احتفاء الذاكرة واحتفال الذكرى
الإنسان يمتلك القدرة على إنشاء الرموز وتعزيز الاعتناء بها لغرض إدامتها في التعبير عن شبكة المعاني التي تجعل العالم من حوله يبدو ذو دلالة بالنسبة إليه، ولعل الرمز الديني هو الأكثر قدرة وقوة على كسب الدلالة للعالم وتوظيفها في الحياة.
وهنا نؤكد جذر الاحتفال/العيد في الممارسة الدينية التاريخية، فالمعنى الذي أضفاه الدين على الحياة والعالم وتجديد الثقة بهذا المعنى هو الذي يدعو الإنسان إلى الاحتفال/العيد، الذي يسعى في وظيفته كاحتفال–اجتماع موسمي إلى إدامة التعبير عن شبكة هذه المعاني المنغرسة دينيا وثقافيا في حياة الإنسان.
وتتداخل تلك المعاني في تكوين ورسم تصورات الفرد والمجتمع وتتسرب الى السلوك الاجتماعي الخاص والعام وتداخلها الأكثر وفرة هو إنتاج الهوية التي يكون الرمز واحدا من أهم مصادر الشحن لها والديمومة لها في ذات الفرد عبر الاحتفاء بها ذاتيا والاحتفال بها اجتماعيا، فالاحتفاء يتقدم على مستوى الوجود على الاحتفال فهو واحد من نتاج الاحتفاء، فالاحتفاء لغة هو المبالغة في التكريم.
عن الأصمعي نقلا عن الأزهري في تهذيب اللغة، والاحتفال لغة هو الاجتماع وعن الزمخشري في أساس البلاغة احتفلوا: اجتمعوا.. واحتفل: تزين ولبس ثياب الزينة، وعليه فالتكريم عنصر ذاتي والاحتفال حدث اجتماعي، ويكون مجال الاحتفاء هو الذاكرة وميدان الاحتفال هو الذكرى الموسمية التي لا تكف الذاكرة الاجتماعية عن استحضارها وإدامة الزخم في الانتماء لها، ثم انه احتفال يسعى إلى توكيد الانتماء في المجتمع في جذر تكونه واصله الأول في انبثاقه الوجودي وتكونه التاريخي، والاحتفال بهذا التوكيد الاجتماعي في الانتماء أيضا يسعى إلى شحن المعنى المحتفى به في الذاكرة بشحنة الديمومة والبقاء وإدامة الوعي الجمعي بهذا الانتماء الذي يتكفل باستحضار الدلالة وتواشج المعنى في الحياة والعالم الذي إجترحته وأسست له تلك الذكرى، وهي الوظيفة التي اشتغلت عليها اسلاميا–تاريخيا ذكرى المولد النبوي الكريم وهو ما كفل له التحول إلى طقس إسلامي خاص فالاحتفال طقس والطقس انثروبولوجيا هو العبور.
إشعارات البشارات
إذا كان الطقس يتمثل معنى العبور في الاحتفال في المولد النبوي، فان العبور هنا يسعى نحو تمثل الهوية الدينية التي تشكلت بداياتها في أوليات انبثاق المولد النبوي، وهنا يلعب التوق إلى البدايات دوره البديهي في الاستعادة الدائمة لذكرى هذه الانبثاقة–المولد من اجل تكرار إشعارات البشارات، فالانبثاق فعل وجودي تحول إليه في الذاكرة الإسلامية مفهوميا–المولد النبوي وآلياته في تكرار الإشعارات بالبشارات من خلال نقل ما أكدته صور الكرامات والأحداث الخارقة المحفورة في الذاكرة الإسلامية، والتي ترافقت مع الولادة المقدسة للنبي وهي تشغل وظيفة البشارات الكونية–الإلهية لإنبثاقات وجود جديد وغير معهود أو غير متكرر في تاريخ الأمم والأديان، وذلك ما تفسره المرويات الإسلامية في الحوادث المتعلقة أو المركبة في الذاكرة الإسلامية مع الولادة المقدسة.
