قبل ما يقرب من خمس سنوات أي في منتصف عام 2012، كانت ظروف السياسة الداخلية في العراق تشبه الى حد كبير ما يجري الآن بين الأحزاب والكتل السياسية من سجالات وجولات متضادة توضح الحرص على السلطة قبل أي شيء آخر، ما يعني إهمالها للهدف الأهم الذي تشكلت من أجله وهو بناء الدولة على أسس معاصرة، وإنشاء نظام سياسي ديمقراطي يمنح العراقيين فرصة للعيش بسلام ورفاهية.
وكنا قد ذكرنا في ذلك الحين - بمقال لنا حمل عنوان (الأحزاب العراقية أخطاء قاتلة)- نواقص خطيرة تعتري الحراك السياسي الداخلي، خصوصا ما يتعلق بتوزيع السلطة بين الأحزاب والكتل السياسية، فقد شاركت معظم الأحزاب السياسية في العراق بارتكاب خطأ استراتيجي، يتمثل في عدم التعاون المخلص والبنّاء بين الكتل والشخصيات المستقلة وعموم العاملين في السياسة، لإنشاء قاعدة سياسية وطنية قوية تحتضن الحراك السياسي العراقي بكل تناقضاته الناتجة عن التنوع المجتمعي الذي يتميز به شعب العراق، وبهذا أصبحت هذه الأرضية أو القاعدة رهنا بالحسابات الإقليمية والدولية في كثير من الأحيان، لهذا نلاحظ ضعف أو غياب القرار السياسي الوطني المستقل في كثير من الحالات، خاصة فيما يتعلق بالتناقضات الحادة بين الكتل الكبيرة حول توزيع السلطة والوزارات والمناصب الحساسة، قبل سنوات أو غيرها من المواقف الحرجة، فضلا عن الصراعات والتحالفات التي طُبعًتْ غالبا بتدخل دول الجوار أو التدخل الأمريكي، من أجل تحقيق صيغ متوازنة تحاول أن تحد من حالات الانهيار التي قد تتعرض لها العملية السياسية في أية لحظة.
إذاُ بعد نصف عقد من السنوات، تبقى الحال كما هي عليه بشأن العلاقة بين الأحزاب السياسية، والجانب الأخطر هنا غياب الرؤية السياسية الثاقبة التي تنتشل البلد من مشكلاته المستدامة ويقف على رأسها الفساد الذي نخر ما نخر من هيكلية الدولة وحوّل مؤسساتها، فضلا عن إهمال الجانب الخدمي بشكل تام حتى ما يتعلق بالخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء، مع الإعلان المتكرر عن عمليات فساد كبرى ليست هناك قدرة للدولة على معالجتها.
لماذا تُضرَب مصالح الشعب
فقد أعلنت مؤخرا مفوضية النزاهة ملفات اختلاس وسطو على المال العام ورفض كشف الذمم المالية وهدر للمال العام بملايين الدولارات، ومع الإعلان عن استرداد قسم من هذه الأموال، إلا أن أحد نواب اللجنة القانونية في البرلمان أعلن في أحدى الفضائيات أن ما تم استرداده لا يساوي واحد بالألف مما تمت سرقته، ومما يثير الدهشة حقا، أن الجميع يتحدث عن صفقات الفساد، ولكننا لم نلحظ حتى الآن القبض على رأس من رؤوس الفساد وإيداعه السجن بالجرم المشهود حتى يشكل حالة ردع للآخرين، وأمر طبيعي أن يبقى الفساد كما هو بسبب عدم مواجهته بقوة من خلال القانون أو سواه من الإجراءات الفعالة.
وما يشغل الكتل والأحزاب السياسية اليوم ليس الفساد بأشكاله كافة، وإنما كيف تبقى السلطة في حوزة هذه الأحزاب، وكيف تبقى الامتيازات مخصصة لها حصرا، وكيف تكون القوة رهن إشارتها، إنها تعمل بإصرار غريب على ضرب مصالح الشعب، وإهمال بناء مؤسسات الدولة، مع الإيغال الغريب في تكديس الأموال لصالح شخصيات حزبية وجماعات سياسية تتوافق فيما بينها على حصد الملايين من حقوق وثروات الشعب، ولكن تتناسى الطبقة السياسية المخاطر التي ستطفو الى السطح بسبب هذا الإهمال الغريب للشعب والدولة.
