q

لم تكن ثورة المسلمين التي قامت ضد عثمان والتي أسقطته تمثل اتجاهاً واحداً يمكن أن يُشار إليه، بل كانت ثورة عارمة مثّلت الرأي العام الإسلامي بكل توجّهاته، ورغم تعددّ تلك التوجّهات في الأغراض والمصالح والأهداف إلّا أنها دخلت تحت شعار (العودة إلى مبادئ الإسلام) وهو الشعار الذي انتصر به الثوار الذين طالبوا بالثورة.

فبعد أن أسفرت الثورة عن نتائجها المرجوّة التي كان يطمح إليها الثوار في القضاء على حكومة عثمان وقتله، وحققت غاياتها السياسية بإزالة أفراد الأسرة الأموية الذين تحكّموا بمقدرات الأمة، كان على أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يقوم بدوره الذي أملاه عليه دينه السليم وفطرته النقية وروحه النبيلة، وهو أن يقيم مجتمعاً اقتصادياً يسوده العدل الاجتماعي على أسس الإسلام الصحيح، ويعيد للأمة نهجها الرسالي لتحقيق المبادئ الإنسانية التي عمل بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودعا إليها، بعد أن هُجرت تلك العدالة لأكثر من ربع قرن.

الإصلاح وتنقية الثورة

كانت هذه الثورة بحاجة إلى إصلاح كل ما أفسده عثمان في الأمة من النظم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي خالف بها نهج الإسلام، وإزالة كل المخلّفات التي تركتها سياسته المستبدة، ومن هنا كان لا بد لهذه الثورة أن تأخذ منحى التحوّل الجذري في الجانب الروحي والفكري إضافة إلى الجوانب الإقتصادية والإجتماعية.

ثم هناك أمر في غاية الأهمية وهو تنقية الثورة من النفوس الشائبة، فهي وإن انطلقت على أساس تغيير الأوضاع الإجتماعية البائسة التي كانت تعيشها الأمة في خلافة عثمان، فإن ذلك لا يعني انحصارها في إطار هذه الأوضاع، فقد تستّر وراء هذه الغاية النفعيون الذين حُرموا من عطائها كعائشة، والأنتهازيون الذين حُرموا من المناصب التي كانوا يطمحون إليها كعمرو بن العاص الذي كان يؤلب على عثمان وقد أعلنها قائلا: (إن كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان)، كما تستّر وراءها حتى من أغدق عليهم عثمان بالأموال فلما رأوا أن الثورة قائمة لا محالة انضموا إليها في محاولة الإنتفاع منها كطلحة والزبير، فقد كان الجميع يحاول الاستفادة من هذه الثورة.

أما الذين طالبوا بالعدالة الإجتماعية والتسوية في الحقوق والرجوع إلى مبادئ الإسلام فقد كانوا يعنون علياً منذ ارتفعت أصواتها منددّة بسياسة عثمان، وقد بُويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بيعة بالإجماع لم يعرف لها التاريخ الإسلامي مثيلاً، وما أن تسلم الخلافة حتى أعلن ثورته الإجتماعية في تحقيق المساواة والعدل وإلغاء الفوارق الطبقية، فكانت ثورة شاملة أعاد فيها روح الإسلام ولا زالت جذوتها في النفوس والعقول.

جبهات الباطل

ولكن لم يكن الأمر بهذه السهولة فقد ظهرت جبهة النفعيين والتيارات المعارضة على حقيقتها إضافة إلى جبهة الشام التي يمثلها معاوية، غير أن علي الذي مثّل الإسلام بأروع صوره حتى أصبح رمزاً له لم تكن تزيده كثرة العقبات وتعددّ الجبهات المعارضة سوى عزماً وإصراراً على التغيير الجذري، فسار على هدفه حتى النهاية دون تردد وتراجع وهو على يقينه من الحق الذي هو عليه.

وأعتقد أن دراسة العدالة الاجتماعية في فكر الإمام علي (عليه السلام) تتطلب تسليط الضوء على الواقع الذي كان يعيشه المجتمع في ظل حكومة عثمان، فلو أردنا أن نتصور صعوبة المهمة التي قام بها أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا التغيير، والأسلوب الذي انتهجه والذي أصبح مثالاً في التاريخ البشري، لا بد لنا الرجوع إلى الشورى وما تبعتها من ويلات على المسلمين من تسلّط بني أمية على رقاب المسلمين وأموالهم ومقدراتهم.

