منذ أزمنة بعيدة أثبت الفكر قدرته العالية على تغيير حياة الانسان، سواءً على مستوى الفرد أو المجتمع، ومن مزايا الفكر المهمة أنه قابل للتراكم الزمني نوعا وكمّاً، وسهل الانتقال من عقل الى آخر، فيما لو قرر (العقل المفكر) نقل أفكاره الى الآخرين، أما إذا ضرب نوعا من التكتم على أفكاره (لزيادة الفائدة الذاتية فردية أو جمعية/احتكار الافكار)، فسوف نلاحظ عدم رضوخ الطرف الاخر لهذا التكتم وصنع الحواجز بين الافكار والناس، فقد وصلت أساليب تحصيل الافكار الى استخدام القوة العسكرية، أو قوة القسر (الجبر)، أو قوة المال (الشراء)، وكذلك دخل التجسس في هذا المضمار، فباتت الافكار الجديدة محل استهداف عمليات التجسس المتبادلة، في صراع الامم على تحقيق (السبق الفكري)، بأية طريقة كانت، سواءً تم ذلك بالتفاهم والتبادل المتّفَق عليه مسبقا، أو باستخدام أحد أساليب القوة التي سبق ذكرها.
هذا الاندفاع البشري المستمر، وهذا الصراع الذي لا يتوقف للوصول الى الافكار الجديدة، يدل بصورة قاطعة على أهميتها، فهي عصب الحياة كما يتّضح، وكما أثبتت التجارب والوقائع معا، علما أن (الفكر هو مصطلح يُستخدم في الدراسات المتعلقة بالعقل البشري، ويشير إلى قدرة العقل على تصحيح الاستنتاجات بشأن ما هو حقيقي أو واقعي، وبشأن كيفية حل المشكلات. ويمكن تقسيم النقاش المتعلق بالفكر إلى مجالين واسعيّ النطاق. وفي هذين المجالين، استمر استخدام المصطلحين "الفكر" و"الذكاء" كمصطلحين مرتبطين ببعضهما البعض). أما في الفلسفة، لاسيما في الفلسفة الكلاسيكية وفلسفة القرون الوسطى يعتبر الفكر أو (nous) موضوعا مهما مرتبطا بمسألة مدى قدرة البشر على معرفة الأشياء.
من هنا يصح قول العلماء المعنيين تماما، عندما يؤكدون على أن (الأفكار هي ينبوع الحياة)، فمن دون الفكر تنطفئ جذوة الحياة، ومثلما يحيي الماء كل الكائنات التي تسكن في الأرض، فإن الفكر يمثل ماء الاستمرارية لتطور الحياة، وبقائها حيةً لا تموت، ولذلك قال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عبارته ذائعة الصيت (أنا أفكر إذن أنا موجود)، فقد ربط هذا الفيلسوف ومن بعده جميع الفلاسفة والمعنيين من العلماء والمفكرين، وجود الكائن البشري بالفكر والتفكير، بمعنى اذا غابت سمة التفكير عن الانسان، سوف يتعرض للانقراض، او يصبح صفرا على الشمال في افضل حالاته، ولا قيمة له في الحياة، بمعنى أوضح، أن قيمة الانسان تساوي ما ينتجه من أفكار، واذا كفّ عن انتاج الافكار، سوف يكون مصيره الفناء بلا أدنى شك.
ليس هناك مغالاة في مثل هذه الآراء والاقوال، ولعلنا لاحظنا أن جميع الافراد الذين يعانون من الخمول والجمود الفكري، يعيشون على هامش المجتمع، لذلك عندما يتوقف التفكير لدى الانسان، يتوقف تطوره في جميع مجالات الحياة، والكارثة التي تحدث هنا، عندما يكون الانسان الخالي من الافكار قائدا، أو مسؤولا عن مصير جماعة او شعب كمال، كما هو الحال مع بعض القادة الذي لا يعرفون ماذا يعني التفكير، فقد نقلهم القدر بصورة او اخرى الى دفة الحكم، وصاروا يمارسون السلطة على الرغم من افتقارهم للقدرة على انتاج الافكار، لذلك نجد جميع الدول والشعوب التي يقودها رجال بلا عقول مفكرة، دائما تقبع في اسفل قائمة التخلف، وعلى العكس تماما عندما يقود الجماعة او الشعب رجال بعقول منتجة للتفكير، فإن نصيب الجماعة في هذه الحالة التقدم والتطور والعيش برفاهية.
لا يقتصر الامر على الشعوب او الدول وقادتها، فصنع الافكار ينبغي أن لا يكون حكرا على صفة رسمية او جمعية، لأن الفكر ذو طبيعة فردية اولا، وكثير من المكتشفات والقوانين التي غيّرت تاريخ وجه العالم وحياة البشرية كانت نتاجا لأفكار فردية، كما حدث مع القوانين الفيزيائية لألبرت انشتاين، او اكتشاف الكهرباء من لدن توماس اديسون وغيرهما، فهؤلاء الافراد تمكنوا من خلال الفكر الخلاق والذكاء والابتكار، أن ينقلوا الانسانية من حال الى حال، بل وضعوا بصمتهم الخالدة في التاريخ الكوني، وهكذا هو حال الانسان المفكر او الذي لا يكف عن التفكير، ان هذا النوع من الافراد، لا يمكن إلا أن يصطف الى جانب المتفوقين والناجحين، بسبب حراكه الفكري المتدفق على الدوام، وحتما سينعكس مثل هذا التفكير ذي الطابع الفردي، على الجماعة، دولة او مجموعة أقل، لأن السمة الاساسية للفكر تتمثل بكونه قابلا للانتشار فيما لو أزيلت الحواجز وحالات التكتم في منع الافكار عن الانتقال والتناقل بين الافراد والمجموعات.
وعندما يُقال أن الأفكار ينبوع الحياة كما في عنوان هذا المقال، فإن مثل هذه الاقوال لن تأتي من فراغ، إن مصير الافراد والشعوب والامم مرتبط بصورة اساسية مع التفكير، او بالاحرى يتأرجح وجود الامم وتميزها وقوتها وقدرتها على المطاولة والتنافس مع الامم الاخرى دعما لاستمرارية الحياة، بين وجود الفكر وغيابه، وطالما كان العقل هو مصنع الافكار والاخيرة مصنع الحياة، فقانون الاستعاضة يؤكد أن العقل غير المفكر هو كائن لا يستحق الحياة لأنه يبقى يراوح في مكانه، بل يتراجع الى الوراء، فيما يتقدم أقرانه المفكرون أشواطا الى الأمام، هذا الأمر يبيّن لنا بوضوح لا يقبل النقاش، أن الانسان المفكر على الدوام (فردا وجماعة)، هو الذي يستمر في الحياة والتفوق، ونقيضه، أي العقل الذي تنازل عن مهمته الاولى في الحياة وهي (انتاج الأفكار)، فهو سيمضي الى الموت بقدميه... هذه تحديدا أهمية الافكار، ومن هذه المكانة والاهمية، تشكل الافكار ينبوعا مستمرا لحياة لا تتعرض للانهيار.
اضف تعليق