إن الكوارث التي تلوح في الأفق على جانب من الخطورة لا يصح النظر إليها بعين واحدة، فما يجري اليوم في الشارع لا يبشر بخير، ولابد أن تكون هنالك مبادرات عملية لتلافي ما يحدث من أخطاء، والحقيقة لا يزال الأمر تحت السيطرة شريطة أن تسهم الكتل والأحزاب السياسية في تقديم رؤية واضحة لمعالجة الأوضاع السائدة، وإعلان نقاط عملية يتم الالتزام بها من لدن الجميع، ذلك أن عدم الاستفادة من أخطاء الماضي القريب سوف تقود الجميع الى كوارث ليست في الحسبان، ومنها كوارث تعرض البلد برمته لخطر الضياع أو الانهيار.
فحري بالأحزاب والكتل وكل العاملين في الميدان السياسي إجراء التغييرات الفورية التي تضع النقاط الصحيحة فوق حروفها، ولا يصح أن تكون هناك مغالاة وإصرار على المصالح الذاتية مع الإصرار على إهمال مصالح الشعب وبناء الدولة، لذلك على الأحزاب العراقية منذ البداية أن تتعاون جميعا فيما بينها بغض النظر عن الاختلافات في الآراء أو المسارات او الرؤى، لبناء القاعدة الأساسية الوطنية المتينة التي تتحرك فيها جميع الأنشطة السياسية، تلاقيا أو تباعدا، لكي يبقى القرار السياسي عراقيا خالصا.
متى نبني نظاما سياسيا ديمقراطيا؟
أما المشهد السياسي الراهن بين الأحزاب فيقدم لنا صورة تنم عن لهاث وراء المغانم والمصالح الذاتية بدليل عدم السعي لتثبيت سياسة واضحة تدعم الشعب ومؤسسات الدولة، مع الانشغال المستمر بالصراعات الجانبية التي جرت ولا تزال تجري بين السياسيين العراقيين في الأحزاب والكتل، وهذا ما يؤكد بأنهم لم يعطوا الأهمية اللازمة لحاضر ومستقبل الدولة والشعب، ولم يشغلوا أنفسهم بالبناء الصحيح للنظام التعددي الديمقراطي، والسبب كما هو معروف، يعود الى هوس الانشغال بالمنافع الآنية كالمناصب والأموال والجاه والامتيازات الهائلة والزائلة في نفس الوقت.
إن الاستمرار بسياسة تغليب مصلحة الحزب والكتلة على سواها، هو الذي يجعل العراق معرضا لخطر قاتل، فهذا النوع من الإصرار السياسي على إنتاج الكوارث القاتلة يثير الغرابة حقا، إذ ليس هناك طبقة سياسية في العالم أجمع لا توازن بين مصالحها ومصالح الشعب، لكن الذي يجري اليوم هو إهمال وتناسي شبه تام للشعب، وتلاعب في أمواله وحقوقه وحاجاته الأساسية بل وصل الأمر حد التلاعب حتى في غذائه، ليس هذا فحسب، بل هناك إصرار على تقاسم المغانم بين الأحزاب وكأنها ليست أموال شعب وإنما ملك صرف للطبقة السياسية الحاكمة، لدرجة أن الشعب وصل به الأمر الى القبول بالسرقة إذا كانت تُنصف الشعب، وكثير من المواطنين يصرح لوسائل الإعلام، (دعهم يسرقون ولكن عليهم فقط أن يتركوا للشعب نسبة بسيطة)، هكذا وصلت الأمور الى هذا الحد ولا يزال الإيغال في إهمال الشعب مستمرا.
وما يزيد الأمر تعقيدا، هو تشبث هذه الأحزاب بالسلطة، وبعضها يسعى الى صيغ سياسية لا تنسجم مع بناء النظام السياسي الديمقراطي، وهذه النقطة بالذات تشكل خطرا على حاضر ومستقبل الدولة العراقية، فهي قد تكون بداية للعودة الى العصر السياسي الفردي الذي أحرق الأخضر واليابس، لذا لا يريد العراقيون العودة الى الوراء، وهذا يتعلق بالأحزاب والكتل السياسية وعدم إصرارها على ارتكاب الأخطاء التي قد تقود العراق والعراقيين نحو منزلق خطير يقودهم الى مربع الدكتاتورية من جديد.
اضف تعليق