إن من أهم الإشكاليات التي تواجه القانون وتضعه تحت مرصد النقد هو عدم وضوح الغاية الأساسية لوضعها، عدم الوضوح هذا هو الذي أدى إلى استغلال القانون استغلالاً سيئاً أفقده مصداقيته في كثير من الأحيان. فتارة لا يتوانى أرباب المصالح الخاصة عن إستخدام القانون وصياغته حسب ما تهدف إليه منافعهم، وأخرى تستخدمه السلطات المستبدّة لتبرير شرعيتها المطعون فيها وقمع الحريات. ومن جهة ثالثة يطغى نفس القانون ويخرج عن غايته عندما يصرّ البيروقراطيون على تطبيقه حرفياً ولو خالف روح القانون.
لذلك فإن وضوح الغاية من القانون ومعرفة أبعادها يسلب الفرصة من الذين يمتلكون النفوذ والقوّة في ترجمة القانون حسب منافعهم الذاتية. ومن هنا فإن المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي يرى ضرورة وجود مبادئ أساسية ثابتة تحكم النظام الاجتماعي العام وتشكل الغطاء الذي تتحرك في إطاره كافة الأبعاد الحيوية ومن ضمنها القانون والسياسة والاقتصاد.
أحد هذه المبادئ الاساسية التي ترسم غاية القانون وتؤطر حركته هو الحرية التي وهبها الله سبحانه إلى الإنسان وفطره عليها لتكون منهجاً معرفياً وسلوكياً للوصول إلى الطاعة اليقينية والتكامل الإنساني. ومن يقرأ كتب الإمام الشيرازي يرى أن الحرية تمثل ركناً أساسياً في صياغة نظرياته حيث «إن من أساسيات رؤية الإمام الشيرازي هو أولوية الحرية الفكرية ليس من باب الترتيب الإجرائي والحقوقي وإنما من زاوية الاهمية الذاتية لمصاديق الحرية.
هنا يتخذ الإمام الشيرازي رأياً يكاد أن يبدع فيه فيرى أن القوانين الاجتماعية هي التي يجب ان تتأطر بالحرية. إن القوانين ليست هي الحاكمة على الحرية بل الحرية هي الحاكمة على القوانين. فالإمام الشيرازي يرى من اللازم: أن تنطلق القوتان التأطيرية التشريعية والتنفيذية من الحرية الإنسانية»(1).
وعلى هذا فإن الحرية هي الغاية الأساسية التي يجب أن ينطلق القانون وفقها، فإذا لم يستطع القانون أن يضمن الحريات للمجتمع أو يحافظ عليها أو قام بمصادرتها فانه تنتفي ضرورته وجوهريته التي قام عليها.
إن الإشكالية المعقّدة التي جعلت القانون الوضعي في موضع الشك في قدرته على تحقيق الغاية هو أنه جعل الحرية في المرتبة الثانية وقدّم المصالح والمنافع الآنية التي تخدم واضعيه: «أما الغاية الحقيقية للقانون فهي تحقيق مصالح معينة هذه المصالح هي الغاية التي من أجلها أقام القانون هذا النظام الاجتماعي»(2).
فالقانون الوضعي وضع بالدرجة الأولى لتحقيق مصالح وغايات نفعية تخدم قوى النفوذ التي تصوغ القانون، لذلك فإن الحرية عندهم هي حرية نفعية عرضية وليست أصلاً مبدئياً لذلك نرى أن الدول الغربية التي اعتمدت على الاستعمار في تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية تطبّق الحرية نـــسبياً في بلادها لكنها تقمعها في البلاد المستعمرة.
ومع أن «نظام الحرية الشخصية في المجتمع الديمقراطي لا يتضمّن الحرية للمواطنين فحسب بل لجميع السكان، فان للدولة السلطة لطرد أي أجنبي مقيم على أراضيها أو أن تعيده إلى وطنه عن طريق التسليم، وليس هناك توضيح للخطر الكامن في جعل الحريات الشخصية الأساسية خاضعة لإعتبارات الصالح العام الغامض»(3).
إن القانون السليم الذي يـــحقــق الغايات من وجوده هو القانون الذي يستطيع عند تطبيقه أن يحافظ على الحريات وينظمها بشكل تتوازن فيه حريات الافراد مع عدم الإضرار بالآخرين أو سلب حرياتهم، وحينئذ وكما يقول الإمام الشيرازي لا بدّ «أن يكون القانون متوسّطاً بين إعطاء الحاجة بقدر وسلب الحرية بقدر، فمن الواضح أن كل قانون يسلب بقدره من حرية الإنسان، ولذلك يجب أن يلاحظ في وضع القانون (الأهم والمهم) وتقدير كل جانب من الجانبين سواء بالنسبة إلى حرية الإنسان ملحوظاً فيها الصالح لنفس الإنسان»(4).
وهنا يمكن القول أن الإمام الشيــــرازي يرى ذلك الرأي الذي يعبّر عن الفكر الإسلامي الأصيل أن وظيفة القانون هو فقط إيجاد التوازن بين الحريات الاجتماعية فيقول سماحته: «لا حقّ للقانون التدخّل في شؤون الناس إلا بالقدر المقرر في الشريعة الإسلامية وإلا كان خلاف قاعدة تسلّط الناس على أموالهم وأنفسهم»(5).
وفي قراءتنا لكتاب [الفقه القانون] نرى أن سماحته يعتقد في أولوية الحرية وأصالتها: «إن الإنسان يتطلب الحرية في كل شيء واقرّ الإسلام له بذلك باستثناء ما فيه إضرار نفسه وإضرار الآخرين.. كذلك يتطلب الحرية في عقيدته وشريعته ولذا أقرّ له الإسلام ذلك فقرّر له الانتخابات حيث قال سبحانه (وأمرهم شورى بينهم) وفوض إليه إختيار مرجع التقليد والقاضي وإمام الجماعة. وقد أشار القرآن إلى إمضاء هذه الحرية العقيدية والتشريعية في الإسلام حيث قال سبحانه: (لا إكراه في الدين)، (كل امرء بما كسب رهين)، (لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً)، (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) »(6).
اضف تعليق