يتسم الشرق الأوسط والعالم العربي بالتسرع وخشونة الطباع، لوحظت سمات العنف في قراراتهم وأساليبهم لحماية السلطة وما تدرّه عليهم من فوائد، حتى لو كانت تأكل من جرفهم المدني، فالسياسي العربي والعراقي على وجه الخصوص لم يسعَ لتدريب نفسه وتطوير قدراته كي يصبح قائدا مدنيا مثقفا واسع الخيال ثاقب الرؤية، قادر على استيعاب هفوات الناس الذين يحكمهم، ففي العادة وكما يفترَض، ثمة فرق شاسع بين عقلية السياسي والإنسان العادي، فالأول لابد أن يتميز بمدنية عالية وفكر حقوقي واسع، مع إيمان لا يتزعزع بالعدالة.
لكن الواقع في الشرق عموما وفي العالم العربي يثبت وجود جفوة بين المدنية والعاملين في الميدان السياسي، يتضح ذلك من خلال السلوك الجاف للسياسيين الذين ينتمون الى المجتمع نفسه، فهؤلاء يولدون مع الآخرين من حاضنة واحدة، الضابط والطبيب والمثقف والمهنيين عموما، يحملون صفات وسمات عامة متقاربة، نتيجة لقانون الاكتساب بالتجربة، قد يتركّز الاختلاف في طبيعة العمل، لكن سمات الشخصية التي تنتج هذا العمل او ذاك، غالبا ما تكون قريبة من بعضها، بسبب تعايش مكونات الحاضنة الى جانب بعضها البعض، لهذا فالجميع يؤثر بالجميع، أما الاختلاف، فهو غالبا يمس القشور لا أكثر، وقلما يتوغل الفكر المغاير الى أعماق الشخصية، فيحدث ذلك التشابه في خشونة التعامل والتفكير معا.
وربما يكون لانعكاس البيئة دور مؤثر في هذا المجال، فإذا كانت البيئة خضراء بتضاريس مفعمة بالسعة والانبساط ينعكس ذلك في شخصية الانسان، ومن المعروف أن القسوة سمة من سمات مجتمعات الصحراء، بسبب تأثير الطبيعة، حتى وإن بدت المدنية تتفوق على المظاهر الصحراوية ماديا، فالجذور وسماتها وخصائصها تبقى قائمة، وقد يتطلب محوها قرونا متتالية من العمل الممنهَج والمدروس، لتغيير الخصائص الشخصية، فهل يمكن القول أن خصائص الصحراء إنتقلت الى الانسان منذ بواكير العلاقة المكانية الحياتية المتبادلة بينهما؟، نعم ليس هناك من شك في أن قسوة الصحراء إنتقلت الى ساكنيها من البشر، ومنهم العرب وثمة غيرهم، وهذا ما يفسر طابع القسوة في النظام العربي عموما، ليس البيئة الطبيعية وحدها تترك تأثيرها وإنما البيئة التربوية أيضا حيث سلطة الأب تزرع السلوك الحاد في طبيعة الفرد الذي ينشأ ويترعرع في بيئة تربوية حادّة.
لماذا اللجوء الى أساليب العنف؟
وعلى الرغم من أن الأوضاع البيئية للطبيعة لم تبق على حالها، بسبب التغييرات التي طرأت عليها، لكن ذلك لم ينعكس كثيرا على شخصية السياسي ولم يقلل من سلوكه الخشن، وقد تقلّصت مظاهر الصحراء كثيرا، وقلّت تأثيراتها نتيجة للثورة التكنولوجية التي حاولت السيطرة على الطبيعة ونجحت في هذا المضمار، ولكن يبدو أن الخصائص التي انتقلت لإنسان الصحراء لا تزال قائمة، ولابد أن أسبابها الجلية تظهر في النظام السياسي الشرقي عموما، والعربي المتّسم بالقسوة أكثر من الأنظمة الحياتية الأخرى، ولعل الاشكالية الخطيرة التي تسببت بها خصائص الطبيعة والبيئة، أنها صنعت منظومة سياسية بالغة القسوة من الحاضنة العربية، فمواجهة الجفاف والوحدة والاستيحاش، وربما الحيوانات المفترسة وقلة الماء والطعام، ومصادر العيش الاخرى، كلها عناصر ساعدت في بناء شخصية حادة، ومن مجموع الشخوص القساة، تكونت ونمت وتطورت الحاضنة، لتفرز بدورها نظاما سياسيا قمعيا وقاسيا، عاش ونما في بيئة متسلطة تتجسد في العائلة التي تحكمها هيمنة السلطة الأبوية التي تنتقل الى الأفراد الآخرين وتتغلغل في أفكارهم لتتحول الى سلوك متسم بالحدة والخشونة.
