يعتقد العراقيون جازمين، أنهم دون غيرهم من شعوب المعمورة، وأدت أنظمة الاستبداد أحلامهم، وانتهكت حقوقهم، وسرقت ثرواتهم، وسامتهم ذل العيش، لدرجة أنهم كانوا ولا زالوا يشعرون ويلمسون أن الرفاهية مفردة لا يعرفون منها إلا معناها، على الرغم من أن ثرواتهم الطبيعية والبشرية جعلت بلادهم في مرمى الأطماع الدولية والإقليمية على مر الأزمان، يُضاف الى هذا الطمع والظلم، ما أقدمت عليه أنظمة الاستبداد من جرائم ألحقت بالعراقيين ظلما قد يكون فريدا من نوعه كما يشعر العراقيون باستمرار.
وكان هذا الشعب يناضل كغيره من الشعوب ذات الحقوق المستلّبة، بيد أنه عانى من ازدواجية الثوار، فما أن يتحوّل هؤلاء من مرحلة النضال ضد الظلم السياسي وحصولهم على السلطة، حتى يتحولوا في أسرع من البرق الى قادة متنمرين وحكام مستبدين، فتبدأ مرحلة الصراع المستدام بين الشعب وبين النظام السياسي ، لذلك من يطالع صفحات التاريخ العراقي بهدوء وتفحّص، لا ريب انه سيصل الى قناعة، بأن الشعب العراقي لا يستكين للظلم مهما كان مصدره قويا وعاتيا، ومهما امتد أمدهُ، إذ سرعان ما يثور هذا الشعب على الفساد والظلم، ويُشعر الحاكم المتسلط وحكومته الباغية بالخوف من الزوال والإطاحة، الأمر الذي يدفع هذا الحاكم وحكومته الى مزيد من العنف وسفك الدماء والمطاردة وتضييق الخناق حتى على مصدر الرزق اليومي لهم، ولكن يبقى هذا الشعب كما أثبتت التجارب الكثيرة الموثَّقة، يبقى غير قانع بالحاكم والحكومة الظالمة، ويظل يتحين الفرض لإزالة النظام الحاكم، ولكن ثمة مشكلة كأداء تتمثل بسرقة جهود الشعب العراقي وانتفاضاته من لدن العسكريين والسياسيين الانتهازيين، فيأتي النظام السياسي البديل شبيها للنظام الظالم المُطاح به، وهذا ما يجعل جهود الشعب تضيع سدى في معظم الثورات والانتفاضات ليبدأ طريق الكفاح المدني مجددا، في رحلة نضالية لم يخلُ منها التاريخ العراقي بمراحله كافة.
إسقاط الحكومات الدكتاتورية
ومع كل الانتفاضات المشجعة التي قام بها العراقيون لإزاحة الأنظمة المستبدة، إلا أن هناك دائما ما يخرّب جهودهم هذه لصالح الأنظمة الفاسدة وأسيادها الدوليين والإقليمين على حد سواء، وحتما أن هناك سببا واضحا لضياع جهود العراقيين وتضحياتهم الكبيرة في إزالة الأنظمة المستبدة، وأهم هذه الأسباب غياب الرؤية الإستراتيجية للبناء الجديد، بمعنى أي أن الثوار والمنتفضين لا يضعون خططا إستراتيجية للبناء الأمثل بعد إسقاط الحكام الفاشلة والحكومات الدكتاتورية، ولهذا تجد أن هذا الشعب الثائر ضد جميع حالات الاستبداد، لا يقتنع بالحاكم المستبد ولا يخضع له ولا لبطشه ولا يستكين حيال الأساليب التضليلية المخادعة، وغالبا لا يجني ثمار انتفاضاته وثوراته بيد أن الطريق الى الصواب وترسيخ حكم الشعب يواجه مشكلات الطمع والاستبداد دائما، والسبب كما ذكرنا هو غياب التخطيط الاستراتيجي، وتحوّل حاملي بيارق التغيير من ثائرين الى مستأثرين بالسلطة ومغانمها، ناسين ومتناسين أن من يستبد في حكم الناس سوف يفشل طال الوقت أم قصر، والدليل ليس بعيدا أو معدوماً، فمن سبقهم بالاستبداد لم يجد له مكانا سوى مزبلة التاريخ.
