حركة الأفكار قد لا تختلف كثيرا عن حركة أنشطة الإنسان الأخرى، وبحثه المستمر عن وسائل العيش الرغيد، والفكر الحضاري بات هدفا تسعى إليه الأمم حتى تتربع على قمة الاستقرار والإبداع والتطور، بدايةً من الفرد صعودا الى الجماعات الصغرى ثم الكبرى، ويشتبك هذا الهدف بقوة وتداخل عميق مع (التعايش)، الفكري الذي يتحول مع مرور الوقت الى تعايش حياتي، يستند على قاعدة الاحترام الإنساني المتبادّل.
التعايش تعني فهم الآخر فكرا وسلوكا، وليس بالضرورة أن تؤمن بفكره، ولكن ليس عليك أن تحجره أو تصدّه بالقوة، وليكن الاحترام هو الطريق الأوضح والأسرع في تعاملك مع الآخر المختلف، كذلك علينا أن نفهم بأن مؤشرات النضوج المجتمعي، احترام الآخر، وقبول الاختلاف، والتعامل مع الرأي الآخر بطريقة متمدنة، تدل على سعة البال والنفس والعقلية التي يحملها الإنسان، ويزن بها الأفكار والأشياء وأنماط الحياة التي تختلف عن حياته وأفكاره وقناعته، إذاً لا ينبغي لك أن تتواطأ مع الفكر المختلف، لكن لا يصح لك نسفه بأية حال، بل عليك التعامل معه بحيادية من دون أن يجبرك أحد على العمل به، او تقبل فرضه عليك من لدن الطرف الآخر، مثلما لا يجوز لك بتاتا أن تفرض رأيك وأفكارك على الآخرين بالإكراه أو القوة، أو تحسبهم من المضادين فتناصبهم العداء، وتعلن أن رأيك هو الوحيد الذي يمثل الحقيقة أما الآخرون فجميعهم صفر على الشمال!.
المعيار الأكثر دقة للنجاح؟
مثل هذه المصادرة للفكر الآخر، والتعاطي بأسلوب متغطرس لا يخدم أحدا، لاسيما أن مثل هذه الأساليب تدمر الوشائج الرابطة بين المجاميع البشرية كالمجتمعات والدول، حيث يتفق المعنيون من مفكرين وسياسيين وغيرهم، على أن درجة التعايش بين مكونات المجتمع الواحد أو المجتمعات المتعددة، هي المعيار الأكثر دقة على مدى تحضّر ذلك المجتمع، بمعنى كلما كان المجتمع ومكوماته أكثر استعدادا للتعايش والانسجام والتقارب والتناغم فيما بينه، كلما كان المجتمع أكثر تطورا وتقدما واستقرارا واقترابا من كمال التحضّر، في العيش والتفكير والسلوك على نحو عام، لذلك تعد سمة التعايش من أهم العوامل المساعدة على الاستقرار والتطور، كونها استطاعت ان توحد المجتمعات، وتجعلها أكثر إبداعا وتناغما، ومن ثم تصبح مجتمعات مستقرة ومنتجة، وغالبا ما تكون هي الأقرب من سواها لعتبة التقدم والازدهار في مجالات الحياة المختلفة.
نعم قد تكون هناك أولويات أخرى تستدعي من الدولة والمنظمات المعنية أن تقرّب بين المكونات في الفكر أو السلوك، وتنشر القناعة فيما بينهم، ونوع من الانسجام، لهذا تبدأ المجتمعات الواعية في نشر ثقافة التعايش بين الأطفال أولا، صعودا الى الفئات العمرية الأخرى، ولكن هي تضمن اولا نشر هذه الثقافة بين الأطفال لكي ينمو الإنسان وهو حاملا في تكوينه الفكري والسلوكي، ثقافة التعايش والاندماج في المجتمع، بغض النظر عن الاختلافات الفكرية والعرقية والدينية وما شابه، لهذا لا تتعرض مثل هذه المجتمعات الى أية أزمة أو حالة من حالات التطرف، والتعصب والتكفير كما يحدث في بعض المجتمعات والدول الإسلامية، حيث يلجأ كثيرون الى تكفير الآخر، لمجرد الاختلاف معه في الرأي، أو الفكر او الدين او الثقافة أو العرق وما شابه، ولكن عصرنا الراهن بدأ يرفض مثل هذه التوجهات، حيث بات العالم المتمدن يعزل بؤر التكفير ويحاصر التطرف، ويسعى لصناعة بيئة عالمية منسجمة أكثر من خلال ثقافة تعايش تزرع حالة استقرار متمدنة بين الجميع.