مهزلة الشورى

لا تقلّ الشورى عن فلتة السقيفة مهزلة في التاريخ الإسلامي إن لم نقل إنها فاقتها من حيث تبعاتها وجرائرها التي أوغلت في النكاية بالأمة الإسلامية، وإذا كان لفلتة السقيفة السبق في إثارة النزعات العرقية التي دثرها الإسلام وتولي الخلافة غير أهلها، فقد أوغلت مهزلة الشورى في الدمار الذي لحق بالإسلام حيث ازدادت هذه الفلتة عن سابقتها في شيوع الجاهلية جهراً وإعادة الروح القبلية، كما أمعنت في التمايز الطبقي والإستبداد في الحكم والفردية في القرار.

لقد وقع المسلمون في نفس المأساة بل أشد وقعاً منها، فمُني المجتمع الإسلامي بالويلات بعد أن لبس أعداء الإسلام لباس الإسلام واعتلوا السلطة فيه، وقد أفصح أتباع عثمان وأولياؤه منذ يوم الشورى عما سيؤول إليه الواقع الإسلامي من تحكّم الإرستقراطية المُستبدة وما سينتهي إليه حاله من وضع مزرٍ لا يحسد عليه.

لم يتوقع المسلمون بعد موت عمر أن يتولّى الخلافة غير علي، فقد كان أعظم الصحابة والمرشح الأول بعد رسول الله للخلافة، وكان جميع من في الشورى يعلم ذلك، ولكن بدا أن الجميع ساورهم الطمع فيها، وحتى الذين أعطوا أصواتهم للآخرين فإنهم لم يتنازلوا عنها حتى تيقّنوا إن الخلافة لن تصل إليهم بوجود علي، فقد كان نمط تفكيرهم ووضعهم الطبقي ومصالحهم الشخصية يختلف تماماً عن نمط فكر علي في العدالة الإجتماعية وهذا ما اتضح في قوله (عليه السلام): (لقد علمتم اني احق الناس بها من غيري، ووالله لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلّا عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه) .

ونترك للطبري الحديث في نقل هذه الحادثة التي بيّنت حال المسلمين من الشورى وحددت حال المؤمنين من المنافقين يقول الطبري: (اجتمع الناس وكثروا على باب المنزل الذي ضم المرشحين الستة الذين اختارهم عمر وهم لا يشكّون بأن البيعة ستكون لعلي، فقال المقداد: (إنكم إن بايعتم علياً سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم عثمان سمعنا وعصينا). فقال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي: (إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم علياً سمعنا وعصينا). فقال المقداد: (يا عدو الله وعدو رسوله وعدو كتابه ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون) ؟ فقال له عبد الله: (ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر ((قريش)) !!!

إنه أمر قريش إذن وليس أمر الإسلام ! وهكذا كانت خلافة عثمان إمرة قرشية تحكمها أسرة واحدة وكانت هذه الأسرة أول من حارب الإسلام وآخر من سالمه خوفاً ولم تسلم أبداً، وهي الآن تسيطر على أمور المسلمين وتستأثر بخيراته دون رقيب أو حسيب، أما المسلمون فلا يحق لهم حتى الإعتراض، وقد نكّلت هذه السلطة بكبار الصحابة الأجلاء الذين اعترضوا على سياستها، ونفتهم واضطهدتهم ولم يسلم من شرها الكبير ولا الصغير وسوف نرى ما جرّت هذه الأسرة من ويلات على المسلمين.

ولنبقَ مع الطبري في هذه الحادثة الأخرى في ذلك اليوم لتوضيح موقف المسلمين من الشورى قال عبد الله بن أبي سرح: (أيها الناس إن أردتم أن لا تختلف (قريش) فيما بينها فبايعوا عثمان) فقال عمار بن ياسر: (إن أردتم أن لا يختلف (المسلمون) فيما بينهم فبايعوا علياً) فقال له: هشام بن الوليد بن المغيرة: (ما أنت وما رأت قريش لأنفسها إنك لست في شيء من أمرها وإمارتها) فتنح عنها وصاحوا بعمار وانتهروه فقال عمار:

يا ناعي الإسلامً قم فانعهِ *** قد ماتَ عرف وبدا منكرُ

لقد أوضح عمار الصورة السيئة والوضع الحرج الذي يمر به الإسلام من هذه الخلافة، أجل والله قد مات عرفٌ ودينٌ وعدلٌ وحقٌ وبدا منكرٌ وظلمٌ وجورٌ وانحراف عن الإسلام وقيمه، إن هاتين الحادثتين هما من تاريخ الطبري لكي لا يتحامل علينا البعض، وليتأكد هو بنفسه منهما، وليقارن بين أصحاب الرأيين من هم.

عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وهو من ألد اعداء الإسلام ورسوله وكتابه كما وصفه المقداد، وهو ممن قاتل النبي وآذاه ولم يسلم حتى اضطر فسالم ولم يدخل الإسلام إلى قلبه ولا يزال يكيد له، عبد الله بن أبي سرح طريد رسول الله وقد فاق في أذاه لرسول الله صاحبه المخزومي وهو القائل سأنزل مثلما أنزل محمد من القرآن ! ولا يختلف الثالث عنهما وهو هشام بن الوليد، ولهؤلاء الثلاثة قصص طويلة في حربهم لله ولرسوله، لقد كانت فرصتهم الثمينة في تولية عثمان الخلافة، وأي فرصة أعظم منها لإعادة الروح الجاهلية والارستقراطية القبلية ومحق كل ما جاء به الإسلام من مبادئ ومفاهيم إنسانية وما دعى إليه الرسول من العدالة الإجتماعية والإنصاف والحق والعدل والتقوى والعمل الصالح.

أليست مهزلة أن يقول هشام لعمار: (ما أنت وما رأت قريش لأنفسها إنك لست في شيء من أمرها وإمارتها فتنح عنها) !! عمار من أقدم المجاهدين في الإسلام يوم أجاب دعوة النبي مع أمه وأبيه فذاقوا أشد العذاب من قريش حتى استشهد أبوه وأمه تحت وقع السياط والنار.

أليست مهزلة أن يتطاول عبد الله بن ربيعة المخزومي الكافر بالإسلام ويفرض رأيه في الإسلام على المقداد بن الأسود ؟ والمقداد هو سابع سبعة ممن جاهروا بإسلامهم وأعلنوه، حاملاً نصيبه من أذى قريش ونقمتها، وهو القائل لرسول الله يوم بدر: (يا رسول الله، امضِ لما أمرتَ به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قاعدون) ولكن نقول: اذهب أَنت وربك فقاتلا إِنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق نبياً لو سِرْتَ بنا إِلى بِرك الغمَاد لجالدنا معك من دونه، حتى نبلغه) !!!

من يقف وراء هذه المهزلة ؟

لو أردنا أن نعزو كل هذه الويلات التي أصابت الأمة الإسلامية ومنها مهزلة الشورى لوجدنا أن عمر بن الخطاب قد خطط ورسم لهذه الأمة طريق الدمار ورفع لها راية الضلال والإختلاف والتفرقة، ولرأينا ذلك واضحاً في قوله لابن عباس وقد حرص أشد الحرص على تنفيذ هذا القول وتفعيله حتى بعد موته إذ قال: (يا ابن عباس إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فاختارت (قريش) لأنفسها فأصابت) !!!!!!

ومن هنا جاءت مهزلة الشورى، وفي الحقيقة إن هذا القول فيه الكثير من التزييف وهو يكشف عما في نفس عمر من إصراره على إبعاد علي عن الخلافة، وقد قالها لابنه عبد الله حينما أقترح عليه الأخير الوصية لعلي فقال عمر: (لا أتحملها حياً وميتاً) !! ولنا أن نسأل عمر متى اختارت قريش لنفسها فأصابت ؟ أحينما قاتلت رسول الله وآذته وأبعدته عن مكة ونصره عمار والمقداد وسلمان وأبو ذر وغيرهم ؟ لماذا لم تنصره قريش إذا كانت ترى نفسها أحق بالأمر ؟ ثم إنك حصرت قريش في بني أمية وهي بطن من عشر بطون تتألف منها قريش ! أليس بني هاشم من قريش ؟ وإذا كانت قريش ترى لنفسها فأحق قريش بذلك هم بنوا هاشم وأحق بني هاشم هو علي بن أبي طالب.

