لماذا نحب مفردة (وطن) نهيم بها، حد الوله مع أنها مجرد معنى لا أكثر، أحيانا بعض الأوطان تكون طاردة لأهلها، وأوطان أخرى تحتضن الناس مثل قلوب الأمهات، متى يكون الوطن حانيا جامعا لأهله، ومتى يكون طاردا لهم نحو بلاد أخرى يطلق عليها الجميع بلاد الغربة؟، وقبل ذلك ماذا يريد المواطن من الوطن؟، حكومة عادلة، سكن ملائم، ضمان صحي، حماية الرأي والحريات، ضمان الحقوق، هذه العناصر تجعل الإنسان يشعر بأنه ينتمي الى الوطن، ولا يعيش الغربة في قلب وطنه، لأن الأخير قدّم ما عليه لمواطنيه، وما على الآخرين إلا أن يبادروا بتقديم ما تريده المواطنة منهم.
ومع كل ما يجعل الفرد متعلقا بأرضه وبيئته وتراب وطنه، لكن هنالك حالات تتدهور فيها هذه الوشائج الرابطة بين الطرفين، المواطن والوطن، لذا فإن ثمة حالة اغتراب قد يشعر بها الإنسان تجاه المحيط الذي يعيش فيه، وهي مشاعر قديمة قدم نشأة البشرية، أي أنها ليست وليدة اليوم، وإنما كان البشر ولا يزال يواجه الوجود بكثير من الغموض، لكنه غالبا ما يبحث عن الحلول المناسبة لتفسير الظواهر الغامضة التي تواجهه، ويبحث أيضا عن سبل الحلول الممكنة، إذن هاجس الغربة يعيشه الفرد بسبب علاقته مع الوجود والكون، ويحاول من خلال الإيمان الحقيقي، وإقامة علاقة جوهرية مع الأديان، والمضامين الإنسانية، تحميه من الإحساس الموجع بالغربة، ولعل جل الأسباب التي تدفع بالإنسان الى الإحساس والشعور بالاغتراب، تكمن في طرائق العيش التي يحصل عليها المواطن في محيطه الاجتماعي، فإذا كان محميا من التجاوز، حقوقه محفوظة وكرامته مصانة، وقيمته الإنسانية محصّنة، فإنه في هذه الحالة لا يشعر بالاغتراب، لأنه يشعر بغنى النفس والروح والعقل، وشخصيته متوازنة، وذاته ممتلئة، على العكس ممن تتعرض شخصيته للسحق والامتهان.
الحاضنة التربوية الأولى
الغربة في التعريف المباشر لها، هي ابتعاد عن الحاضنة الاجتماعية والمكانية الاولى، لاسباب قسرية او ضغوط مختلفة، اقتصادية او سياسية في الغالب، وقد تكون غربة مكانية داخل الوطن، أي من مدينة الى أخرى، مع اختلاف المحيط الاجتماعي، وربما خارج الوطن الى بلد ومجتمع آخر، ولكن هناك أشكال أخرى للغربة!.
يقول الإمام علي عليه السلام في كتاب، درر الكلم وغرر الحكم، وفي نهج البلاغة: (الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ). هذا يدل على أنواع أخرى للغربة، قد تختلف عن الغربة المكانية، ويؤكد هذا القول، أن الإنسان قد يكون معرضا لحالة الاغتراب، والشعور بالعزلة، والمعاناة من عدم الانسجام مع محيطيه، حتى لو كانت يعيش في قلب الوطن، أما الأسباب، فقد جعل الإمام عليه السلام من الفقر، سببا أساسيا لمثل هذا الشعور الخطير، إذ كيف يمكن للإنسان أن يعاني من الغربة ونتائجها وهو يعيش في وطنه، بين شعبه وأهله وأصدقائه، فضلا عن ذكرياته وكل الجوانب التي تكمّل شخصيته وتاريخه وعلاقاته؟.
لقد أوجز النص البلاغي المذكور أعلاه، ببساطة كبيرة و واضحة، جانبين متناقضين، من العلاقة بين المواطن والغربة، الجانب الأول، الغربة خارج الوطن، والجانب الثاني الغربة خارج الوطن، والمعيار الذي يقارن بين فداحة هذه الغربة او تلك هو الغنى، أو المال، فإذا توافر المال في الغربة، شعر الإنسان بأنه محمي ومصان بقوة المال، وهو ليس بحاجة الى ان يمد يده لأحد، إن توافر الأموال أغنته عن الحاجة وهو في الغربة، لذلك فان هذا الأمر سيمنحه شعورا بالتوازن والرضى، قد لا يجده حتى لو كان يعيش في أرضه وبين أهله!، بسبب الفقر.