فسقوط أيوانات قصور كسرى وانطفاء نار المجوس وهي لم تنطفئ منذ إن جمرت، ورؤيا الموبذان في عبور إبلا صعابا تقودها خيلا عرابا وهي تعبر دجلة وكأنها تؤذن بالعبور إلى عالم جديد حتى تتوكد دلالة الطقس–المولد النبوي إسلاميا، وفيها يتحول المولد المقدس إلى انبثاقة عالم جديد، لاسيما إذا أدركنا القوة المعرفية واليقينية في ذلك العالم القديم في تفسير إشارات الغيب وتعبيرات الرؤى والأحلام والزجر، ومن يمتلك مفاتيح المعرفة بها فهو العالِم في ذلك العالم القديم، وكانت التفسيرات العالمة وفق مفاتيح المعرفة السائدة والحاكمة لها تتنبأ أو تكشف عن إمكانية العبور الى عالم جديد أو بالأحرى تؤكد هذا العبور.
وتبقى الدلالة الأهم والمعبرة عن المعنى في كل ذلك التصور الإسلامي حول الولادة المقدسة هي دلالة النور الذي جاء يتميز عن كل البشارات الاخرى بان حاملته صاحبة الحدث الأكبر وأم النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) آمنة بنت وهب، فكل إشارات الغيب التي انعقدت مع ولادته كانت خارجية وغير مسيسة الصلة مباشرة ببيئة النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ما خلا سقوط الأصنام على وجوهها في الكعبة.
لكن النور كان على صلة مباشرة وحميمة بالنبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فقد اختصت برؤية هذا النور دون سواها آمنة بنت وهب فقد حكت هي وحكي عنها النبي محمد(صلى الله عليه واله وسلم) في الرواية الإسلامية أنها رأت نورا يخرج منها ويكشف لها عن قصور بصرى في الشام، واختلفت الرواية الإسلامية فيها هل هي رؤيا بصيرة في المنام أم رؤية بصر في الحقيقة، ولكنها بكل حال أسست لدلالة النور في مظهر النبوة أو في معنى النور كأحد أهم البشارات الذي انبثقت عنه أنوار الهداية في التأسيس الديني الإسلامي لها باعتباره – النور/الهداية يشكل مركز شبكة المعاني التي أضفاها الإسلام على العالم والحياة ووجدت تجسيدها الرمزي في الولادة المقدسة للنبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم).
فإضفاء المعنى هو في حقيقته تأسيس جديد لعالم جديد بعد إن يتجهز المعنى الجديد في الوعي الذي يمتزج به ويتكون على أسسه ويشكل إنبثاقة جديدة للفعل الإنساني، وفي حالته الإسلامية او إسلاميا أنتج حضارة وثقافة وتاريخا واجتماعا بشريا بل تطور إلى كتلة تاريخية وحضارية شكلت جزء مهما من العالم الان بعد أن كانت تشكل جزأه الأكبر، وحينها دخلت مركز العالم تاريخيا ولازالت تدافع عن مركزها الذي تعرض إلى اختلال على اثر صعود المركزية الأوربية.
لكن الثقة التي تمنحها لها تلك الدلالة المقترنة بالمولد النبوي والتي تحملها البشارات المرافقة لهذا المولد، والتي ما تفتأ تستحضرها تلك الاحتفالات بالولادة المقدسة هي التي تؤكد قدرتها بالنسبة للذات الإسلامية على حقها في الدفاع عن مركزيتها التي تعدها وعدا إلهيا وهبة ممنوحة لها على أثر إشعارات البشارات التي رافقت حادثة الولادة المقدسة أو هكذا تعي الذاكرة الإسلامية خلاصة هذه البشارات أو بالأحرى إشعارات البشارات لها.
اضف تعليق