هذا النوع من العمل من سمات التحضّر لأي أمة وشعب، وسر تقدمها ونجاحها في الميادين كافة، لذا نجد دول المؤسسات، هي الناجحة والمتفوقة على الدول الاخرى في العالم، سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافياً. وبما أن "المأسسة" تمثل وسيلة تحقيق النجاح، فإنها في الوقت نفسه ترسم نقاط التقاء وقواسم مشتركة لحقول العمل المؤسسية في الدولة والمجتمع، وتحول دون أي نوع من التشرذم والتباعد فيما بينها لأي سبب كان. ولعل ما نلاحظه ملامح العمل المؤسساتي في عديد الدول المؤسساتية، من تناسق وتواصل وتفاهم بين المؤسسات الدستورية وبين المؤسسات الحكومية والمؤسسات المجتمعية، خير دليل على ذلك. فالعاملين ضمن مؤسساتهم يتحركون جميعاً نحو اهداف واضحة ومحددة، مثل احترام النظام العام والحفاظ على معادلة "الحقوق والواجبات" ومواجهة التحديات الخارجية وغيرها.
وعندما نسمع بالدعوات المتكررة والكثيرة للعمل المؤسسي فانه – بالحقيقة- بشارة خير وتفاؤل نحو المستقبل، يفتح لعديد التجمعات بمختلف توجهاتها واختصاصاتها، آفاق العمل بنفس حضاري وحيوي طموح. سواء أ كانت تجمعات شبابية أو خيرية وانسانية او علمية وطلابية او تجارية او حتى ثقافية ودينية. صحيح إن هذه التجمعات تعمل ضمن اجواء خاصة بها، ولها آلياتها وظروفها الخاصة، بيد ان وجودها ضمن المجتمع الكبير الواحد يدعوها لأن تتوحد في الغاية القصوى والقمة التي تبغي الوصول اليها، والتي يفترض ان تتنافس عليه سائر التجمعات. كأن تكون الغاية الأهم؛ تعميم ثقافة العلم والتعلّم، او تعميم الثقافة الدينية وتكريس القيم الاخلاقية او نشر مفاهيم التعايش واحترام الآخر وحب الوطن والعمل المنتج وغيرها.
هذه الصورة والمشهد يشبهه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه: "لكيلا تتنازعوا" في الجيش الكبير الذي يخوض معركة مصيرية مع العدو، فماذا يضمّه هذا الجيش؟ هل الجنود العاديين وحسب؟ رغم انهم يمثلون الجانب الانساني المحوري، بما يحملون من دوافع معنوية عالية وقوة كبيرة. بيد أن العلم العسكري الحديث يبين أن الجيش الناجح هو الذي يتوفر على عديد القوى القتالية الموزعة على البر والبحر والجو، وهذه بدورها تتفرع منها صنوف قتالية، مثل الدروع والمشاة والبوارج الحربية والزوارق السريعة والضفادع البشرية وأسراب الطائرات المقاتلة وطائرات النقل وغير ذلك. كل هذه الأصناف المتباعدة ظاهرياً في تخصصاتها وحتى ظروف عملها واماكنها، بحيث لا يرى منتسبو القوة الجوية، الجنود المشاة إلا ما ندر في مناسبات معينة، بيد أنها تلتقي في الاهداف الاستراتيجية والغاية العظمى المرسومة لها من قبل القيادة العامة.
من هنا؛ نعرف ان التجمعات والهيئات، النقابية منها والخدماتية والثقافية، بإمكانها ان تكون خير وسيلة لجمع شمل الامة والجماهير صوب الاهداف المصيرية. وهذا ربما يكون خير مناسبة لتصحيح التصور الشائع بأن كثرة التجمعات مدعاة لتبديد القوى وزيادة في التباعد بين العاملين، ويا حبذا لو تكون هنالك مؤسسة واحدة واتحاد واحد وهيئة واحدة... لتكثيف العمل وجمع الامكانات في بوتقة واحدة تؤدي المطلوب. هذه الخشية من التعددية، هي بالحقيقة تخفي نوعاً من الفشل والاخفاق في ايجاد القواسم المشتركة لعديد التجمعات، حيث يجد البعض ان اختلاف الرؤى والاجتهادات والاذواق ربما تؤدي الى التقاطع والانقسام، وهي فرضية غير سليمة اذا اخذنا تذكرنا الحديث النبوي الشريف: "اختلاف أمتي رحمة". وإذن؛ فان القضية بحاجة الى شيء من التأنّي والبصيرة.