لقد كان المسلمون لا يشكّون أن الخلافة ستكون لعلي بعد عمر ـ كما يذكر الطبري ـ وعمر لا يتحملها حياً وميتاً، فقد كان يريد أن يكون عثمان هو الخليفة، فماذا فعل ؟ إنه لم يستطع مواجهة الرأي العام الإسلامي بترشيح عثمان مباشرة مع وجود علي، فكان لا بد من هذه الشورى المزيفة التي جعلها بيد عبد الرحمن بن عوف صهر عثمان، كما أن سعد لا يخالف رأي ابن عمه عبد الرحمن، وهكذا كان التدبير محكماً لأن تكون نتائج الشورى لصالح عثمان، وفي غير صالح علي، وبعد أحداث طويلة تم ترشيح عثمان للخلافة ولم يكن يُخفى عن علي ما خطط له عمر فأعلنها على المسلمين: (وجعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيا للّه و للشّورى. متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم، حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر لكنّي أسففت إذ أسفّوا و طرت إذ طاروا فصغا رجل منهم لضغنه، و مال الآخر لصهره، مع هن وهن) وهكذا كان لعلي أن يسلم بهذه النتيجة

سياسة عثمان

بدأ عثمان سياسته بتحويل الخلافة إلى امبراطورية، وابتدأها بتعطيل حدود الله بإعفاء عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان وجفينة من القصاص، ثم انتقل إلى استمالة القيادات القرشية في الشورى لاسترضائهم فأعطى للزبير وطلحة مبالغ طائلة، وولّى سعد بن أبي وقاص الكوفة، أما عبد الرحمن فقد أغدق عليه بالأموال لأنه صاحب الفضل في تولية عثمان الخلافة، أما علي فإنه كان معترضاً على هذه السياسة وعدّها تبذيراً وتبديداً لأموال المسلمين وتسخيرها لأغراض سياسية.

وأصبح لدى زيد بن ثابت ذهب يُكسر بالفؤوس، أما عبد الرحمن فقد أصبحت ثروته مضرب الأمثال، وكذلك يعلى بن منبه، وطلحة والزبير، ويبني عثمان قصره في المدينة غير آبه بالأموال الطائلة التي صرفت على بنائه من بيت المسلمين، كما استأثرت عائلته بأموال المسلمين حيث يروي المسعودي قوله: (لما أتي بجوهر كسرى أيام عمر وأراد أن يقسمه بين المسلمين، قال له خازن بيت المال: ليس أحد يشتريه لأن ثمنه عظيم ولكن تدعه إلى العام القادم، فأمر بوضعه في بيت المال، وقتل عمر والجوهر على حاله فلما تولّى عثمان أعطاه لبناته) !!

التنكيل بكبار الصحابة

وأوغل عثمان في دكتاتوريته بتعيينه الوليد بن عقبة بن أبي معيط الفاسق بحكم القرآن على الكوفة، وعبد الله بن أبي سرح على مصر، فاستبدا بالحكم أبشع استبداد واستأثرا بالأموال، كما جعل عثمان لمروان بن الحكم (الوزغ بن الوزغ) أمر ديوان الخلافة فهو يأمر وينهي، وغير هؤلاء فكل الذين ولاهم عثمان على البلاد تنطبق عليهم صفة الطلقاء وأبنائهم أو ممن وقفوا من الإسلام موقف العداء السافر، وهم يأخذون من بيت المال ما يشاؤون وينفقونه على مايشتهون وحينما اعترض عبد الله بن مسعود خازن بيت المال قال له عثمان: (إنما أنت خازن لنا) !!

فزادت نقمة المسلمين على هذه السياسة، ونددّ بها كبار الصحابة، فجاهر أبو ذر بخروج عثمان عن شريعة الإسلام فأصدر عثمان أمره بنفي هذا الصحابي الجليل إلى صحراء الربذة، ووقف أمير المؤمنين ليودع أبا ذر ذلك الصحابي الكبير وداعه الأخير الذي مات فيه غريباً مع زوجته العجوز فقال له: (يا أباذر، فإنّك غضبت لله تعالى فارج من غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فاترك لهم ما خافوك عليه واهرب منهم لما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عمّا منعوك، وستعلم من الرابح غداً، فلو أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد ثمّ اتّقى الله لجعل له منها مخرجاً، لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ولايوحشنّك إلاّ الباطل، ولو قبلت دنياهم لأحبّوك، ولو رضيت منها لأحقّوك)

كما جاهر بذلك عمار بن ياسر ومحمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر وعبد الله بن مسعود وغيرهم، لكن هذه الأصوات كانت تجابه بعنف السلطة، فضُرب عمار وابن مسعود فزاد سخط الناس على هذه الأعمال، وزادت نقمة المسلمين حتى أصبحت الثورة أمر لا بد منه فاندلعت الثورة العارمة ضد عثمان حتى انتهت بقتله.