من هنا تحرص القوانين الوضعية، والتعاليم السماوية، والنصوص الفلسفية التي تخص حياة الفرد وعلاقاته، تحرص على أهمية احترام القيمة الإنسانية للفرد، من خلال عدم تعريضه للفقر والاحتياج، والمحافظة على حقوقه وكرامته، خاصة من الأنظمة السياسية المتخلفة التي غالبا ما تكون سببا رئيسيا في هدر كرامة الإنسان وبالتالي دفعه للشعور بالغربة حتى عندما يكون داخل وطنه.
حماية الحقوق ومكافحة الفقر
أحيانا تسود علاقة مشوشة بين المواطن والوطن، خصوصا عندما لا يشعر الإنسان بكرامته مصانة، وحقوقه محمية، ومكفول اجتماعيا وصحيا وحقوقيا، في حالة كهذه تتهشم أواصر العلاقة والثقة، ويبدأ المواطن بالبحث عن بدائل حتى لو كانت قاسية، فالمهم لدى الإنسان ليس علاقته بالأرض بقدر ضمان كرامته وحقوقه، هنا قد يكون الوطن مصدر الغربة وربما يكون المكان الأتعس في العالم، ما يدفع المواطن بالبحث عن مكان بديل أكثر رحمة واحترام وتقييم وضمان للكرامة الإنسانية.
لذلك يؤكد النص البلاغي في أعلاه، والمنسوب الى الإمام علي بأن الإنسان يمكنه أن يعيش بكرامة حتى في بلاد الغربة، إذا كان محميا بالمال، بمعنى إذا كان غنيا، يمكنه أن يعيش بطريقة تصون له كرامته، وتحمي قيمته الإنسانية، بقوة المال، لأنه سوف يكون قادرا على توفير كل عناصر الإحساس والشعور بوجود الحاضنة الاجتماعية والمكانية إذا كان غنيا، على العكس من وجوده في الوطن الأم برفقة الفقر!، الذي سيجعله معرضا للشعور بحالة اغتراب قاسية، فهو وإن كان يعيش في أرضه ووطنه الفعلي مع قومه وأهله وذويه، إلا انه بسبب الفقر سوف يعيش في حاضنة غريبة قاسية، لا توفر له الشعور بالأمان والتقدير والاكتفاء، فضلا عن فشل الوطن في تحقيق ذات الإنسان، وجعله نهبا للأفكار الانعزالية.
الفقر في حالة كهذه هو السبب الأساسي الذي يدمر إنسانية المواطن، لاسيما إذا كان النظام السياسي، لا يعير اهتماما كافيا للإنسان، ولا يهتم إلا بمن يقف الى جانبه في تعضيد حكمه وحماية عرشه من السقوط، عند ذاك ليس هناك مفر من محاصرة الاغتراب للإنسان، وليس له خلاص إلا بالبحث عن حاضنة أخرى حتى لو كانت غريبة وبعيدة عنه، كونه يشعر بالمهانة والدونية والانحطاط وهو في وطنه وبين أهله، إذاً ما هو المبرر لبقائه في محيط لا يحمي كرامته ولا وجوده!، وفي حالة كهذه تكون الغربة وطنا يحمي كرامة الإنسان بالمال، ويكون الوطن الأم طاردا لأبنائه، بسبب الفقر الذي يدمر شخصية الفرد وقيمته، بل ووجوده كله، ويجعله محاطا بمخالب الغربة وهو يعيش بين أهله وعلى أرضه، تُرى لماذا يحدث مثل هذا الشعور القاسي؟ بل المدمِّر لشخصية الكائن البشري مهما كانت درجة تعلقه بوطنه، إن الجواب ببساطة، يتعلق بضمان الحقوق المدنية، هنا تكمن فكرة الوطن والمواطنة، وهذا من أهم واجبات الدولة وسلطاتها المستقلة، وللموضوع صلة في مقالة أخرى.
اضف تعليق