أساس التحضر المجتمعي
المجتمع الناجح هو الذي يخطط بطريقة ذكية لنشر التعايش بين مكوناته، وجعل هذه السمة مرتكز أساس للتحضر المجتمعي، وبالفعل تمكنت الأمم التي تقود عالمنا المعاصر، علميا صناعيا وحتى ثقافيا، تمكنت أن تتصدر الأمم الأخرى بنشر الفكر الحر الذي يتفهم الآخر ولا يجبره على استلهام فكر بعينه، وهكذا تخلصت كثير من الشعوب من حالات الاحتقان المجتمعي بسبب اختلاف المكونات من حيث طبيعة الانتماء، ولكن درجة تحضّر تلك المجتمعات وتمدنها، جعلها أكثر قدرة على الاندماج السريع، وفض الخلافات عن طريق القيمة الأرقى من بين قيم التقدم ألا وهي قيمة التعايش التي تمحو حالات الصراع، وتحول حالات التعصب والتطرف الى حالات تناغم وتفاهم وانسجام، مما يخلق حالة من الاستقرار الدائم والقوي وهذا بدوره يشجع على الإبداع وتنمية المواهب والقدرات الكامنة في دخائل الإنسان، على العكس فيما لو كانت الأجواء محتقنة ومتشنجة بين مكونات المجتمع، إذ يؤدي هذا الى قتل المواهب وتبعثر الطاقات واندثارها، بسبب حالات الصراع والأزمات المتلاحقة التي يعاني منها المجتمع الذي لا يؤمن بالتعايش ولا يعمق هذه السمة الكبيرة، فالنتيجة معروفة في حالة إهمال التعايش والتقارب بين الناس مع احتفاظهم بأفكارهم التي يؤمنون بها، إنها الفتن والصراعات الجوفاء والاحتراب وعدم الاستقرار، وكلها عناصر مدمرة للحياة المتحضرة.
وهكذا ينبغي أن يكون الهدف الأبعد والأكثر أهمية وحضورا من سواه لمجموعة العقول الخبيرة أو المخططة هو خلق ظروف مناسبة مادية وموضوعية تسهّل نشر التعايش بين الجميع، أما الكيفية التي يتم من خلالها نشر سمة التعايش بين مكونات المجتمع ابتداءً من الأطفال، فإن الأمر يتطلب جهدا وتخطيطا دقيقا وتنفيذا مخلصا من لدن الجهات المعنية، لاسيما الجانب الحكومي والجهات التعليمية التربوية المعنية، فضلا عن المؤسسات والمنظمات التي تُعنى بنشر قيم المحبة والسلام والتسامح بين أوساط الشعب كافة، ولا شك أن الدولة ينبغي لها ان تدعم هذا الاتجاه وتقدم التسهيلات اللازمة للجهات الفاعلة والناشطة في هذا المجال، إذ يتطلب الأمر نوعا من الدعم الحكومي لاسيما المادي لإقامة النشاطات المختلفة كالندوات وعرض الأعمال الفنية في قاعات عرض جيدة ومناسبة، وإقامة دورات التدريب والترويج الفعلي لقيمة التعايش بين الأطفال وجميع الفئات لضمان انتشار هذا القيمة، لتصبح في آخر المطاف منهج سلوكي يومي معتاد من لدن الجميع، وليس حالة مظهرية شكلية يتعاطاها البعض من اجل التجميل الخارجي او لتمرير أهداف سياسية أو سواها، بل من الأهمية بمكان، أن يكون العمل في هذا الإطار ذا بعد طويل الأمد أو ما يطلق عليه (إستراتيجي)، حتى يتعلم المجتمع كيف يكون متعايشا فيما بينه مع الاحتفاظ بالأفكار والمبادئ التي يؤمن بها.
في الخلاصة، ربما توجد بعض المؤشرات التي تؤكد أو توحي للمتابعين، بأنه هنالك علامات أو مؤشرات على تحرّك عالمي، يمضي باتجاه صنع بيئة عالمية للتعايش، وهو أمر غاية في الأهمية، ينبغي أن يتم تشجيعه على أفضل ما يمكن من حيث الدعم المادي والمعنوي مع أهمية إطراء كل ما يصب في هذا المضمار الحيوي.
اضف تعليق