جبهة النفعيين والانتهازيين

بقدر ما أزاحت الثورة الشعبية العارمة على سياسة عثمان من أعباء أثقلت كاهل الأمة الإسلامية، وآلام أقرحت صدور المسلمين، فإنها أيضاً فتحت جبهات قادها النفعيون والإنتهازيون ضد أمير المؤمنين (عليه السلام) من بطانة عثمان وأوليائه الذين فقدوا في ليلة وضحاها كل ما يملكون.

فقد كان للتحوّل الجذري السياسي الذي أحدثته هذه الثورة أثر كبير في التحوّل الاجتماعي والاقتصادي لدى هؤلاء الذين تعوّدوا على حياة الترف والقصور والمناصب على حساب الفقراء والمعدمين من المسلمين مما دفعهم إلى العداوة وشن الحرب على أمير المؤمنين (عليه السلام) بدعوى هم يعرفون بطلانها قبل غيرهم، وهي مطالبتهم بدم عثمان لأن منهم من اشترك بدمه كطلحة والزبير وعائشة التي كانت تحرّض الناس على قتله، وطالما ارتفع صوتها في المدينة: (اقتلوا نعثلاً فقد كفر)، وهم يعلمون إن علياً (عليه السلام) كان أبرأ الناس من دم عثمان رغم أنه كان من المجاهرين بالرأي المضاد القوي ضده، وأيّد ما أراده الثوار من الإصلاح لكنه لم يحرض على قتله.

لقد جرت على أثر هذه الدعوى من الدماء ما لم تجر بقدرها في حروب البسوس وداحس والغبراء. وفي الحقيقة أن هؤلاء الثلاثة لم يكن اشتراكهم في قتل عثمان، حميةً للمسلمين وغضباً على سياسته الجائرة، وإنما اشترك طلحة والزبير في قتله خوفاً من أن يطالهما غضب الثوار لأنهما كانا من بطانة عثمان والمنتفعين من سياسته، هذا أولاً وثانياً انهما اشتركا في قتله بعد أن بلغت الثورة مداها وألهبت غضبها ولم تطق كظم آلامها فدعتهما أنفسهما التي جُبلت على النفعية إلى الإنتفاع من محصّلة هذه الثورة وتخلصاً من يد العدالة الإنتقالية التي قد تطالهما.

أما دافع عائشة فكان مادياً أيضاً، لأن عثمان منعها عطاءها استناداً إلى الحديث الموضوع الذي منع به أبوها، فاطمة حقها في فدك وهو: (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث).

هذه هي الجبهة الأولى التي اتّضحت أغراضها من شن الحرب على دولة أمير المؤمنين (عليه السلام)، أما الجبهة الثانية فهم ولاة عثمان وأهل بيته وبطانته الذين وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله:

(ثم قام معه بنوا أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع).

وفي مقدمتهم هؤلاء الوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وأضرابهم

ثورة علي

بعد أن بويع أمير المؤمنين أعلن ثورته الشاملة بقوله: (لا لا يقولن رجال منكم غدا : قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول أالفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا ! ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النير غدا عند الله، وثوابه وأجره على الله . وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده . فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً وما عند الله خير للأبرار وإذا كان غداً فاغدوا علينا فإن عندنا مالاً نقسّمه فيكم ولا يتخلّفن أحد منكم عربي ولا عجمي كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر) .

كان هذا القرار في التسوية من أولى القرارات التي أصدرها (عليه السلام) بعد أن بويع للخلافة، وهو شرارة ثورته الشاملة ضد الأوضاع الإجتماعية والسياسية في عهد عثمان، وإجراء تغيير جذري لنظام قائم على الإثرة والطبقية والتفرقة في العطاء، ثم أعلن عزل ولاة عثمان وفي مقدمتهم معاوية عن الشام، واسترجاع القطائع والأموال وإزالة التمايز الطبقي الذي رفع من لا يستحق وخفض من لا يستحق، فدعا الى استرداد الحقوق إلى أصحابها بقوله:

(والذي بعث محمداً بالحق أنه لا بد أن يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سباقون كانوا سبقوا).

