.
فإذا استعطنا ان نكتشف التحديات التي تواجهنا ونركز عليها في استجابتنا الواعية فإننا نستطيع ان نبدأ الخطوة الأولى في حركتنا الجديدة نحو التاريخ الجديد.
من هذه التحديات:
أولا: اهتراء البنية السياسية
البنية السياسية هي التي الإطار العام الذي تتحرك فيه الأبعاد الأخرى فإذا كانت البنية سليمة تحركت كافة الاتجاهات بشكل سليم والعكس يؤدي الى سقم معظم الفعاليات والنشاطات. لذلك ارتبط الإصلاح الحضاري بشكل أساسي بإصلاح البنية السياسية. وواقع الأمة يكشف عن اهتراء البنية السياسية وضعف مؤسساتها وضبابية تشكيلاتها وسيطرة الاستبداد والقمع على أساليبها وانتشار الفساد والبيروقراطية في لحمتها، وكل هذا أدى الى عجزها التام عن مواصلة البناء والنمو وانتج ذلك شرخا بينها وبين المجتمع.
فعندما تغيب الحرية عن المجتمع لا يستطيع الإنسان ان يمارس وظيفته الفطرية والتكوينية في الحياة ويصبح كيانا جامدا، وعندما لا يكون حرا ولا يفكر يفقد حقيقته الوجودية. فالاستبداد وسلب الحرية يعني القضاء على المحرك الديناميكي للإنسان في الحياة. فحركة التاريخ وعلل النهوض تعتمد على حرية الانسان وقدرته في التفكير والإبداع.
هذا التحدي يستثيرنا لإصلاح البنية السياسية وإيجاد بنية ترتكز على الحرية والفكر والعقل.
ثانيا: تفكك البنية الاجتماعية
فالمجتمع يتشكل ويتحدد من خلال الترابط الاجتماعي بين فئاته وأفراده، ويتحقق ذلك من خلال وجود مؤسسات تجمع الأفراد وتنظم الحركة الاجتماعية بسلامة. ولكن عندما تهتريء المؤسسات وتفقد فاعليتها وتأثيراتها وتعجز عن تقديم واستيعاب حاجات الأفراد، او تسيطر عليها محاولات التفرد والتحزب والتعصب فتستخدم الأساليب العنيفة وغير الأخلاقية مع المؤسسات الأخرى، فانه سوف يؤدي ذلك كله الى إيجاد التناقضات الاجتماعية والشقاق بين الفئات بل والنزاع الدموي في بعض الحالات.
وبعد ان تغيب التعددية الحقيقية في المؤسسات الواقعية التي تجمع الأفراد في إطار منظم، فان ذلك سوف يؤدي الى غياب المسؤولية الاجتماعية وانتشار الفوضى واللامسؤولية تجاه الآخرين.
ان وجود المجتمع وجودا ناميا ناهضا يستدعي وجود مؤسسات فاعلة تحقق للأفراد الاندماج الاجتماعي الشامل في إطار الحفاظ على حريات الجميع وتنظيم المصالح الخاصة في إطار المصالح العامة، وعبر هذا تتحقق الوحدة الاجتماعية والتماسك البنيوي. وهذا تحد يحرك فينا روح التفكير والتغيير لبناء المؤسسات الحقيقية.
ثالثا: انهيار الأوضاع الاقتصادية
عندما لاتملك نظاما سياسيا يستوعب الشرائح الاجتماعية في إطار الحرية والتعددية ولا توجد مؤسسات فاعلة قادرة على الإنتاج فان الأوضاع الاقتصادية سوف تزداد سوءا يوما بعد يوم وتنخفض القدرة على الإنتاج ويتفوق الاستهلاك وتنتشر البطالة والجريمة. لان الاقتصاد حركة تعتمد أساسا على وجود الحريات المسؤولة والمؤسسات المتعددة، والاقتصاد إنتاج بشري ينشأ من عناصر التفكير والإبداع والفاعلية لدى الإنسان وليس مجرد عناصر مادية، فالرأس المال الحقيقي في الاقتصاد هو الفكر الإنساني والجهد الإبداعي. ومع عدم وجود الحرية الاقتصادية وفقدان المؤسسات المستقلة يسيطر الاحتكار والفساد الاقتصادي وقمع الفعاليات الاقتصادية وعدم وجود امن اقتصادي وبالتالي فرار رؤوس الأموال الى بلاد أخرى.
ان هذا الانهيار الاقتصادي لا يؤدي فقط الى دمار الطبقات الاجتماعية وانتشار الفقر والمرض والجهل بل ويؤدي الى هجرة العقول والكفاءات الى البلاد الغنية بحثا عن الحرية والأمن والمستقبل. فمع هذا التحدي الصعب كيف يمكن ان نواجه أخطار العولمة وتحول المجتمع الى مستهلك مطلق عاجز عن الإنتاج.
رابعا: الانهيار الأخلاقي
الانهيار في البنى الأساسية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لاشك سوف يؤدي الى نشر الإحباط واليأس والقدرية مما سيؤدي الى انهيار أخلاقي وانتشار الفساد ووجود الكثير من الأمراض الأخلاقية كالنفاق والنميمة والتهمة.
خامسا: انتشار العنف
فلاشك ان هذه التحديات الخطيرة تستثير ردود أفعال قوية قد تحمل في باطنها بعض الأحيان سلبية وعنفا، وهذا من اخطر التحديات لان الاستجابة العنيفة تخلق طوفانا متراكما من ردود الأفعال الأخرى التي تتفاعل بصورة سلبية وانفعالية مما يغلق الأبواب أمام الحلول الاخرى ويستنفذ الطاقات الإيجابية. ان الاستجابة للتحديات تستدعي بصيرة وحكمة ووعيا نافذا وهدوءا سلميا يوفر الأجواء للتفكير الناضج السليم.
سادسا: سيطرة الجمود والخمول العقلي
فمع فقدان الحرية وانتشار اليأس وعدم وجود المؤسسات الفاعلة وانتشار العنف الجسدي والإرهاب الفكري يصبح العقل معطلا عن التفكير وغير قادر على الخلق والإبداع ويسيطر عليه الخمول والكسل وتقبل الأفكار الغازية من دون تمحيص، وبالتالي سيطرة الجمود والتقليد والانغلاق. واذا كانت أسس النهضة ترتكز على التفكير المرن والعقلانية المتجددة والإبداع الخلاق فان هذا التحدي يفرض علينا الخروج من دائرة الانغلاق واستثمار نعمة العقل والتفكير.
ان هناك تحديات صعبة تواجهنا فأما ان نستسلم لها ونعرض عن أسباب النهوض ونرضى بالاستعباد فتتراكم علينا المآسي اكثر فاكثر ونضيع في التيه كما ضاع بنو إسرائيل: (قال فانها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) .المائدة26 فالإعراض عن سنن الله في الكون يزيد من التخلف والضياع والشقاء: (ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) .طه124 فالبقاء على التخلف يزيد من الضياع ويؤدي الى الانحراف العقائدي والأخلاقي والاجتماعي: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) .الصف5
اضف تعليق