الدول القوية لم يتم بناءها بالكلام، ولا التصورات، ولا الأمنيات التي تنتجها العقول الكسولة والإرادات الخاملة، فجميع الدول والأمم التي تبوّأتْ مركز الصدارة اليوم في قيادة العالم، توافرت لها إرادات عظيمة بالغة الذكاء، نقلتها من التخلف الى التقدم، ومن الخمول الى الحركة النشيطة، ومن الاستهلاك الى الإنتاج، وقدمت في ذلك جهودا وتضحيات كبرى أسهم فيها الجميع من دون استثناء، ولكن دائما كانت هنالك عقول ترسم وتصمم وتخطط، وهناك أذرع تحول ذلك التصميم الى منجز عملي قائم فعليا، فيجعل من الدولة والأمة في مصاف الأمم المتفوقة.
إذا سألنا أنفسنا كعراقيين، هل حصلنا مثل هذه العقول الجبارة وهل خرجت من بيننا هكذا رؤوس عملاقة، وهل أتيح لها أن تسهم في بناء الدولة؟؟، فعلى مدى ما يقرب من قرن مضى، أي منذ أن تأسست الدولة العراقية الحديثة قبل قرن تقريبا، لم يسجل التاريخ إرادة قوية صادقة مثالية خريطة لبناء دولة العراق، ولسنا بحاجة الى الخوض في الاسباب، فهي تكاد تكون معروفة لكل من يحاول معرفتها، وأهم المعوقات التي وقفت بوجه تحقيق هذا الهدف، عدم توافر الارادة السياسية المخلصة، لنقل العراق من مرحلة البناء العشوائي الى المنظم، وهذا الاستنتاج مأخوذ من خلاصة أحداث لعقود طويلة لم يتحقق فيها أي تقدم في هذا المضمار.
ولو أننا مررنا بصورة متفحصة بالمراحل السياسية والحكومات العراقية سنجد ما يدعم هذا الرأي، فقد ثبت قطعيا انشغال النظم السياسية الملكية، والجمهورية، بمصالحها بالاضافة الى قِصَر عمر بعضها، بسبب الصراعات على عرش السلطة، كما حدث مع الحكومات الجمهورية التي تعاقبت على حكم العراق، في السنوات الممتدة بين عام 1958 -2968، أما عقود الحكم الجمهوري، فقد تم العمل على تكريس كل وسائل حماية السلطة، والانشغال بهذا الهدف، عبر اختلاق الازمات الداخلية والخارجية وغيرها، الامر الذي ألغى جميع الفرص المتوافرة لبناء دولة معاصرة بصورة متعمّدة لكي يتمكن النظام السياسي من المحافظة على عرشه، فالشغل الشاغل للحكام العراقيين كان يتلخص بالكيفية التي تتم من خلالها عملية الحفاظ على كرسي السلطة بأية وسيلة أو طريقة أو أسلوب بغذ النظر عما يلحقه ذلك من ضرر بالحقوق المدنية.
إثارة إرهاصات وتساؤلات كبيرة
وكنا نأمل أن تتوفر فرص يمكن من خلالها أن تتغير الأوضاع السياسية والاجتماعية في العراق، خصوصا بعد عام 2003 حيث استبشر العراقيون بمرحلة بناء جديدة، بناء متعدد الجوانب، بناء يغادر الأنهاج العشوائية تماما، ويستند الى أسس صحيحة ومعاصرة، يشمل السياسة والاقتصاد والتعليم والخدمات البلدية والصحة والثقافة وما الى ذلك من مجالات أخرى، تشترك في بناء الدولة العراقية الحديثة، وفق خريطة عمل مرسومة الاهداف مسبقا، ومضمونة النتائج بعد أن تتوافر فرصة البناء القائمة على ارادة الذكاء والتصميم والتخطيط العلمي.
وقد أثارت هذه الإرهاصات جملة من التوقعات والتساؤلات منها، هل انتقل العراقيون فعلا من مراحل الصراع على السلطة كما حدث طيلة قرن تقريبا الى مرحلة بناء دولتهم الحديثة، وهل تم استبدال الانقلابات بالتداول السلمي للسلطة، وهل تم الشروع حقا في بناء دولة المؤسسات الدستورية المستقلة القادرة على حماية الحريات المدنية من تجاوز الحكام؟.
في الحقيقة علينا الاعتراف بأمرين في هذا السياق:
الأول: إمكانية بناء نظام سياسي متطور فيما لو توفرت النية الصادقة والعمل الجاد لهذا الهدف.
الثاني: العمل الجاد على التخلص من أعباء الماضي بكل ما تحمله من تعقيدات وأمراض في المجالات كافة.