لقد كان هذا التغيير الثوري في ميدان العطاء يمثل خطراً على أولئك الذين أثروا ثراء فاحشاً في عهد عثمان على حساب المسلمين الفقراء واكتنزوا الذهب والفضة، كما أثار ذلك أصحاب المراكز والطامعين من أمثال طلحة والزبير الذي تمردا على مبدأ المساواة في العطاء بصرف النظر عن الإنتماء القبلي والعرقي وهو المبدأ الذي كان معمولاً به في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والذي ألغاه عمر، وجعل بدله التمايز بالإنتماء القبلي والعرقي، وبلغ هذا التمايز الطبقي حداً بشعاً في عهد عثمان وكان السبب في الثورة والانقلاب الجماهيري عليه.

لذا يمكن القول: إن إقرار الإمام (عليه السلام) مبدأ المساواة في العطاء، يُعد انقلاباً اجتماعياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات، وهو الذي عاد بالمجتمع والأمة إلى النظام الأصيل للإسلام والنهج القويم للنبي (صلى الله عليه وآله) الذي ألغى الفوارق الطبقية، وهذه السياسة كانت كفيلة بإنهاء جوع الفقير وسد حاجة المحروم الذي سببه احتكار الأغنياء للثروة، فقد أعلن (عليه السلام):

(إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني).

كما كان له موقف حاسم وحازم من الأملاك والأموال التي اقتطعها عثمان لأهل بيته وأعوانه وولاته فأعلن (عليه السلام) ردها إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال:

(ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوج به النساء وفرق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة ومن ضاق عنه العدل فالجور عليه أضيق).

هذا المبدأ، لم يرق لحاشية عثمان وأقاربه الذين كان بيت المال تحت أيديهم، وهم مروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد بن عقبة وأمثالهم، فتكلم عنهم الوليد وطلب من أمير المؤمنين من جملة كلامه أن يضع عنهم ما أصابوه من الأموال الطائلة من بيت المال في عهد عثمان فقال (عليه السلام) لهم:

(ليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم).

ثم أخذ مسحاته ومكتله ليعمل في حفر بئر وهو يردد الآية الكريمة: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).

وفي اليوم الثاني أعطى (عليه السلام) لكل من حضر دون استثناء ثلاثة دنانير وأخذ هو ثلاثة دنانير ايضاً، فقال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين.. هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال، (عليه السلام): (نعطيه كما نعطيك)

كان (عليه السلام) يعرف أن هذه المبادئ السياسية في إزالة الفوارق الإجتماعية، ستجابه بمعارضة الأغنياء الذين اتخذوا انتماءاتهم القبلية وقرابتهم من عثمان سبيلاً لاحتكار الثروات والأموال، فبدأت محاولاتهم لإستعادة مكانتهم، ومن ألف أمراً شقّ عليه فراقه، فشقّ عليهم ذلك وأنكروه، حتى صاح الزبير في مجتمع المدينة معلناً بداية شرارة التمرّد: هذا جزاؤنا من علي..! قمنا له في أمر عثمان حتى قتل، فلما بلغ منا ما أراد جعل فوقنا من كنا فوقه..!

تمرّد الزبير ونكثه البيعة

لقد أوضح الزبير بقوله هذا عن كوامنه وأطماعه، وبلغ به طمعه أن صار يتحدث بالأباطيل، فالأموال التي كان يجنيها من عثمان والتي فقدها الآن أفقدته صوابه وباع لأجلها آخرته بدنياه، فنسي أو تناسى سياسة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في توزيع الأموال التي أعادها أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أكثر من عشرين سنة، وشارك الزبير طلحة في تمرّده إلى الحد الذي بلغ بهما إلى نقض البيعة و إعلان الحرب تحت ستار الطلب بدم عثمان.

أما علي، فلم يكن الزبير وطلحة وغيرهما من الذين أشرب في قلوبهم حب المال وكثرة العطاء يثنونه عن عزمه في تطبيق شريعة الإسلام الحقّة وانتهاج نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المساواة فأعلن موقفه أمام كل المعارضين:

(أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله لا آمر به لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وأن المال مال الله).