وثمة أسئلة يتم طرحها في هذا الخصوص غالبا، وهي جلها تبحث عن أسباب ظاهرة غياب المدنية أو ضعفها في شخصية السياسي العربي، والسؤال هنا كيف يمكن أن نفسر جنوح القادة العرب الى التفرّد بالسلطة، والاستماتة القصوى في الدفاع عن العرش، واللجوء الى أساليب العنف التي قد يكون بعضها غريبا ومبتكرا في قسوته التي تفوق التصوّر، إنها القسوة المتجذرة في شخصية القائد السياسي العربي، وربما لا يمكننا لوم السياسي لأنه ظهر بهذه الشخصية الحادة، والسبب كما قلنا، أنه وليد الحاضنة الصحراوية وخصائصها، ولكن أليس هناك مسؤوليات على الرواد دائما تفوق مسؤوليات الغير، بمعنى عندما تقود المجتمع ويتفق الجميع وفق عقد اجتماعي على منحك دفة التوجيه والقيادة، ألا يترتب على هذا العقد والتتويج القيادي مسؤوليات تقع في المقدمة منها تحديث الذات وتطوير الخصائص والصفات لشخصية القائد ومعاونيه وحاشيته بما يتسق مع التمدّن والحضارة المعاصرة التي تحرص اليوم على توفير الحياة الخالية من القسوة والعنف للمجتمع، كل هذا من أجل صناعة طبقة سياسية متمدنة قادرة على مواكبة العصر الذي تكاد تطغي عليه الدعوات المتكررة لأهمية تغليب الحوار وأساليب الحكم الديمقراطي على سواه.
إطلاق أسئلة التغيير الحقيقي
إذاً نحن بحاجة الى صناعة السياسي المتمدن، وسحبه من براثن الحاضنة السلطوية التي عاش فيها، فتشكلت منها طبيعة شخصيته وفكره ورؤيته لكيفية التعامل مع الناس في إطار السلطة، ولكن شيء من هذا لم يتحقق، ومثال ذلك أن الدولة الأكبر نفوسا في العالم العربي، مصر التي تمتلك إرثا حضاريا وثقافيا ضاربا في أعماق التاريخ، لا تزال تحكمها الخشونة ونظامها السياسي لا يزال بأيدي العسكر، وهؤلاء الرجال هم الأكثر حدة والأقل اهتماما بحقوق الناس كما أثبتت ذلك الأنظمة العسكرية التي تعاقبت على حكم المصريين وحتى هذه اللحظة.
لذلك من غير المتوقع أن يأتي التغيير الكبير في فكر وسلوك الساسة العرب على وجه الخصوص، طالما أن الأسباب لا تزال نفسها قائمة، حيث يؤكد العلماء المعنيون إن القسوة تنتج القسوة، وأن الدم يسفك الدم، وأن النار تؤجج النار نفسها، وهكذا...، فإذا كان السياسي القائد غير قادر أو مستعد لتغيير شخصيته، والتخلي تدريجيا عن سمات القسوة والعنف، فإنه حتما سيستخدم هذه الصفات وربما الملكات ضد شعبه، وهو ما حدث فعلا في معظم الانظمة العربية، فنتيجة للشخصية القيادية القاسية يتحول القائد الى دكتاتور متسلط، وطالما أنه عاش وترعرع في حاضنة اجتماعية ذات نظام أبوي سلطوي، فإن خشونة الطباع لابد أن تكون هي المهيمنة في إدارته للسلطة، فينعكس ذلك على قراراته وتعاطيه مع الأصوات التي تسعى لتنعيم خشونة الفكر والسلوك لدى السياسي بين أن ذلك يبقى بعيد المنال، بسب افتقار الجذور الفكرية والتربوية للسياسي للطبيعة الفكرية المدنية.
تُثار بين الحين والآخر أسئلة جادة من أجل التغيير والتصحيح، فهل هناك مبادرات من أجل وضع حلول ناجعة لهذه الظاهرة التي باتت لا تتلاءم مطلقا مع واقع العصر، فمن الغرابة بمكان أن لا يتنبّه السياسي العربي الى ضرورة التخلص من خصائص قسوة الماضي، وتشذيب الذات من طباع الحادة، والبحث عن عناصر التمدن ونبذ العنف، ولابد أن يبدأ ذلك من الساسة أنفسهم، ثم ينعكس على عموم مكونات الحاضنة، فيصبح الشعب أكثر استعدادا للتحضّر والتطور، ويمكن أن يكون السياسي هو المبادر الى التغيير قبل غيره من الناس، لاسيما أنه يمثل النموذج الجيد بالنسبة لعامة الناس، وبالإمكان أن يجسد الصورة المدنية المتقدمة لعموم الناس، فيصبحون أكثر تأثرا في شخصيته وفكره وسلوكه، ويصبحون أكثر قربا الى المدنية في الفكر والسلوك.
اضف تعليق