وفيما يتعلق بهذين البندين، لا تزال الدولة العراقية وقادتها السياسيون مشغولون عن بناء الدولة بمصالحهم وأحزابهم وكتلهم السياسية، لذلك فإن الماضي كما هو واضح، لا يزال يلقي بظلاله الثقيلة على المرحلة الجديدة، وأن المعوقات التي كانت تقف في طريق بناء الدولة العراقية، صارت تتجدد باشكال وسبل جديدة، وأن مهزلة الفوضى الخلاقة، هي مثال صارخ على العشوائية الجديدة، التي أخذت تحد من فرص بناء دولتنا الحديثة، في ضوء خريطة طريق واضحة المعالم وسهلة التطبيق، وليس من الصعب على المراقب أن يلحظ بوضوح، غياب التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، في المجالات السياسية، والاقتصادية وسواها، ناهيك عن الانشغال شبه الكلي، بإدارة دفة الصراع، بين عناصر العملية السياسية، وفقا لتحقيق المصالح الفئوية، او الجهوية، مع غياب شبه تام للرؤية الحقيقية لبناء دولة العراق، التي تنتمي لروح العصر، ولعل المفارقة الموجعة في هذا الصدد، أن فشل السياسيين والاقتصاديين وغيرهم في بناء الدولة، يأتي في ظل الاجواء الديمقراطية وغياب أداة القمع والفردية، أما الحسابات الاقليمية والدولية، فعلى الرغم من تأثيرها على عملية بناء الدولة العراقية المعاصرة ومحاولات تعويقها، إلا أن هذا الجانب لا يمكن أن يكون سببا كافيا لعدم توافر إرادة بناء وطنية ذكية قادرة على بناء دولة عراقية حديثة.
فرص كبيرة لبناء دولة متقدمة
لذا على الطبقة السياسية أن تبحث عن الخلل الذي يقف كحجر عثرة في طريق بناء الدولة، وهذا يعني أن ضعف الارادة السياسية للنخب المعنية بهذا الامر، وجهلها بسبل التخطيط الاستراتيجي، وانشغالها بالمنافع قصيرة المدى، يشكل سببا مباشرا في عدم توافر إرادة بناء ذكية و واضحة المعالم، تسعى لبناء الدولة العراقية بطرق وأساليب معاصرة، مع أن مرحلة ما بعد 2003، تُعد منتجة لأنسب الفرص في هذا المجال، إلا أن واقع الحراك السياسي والاقتصادي وسواهما، يشير الى غير ذلك، ونعني تحديدا، يشير الى فقدان المخطط الاستراتيجي في ميادين السياسة، والصناعة، والزراعة، والتخطيط وسوى ذلك من مفاصل الدولة الهامة، فضلا عن عدم وجود إرادة ذكية لبناء الدولة، وهذا ما يدفع باتجاه إثارة التساؤلات عن الأسباب، وعن السبل والتوقيت الملائم لنهوض الدولة العراقية ككيان سياسي قائم بذاته، فارضا وجوده بين دول العالم أجمع، خصوصا أنه يمتلك أركان الدولة المتكاملة، أرضا وتاريخا وشعبا وسيادة وجيشا وثروات كبيرة.
نعم هنالك فرص كبيرة لا تزال مفتوحة وقابلة للإنجاز، هدفها بناء دولة العراق المتقدمة، ولعل المشكلة الأكثر حضورا في هذا الخصوص، تتمثل بتحجيم دور الكفاءات وإقصائها وتحييدها، بل وتشريدها اذا اقتضى الامر، وكلنا نتفق على أن خلو البلد من الكفاءات، لهذا السبب أو ذاك، وفي هذا المجال أو ذاك، يعني استمرارا للعشوائية، وتواصلا مع مراحل تعويق البناء الامثل للدولة، ومع أن النخب والقادة المعنيون، يعرفون تماما ماذا يعني تحييد الكفاءات، إلا أن المصالح ذات الأفق الفردي الآني، أو الحزبي الضيق، تقف عائقا وسدا منيعا أمام التعامل الصحيح، مع هذا الخطر الكبير، الذي يحيق بقضية بناء الدولة العراقية المحدثة، فرعاية الكفاءات واستثمار ذكاء الإرادة الوطنية بالصورة المثالية - وهو أمر ليس بالمستحيل- أمر ممكن الحدوث عندما تتوافر العقول والإرادات الناجحة لتحقيق ذلك.
وهكذا سنصل بالنتيجة الى نوع من التوافق والاتفاق الشامل، يقضي بأننا كعراقيين نحتاج الى خريطة طريق، لبناء الدولة، تنطوي على خطوات واضحة، وتشمل الميادين كافة، وهذه المرحلة التي نعيشها حاليا، تشكل فرصتنا الذهبية لتحقيق هذا الهدف، وفي حال إهدارها، فإننا قد نحتاج الى مئة سنة أخرى، لكي نحصل على فرصة أخرى، لبناء دولة العراق المتقدمة، وهذا لعمري غبن كبير وظلم لا يمكن قبوله في أي حال، أما الأمر المقبول والصحيح، فهو المساهمة في الشروع بوضع اللمسات الحقيقية لبناء الدولة الدستورية المتكاملة.
اضف تعليق