فاتسعت جبهة المعارضة من قبل بطانة عثمان وأوليائه ليعلنوا الحرب، فكما حارب علي (عليه السلام) كفار قريش لإرساء دعائم الاسلام، فقد حمل السيف للدفاع عن مبادئ الإسلام وتطبيق شريعته، فتجسد في سياسته روح الإسلام التي تنكّر لها المنافقون فنقضوا البيعة وفارقوا الطاعة وشقّوا الصفوف بعصا الخلاف، لكن علياً لم يثنه عن موقفه المبدئي شن الحروب عليه وبقي متمسكاً به.

(مالي ولقريش والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم).

ويقول لأخيه عقيل: (دع عنك قريش وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله قبلي)

القلّة في طريق الحق

وتتسع رقعة المعارضة في الأمصار وتتسلل فلول المنهزمين من حرب الجمل مع غيرهم من الأغنياء وبقية الأمصار إلى الشام لينضموا إلى جبهة معاوية ولكن علياً القائل: (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه). لم يكن ليضيره انضمام هؤلاء إلى معسكر الباطل ورغم تأزّم الظروف فإنه كان مطمئناً وهو يحارب، حرب الحق وينتصر للعدالة بالعدل فيكتب إلى عامله على المدينة سهل بن حنيف:

(أما بعد فقد بلغني أن رجالاً ممن قبلك يتسللّون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ويذهب عنك من مددهم فإنما هم أهل دنيا هم مقبلون عليها قد عرفوا العدل ورأوه وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة فهربوا إلى الإثرة فبعداً لهم وسحقاً).

العدالة في أبهى صورها

كما ينهى الولاة عن الإثرة وتفضيل ذويهم على غيرهم من المسلمين فهم خزان للمال وليسوا بمتسلطين عليه والمال لجميع المسلمين فعندما بلغه أن عامله على أردشير مصقلة بن هبيرة الشيباني يفضّل أهله على غيرهم في العطاء كتب إليه:

(بلغني عنك أمراً إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وأغضبت إمامك إن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء).

كما يكتب إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان:

(أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض عن العدل).

ويوصي الأشتر في عهده التاريخي الخالد عندما ولاه مصر من ضمن وصاياه: (وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة فعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم).

ويأتي إليه أخوه عقيل بن أبي طالب وقد افتقر أشد الفقر وتغيرت وجوه أولاده من الجوع ليطلب من أخيه صاعاً من القمح فيصف لنا أمير المؤمنين هذا الموقف في خطبته فيقول :

(والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً، أو أجر في الأغلال مصفّداً، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها، والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سوّدت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً وكرر عليّ القول مردداً، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى).

ويأتي إليه عبد الله بن زمعة وهو من شيعته يطلب منه مالاً فقال له:

(إن هذا المال ليس لي ولا لك، وإنما هو فـيء للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم).

ويقول من خطبة له:

(من استهان بالأمانة ورتع في الخيانة ولم ينزّه نفسه ودينه عنها فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا وهو في الآخرة أذل وأخزى وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفظع الغش غش الأئمة).

وعند خروجه من البصرة قال:

(ما تنقمون مني وأشار إلى قميصه والله انه من غزل أهلي. ما تنقمون مني يا أهل البصرة وأشار إلى صرة في يده فيها نفقته والله ما هي إلا من غلتي في المدينة وإن خرجت عنكم بأكثر مما ترون فأنا عند الله من الخائنين).

ومن خطبة له (عليه السلام):

(ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادخرت من غنائمها وفراً ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ولا حزت من أرضها شبراً ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة ولهي في عيني أوهى من عفصة مقرة).

(هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى أو أكون كما قال القائل:

وحسبكَ داءً أن تبيتَ ببطنةٍ *** وحولكَ أكبادٌ تحنُّ إلى القدِّ

أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها... )

(إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك قد انسللت من مخالبك وأفلت من حبائلك).

(اعزبي عني فوا الله لا أذل فتستذلّيني ولا أسلس لك فتقوديني).

هذا هو علي النهج الإلهي المشرق الذي مثل أعظم دور في العدالة الإجتماعية في التاريخ البشري، هذه هي سياسة الحق والعدل والنبل والمساواة .. سياسة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهذه هي نفحة من نفحات هذا الإنسان المقدس، وقبساً من هديه، ولو سلكه المسلمون لصاروا من أرقى الأمم ولما تشتتوا وتفرقوا وعادت لهم الجاهلية الأولى، لكنهم للأسف حادوا عنه فتاهوا بغياهب الظلم وابتلوا بولاة الجور وحكام الضلال.

اضف تعليق