لنأخذ تجربة ناجحة في ظروف غاية في التعقيد والصعوبة، مثل التجربة الهندية، حيث يعرف هذا البلد بتنوع ديني وعرقي منقطع النظير في العالم، بيد أن العدد الهائل من الديانات والمذاهب والشرائح الاجتماعية، لم يمنع حزب سياسي واحد – لا أكثر- وهو حزب المؤتمر الهندي، من ان يقود الشعب الهندي بأسره لتحقيق طموحاته الحضارية الكبرى في استعادة كرامته وحريته، ثم قيادته نحو مراقي التقدم والتطور.
ويبدي سماحة الامام الراحل عجبه "كثيراً، فكيف أن المسلمين طيلة ألف سنة لم يتمكنوا من إدخال جميع الشعب الهندي في الإسلام...؟ فهل كان هذا الشعب راغبا في الاسلام، أم أن هناك قصوراً من قبل القادة؟". ثم يبين سماحته أن حزب سياسي هندي هو حزب المؤتمر، هو الذي نجح في مهمة توحيد شمل هذا الشعب. ومعروف أن هذا الحزب تأسس عام 1885، أي في ظل الاحتلال البريطاني، وكان هدفه الاول تحرير البلاد من الاستعمار، بيد ان القائمين على الحزب لم يفكروا في تحقيق هذا الهدف من خلال النخبة المثقفة او من خلال شريحة اجتماعية واعية او طبقة عاملة وغير ذلك، إنما من خلال الشعب الهندي بأكمله، وكان يوم ذاك، حوالي (300) مليون نسمة، لذا فان سر النجاح في توجيه طاقات وقدرات هذا الشعب الاعزل والفقير مادياً والغني معنوياً، في بوتقة واحدة ونحو هدف واحد وهو الاستقلال. وهذا ما تحقق على يد أحد قادة هذا الحزب وهو "غاندي".
ولكن؛ يجب ان نتذكر ان هنالك ما يهدد المنهج الوحدوي، ينبغي للعاملين في عديد المؤسسات الانتباه اليها، وهو النمو الفطري لحالة التفاضل والتعالي وربما التسقيط فيما بعد، وذلك من خلال إحصاء العثرات والثغرات، وهذا تحديداً ما يحذر منه سماحة الامام الشيرازي في مناسبات عديدة، ويدعو الى "العمل الصامت" بتخطيط وإدارة وهمة عالية، تقدم النتاج للناس بما يخدم المجتمع والامة، فيكون اصحاب العمل محل ثقة واطمئنان الناس. وهذا يتم من خلال "الاشتغال بالعيوب الذاتية، قبل عيوب الآخرين". لنفترض مدينة ما، تعمل فيها هيئات واتحادات وجمعيات بشكل مؤسسي منظم، بيد ان الكل يوجه سبابته بالاتهام والتشنيع والتشهير بوج الكل، ما تكون النتيجة؟ هل يرتجى شيء من هذه المؤسسات جميعاً في خدمة الانسان والمجتمع، وحتى خدمة نفسها؟
هذا النهج والنفس السيئ في العمل يؤدي الى انهيار العمل المؤسسي وتبديد القوى والامكانات، كما يؤدي الى خيبة أمل كبيرة في المجتمع، ثم نتائج كارثية، عندما تظهر التصدعات والتمزقات في شرائح المجتمع، وبروز جماعات تعمل على شكل مناطقي او فئوي او حتى شرائحي – إن صح التعبير- بما يعني تشطير المجتمع على هذه الجماعات بحجة أن لكل جماعة جماهيرها...! في حين إن الحالة الحضارية، تقتضي أن تكون جماهير الهيئة الطلابية او النسوية على صلة طيبة بالهيئة الخاصة بالحفاظ على البيئة – مثلاً- على أن الحفاظ على البيئة بحاجة الى قاعدة جماهيرية متفاعلة ومستجيبة. او تكون هذه المؤسسة الثقافية على علاقة تواصل مع تلك المؤسسة الاجتماعية والخيرية لتكريس ثقافة العطاء والتعاون والتعايش وهكذا... فالجماهير تنظر جميع المؤسسات العاملة بعين واحدة، لان الجميع يعمل من اجل الجميع.
اضف تعليق