هذه الفرصة التي حصل عليها العراقيون في المرحلة الراهنة، لا ينبغي أن تضيع سدى، لأنها ربما لن تتكرر مرة أخرى، أو أنها تطول في الغياب، لذا على العراقيين ان يتصدوا بذكاء وقوة ودراية لمستلزمات المرحلة الراهنة ونتائجها المستقبلية، بمعنى مطلوب من العراقيين الآن وضع الخطط النظرية والتنفيذية الكفيلة باستثمار الراهن السياسي والاقتصادي في البناء الأمثل للبلاد، منها وأكثرها أهمية نشر الحريات المدنية دونما عوائق بين عموم الشعب، وعدم المساس بالحقوق، وإتاحة الفرصة للانتخاب الحر، ومحاربة أوجه الفساد كافة لاسيما الفساد الذي يتعلق بالتجاوز على المال العام بشتى الطرق، وينبغي مقاضاة الأيدي التي تمتد للمال العام فورا وبقوة، لأنه أسلوب المقاضاة الفورية تعد السبيل الى حماية ما تحقق للعراقيين من انفتاح وتطور في ميادين الاقتصاد، وازدياد موار البلاد لاسيما ما يتعلق بمضاعفة تصدير النفط، إذ ما فائدة أن يصل سقف انتاج النفط في المنظور القريب الى12 مليون برميل في اليوم، بينما يبقى الشعب يعاني الفقر والجهل والتخلف والمرض والحرمان.
العراقيون ومغادرة المرحلة الحرجة
إن العراقيين كما تشير جميع المؤشرات الواقعية على الأرض يستعدون بقوة لمغادرة هذه المرحلة الحرجة من تاريخهم، وذلك من خلال نبذ التطرف بكل أشكاله وتجفيف منابع الفكر المظلم، ودرء مساوئ الأحقاد وإثارة الفتن التي باتت قديمة ومملة، وبات الشعب العراقي كله يستهجنها ويرفض التعامل معها، وهو بذلك أصبح أكثر وعيا من قادته السياسيين الذين لا يزلون متمسكين بأوراق احترقت تماما، ولم يعد لها أي تأثير على الشارع، كما يحاول السياسيون استخدامها من اجل كسب الشارع العراقي الذي أصبح اليوم أكثر وعيا من قادته السياسيين، إذ صار الشعب يتطلع للبناء الجديد ويبحث عمّن يجعله مواكبا لعجلة العالم المسرعة باتجاه التقدم والتطور، وصار العراقيون يفهمون نبض الساسة بصورة جيدة، فكلما اقتربت الانتخابات بدأت الوجوه السياسية التي تكررت على مدى الدورات الانتخابية الماضية، حيث يبدأ هؤلاء بتملق الشعب بشتى السبل، في محاولة لكسب أصواتهم ومسح مساوئهم الماضية لكن الشعب صار أكثر وعيا وسوف يختار من يستحق أن يقوده، ولا ينتخب من يبحث عن المنصب كي يستأثر به لمصلحته الفردية والعائلية والحزبية.
وقد فهم سياسيو المرحلة الماضية أن أساليبهم بشراء أصوات الناخب العراقي لم تعد مجدية، فصاروا يبحثون عن أساليب أخرى، لكنها مكشوفة أيضا، على الرغم من أنهم يمارسون الأساليب نفسها كإثارة النزعات العصبية والعرقية او الدينية التي لم تعد تنطلي على الشارع العراقي الذي اثبت انه أكثر قدرة من السياسيين على التمسك بمرحلة البناء الجديد المتطور الذي يتسق مع التطور العالمي المعاصر، لذلك لم يعد أمام السياسيين سوى أن يتطوروا بسرعة، ويرتفع مستوى وعيهم لحركة الشارع العراقي الموَّحد والمتحد، وعليهم أن يعبروا تماما الى متطلبات المرحلة الجديدة، ونعني بها مرحلة البناء الاستراتيجي للعراق، وعلى السياسيين أيضا ان يغادروا مرحلة التضليل والخداع والكسب الشخصي على حساب مصالح الشعب.
قد تلوح في الأفق بعض علامات اليأس هنا وهناك، ولكن مصابيح المستقبل هي الأشد إضاءة وحضورا من سواها، فالشعب الذي قدم ما يكفي من التضحيات والخسائر، بات واعيا لطبيعة المرحلة الحرجة، وصار الشارع يفهم بوضوح ألاعيب السياسيين التي تقترب من الخداع وتحاول التلاعب بمشاعر الشعب استنادا الى أساليب باتت بائسة مثل العزف على وتر الخلافات العرقية أو سواها، وقد تم قطع هذا الوتر ولم يعد قادرا على العزف النشاز، وهذا تحديدا ما يحتم على السياسيين ان يغادروه، ويتحركوا الى الأمام بما يتسق مع تطلعات العراقيين ونزوعهم الكبير نحو حاضر أكثر توازنا وقوة وتماسكا، ومستقبل أكثر ارتقاء ورفعة.
اضف تعليق