(بر مشامم ميرسد هر لحظه بوى كربلا/ بردلم ترسم بماندارزوى كربلا...)
تفوح في كل لحظة رائحة كربلاء/ أخاف أن أموت ويبقى أمل زيارة كربلاء حسرة في قلبي).
من يصدق أن أبياتا من الشعر يمكن أن تترك هذا الأثر الكبير في الأرواح.. كلما كانت تسمع هذه الأبيات تبكي بحرقة، تحن الى مكان لم أتخيل في وقتها كيف يكون ومن هو ذلك الذي أبكى العيون وجنّنَ العقول وحاربه العالم أجمع!.
أصحو وأغدو وضحكات الكون تملأ جوفي وأناشيد الطفولة تُتلى في أذني، الطفولة صفحة بيضاء، وهي روح البراءة، حينما اقلب تلك الصفحات العطرة من سجل حياتي، أراها مشرقة مملوءة بالعنفوان ممزوجة ببساتين الحب الصادق، اذكر جدتي وهي تشعل مصابيح البيت على منارات حكاياتها الشيقة، مضيئة بنصائحها العطرة وحكمها التي لا تنتهي حرصا علينا.
لكل منا ذكريات خاصة به، عندما يستعيد شريطها ويرى صورها، يتمنى ان يرجع به الزمان ليعيشها مرة أخرى ويبتسم شوقا لها، وربما عند مرور بعض منها، ينبض القلب في الصدر ويحتضر بين الأضلع مما يذكرهُ الانسان من مآسي وآلام .
وهناك ذكريات ترسخ في الذاكرة الى الأبد!، فأنت تكبر ويشيب شعر رأسك ولا تعرف السبب الذي أوصلك الى هنا، ومن ثم تدرك ان السبب فعل صدر في الماضي وترك تأثيره في حياتك!.
الآن عندما أسير في منطقة ما بين الحرمين (حرم الحسين والعباس ع)، أتذكر تلك الأبيات.... الأبيات الشعرية التي تركت في نفسي هذا التأثير الكبير!.
بينما كنت مذهولة من الطاقة الإيجابية والصفاء الروحي الموجود في المكان، رأيت لافتة مكتوباً فيها قول رسول الله (ص): إن للحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبدا.
فكرت حقاً بأن محبة الحسين (ع) تتوسع يوما بعد يوم على نطاق الكون، فمنذ ولادته (ع) كان رحمة للعالمين.... فقضية فطرس مثلا لا تُخفى على أي أحد، وفي مسيرته نحو كربلاء هناك كرامات يشهد لها المحب والمبغض!.
ها هنا مشى إمام العطاء (ع) وسقى أعداءه، رحمته ليس للإنسان فقط، بل بيديه الشريفتين رشف الخيول رشفا..
أي قائد يبكي على أعدائه؟.
في يوم عاشوراء بكى (ع) رحمة لأعدائه حيث قال: ابكي على هؤلاء لأنهم سيدخلون النار بسببي.. أي عظيم هذا الإمام؟..
ومن ثم أدرتُ بصري الى قبة صاحب الكرم والجود الذي أشاد بفضله وعلوّ قدره الأئمة الهداة، منهم سيد الساجدين وزين العابدين هو الذي لولاه لبقيت كربلاء في كربلاء وانمحت عن الوجود.
هو الذي علم الناس ان الدعاء سلاح المؤمن وربّى جيلا صالحا من خلال أدعيته، أدعيته عبارة عن دروس في العقيدة والأخلاق والفضيلة......
قال (ع) في حق عمه: "رحم الله عمي العباس بن علي، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه فأبدله الله بجناحين ليطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن ابي طالب، وان للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة".
كيف وصل الى هذا المستوى؟.. سمعتُ صوت الماء كأنه يجيب على سؤالي!.
يشير الى تضحية سيده ومولاه في اللحظة التي أدخل يديه الشريفتين داخل الماء، لم يشرب الماء رغم عطشه، ولا إراديا قرأتُ هذه الأبيات:
يا نفس من بعد الحسين هوني
وبعده إن كنت لن تكوني
هذا حسين وارد المنون
وتشربين بارد المعين؟.
بعد قراءتي لهذه الأبيات، شعرت بتفاهتي، بكثرة تمثيلي وإظهاري لحب إمام زماني، كان العباس (ع) مخلصا حقا، كان جنب الماء ولم يشرب وفاءاً لمولاه!.
أنبني ضميري، كم مرة تركت المعاصي لأجل إمام زماني (ع)؟ في كل يوم أذنب مرارا وتكرارا ولا أفكر به أصلا، وفوق ذلك نعاتبه لماذا لم يظهر؟ هل عاتبنا أنفسنا يوما؟ هل فكرنا اذا كنا سببا في تأجيل ظهوره؟ هل فكرنا أن نصلح أنفسنا لنكون من أصحابه؟.
أكثر من ألف ومائة وثمانين عاما وهو ينتظر ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصا ليملأ الأرض عدلا بعدما مُلئت ظلما وجورا..
ولكن أين نحن من العباس (ع) ألم يكن بشراً مثلنا؟.
في بعض الأحيان نغوص في محيط أفكارنا الى الدرجة التي لم نعرف أين نحن والى أين نمضي؟ وجدت نفسي متجهة نحو مقام المهدي (عج) ربما هذه إشارة من الله، يريد أن يجعل لحكايتي نهاية!.
حكاية طفولتي بدأت مع الحسين (ع)، وربما نهاية الحكاية سوف تكون مع ولده المهدي المنتظر (عج) لأنه امتداد لنوره كما ورد في كتاب الصدوق في إكمال الدين حديث لأمير المؤمنين (ع) أنه قال للحسين (ع): (التاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحق المظهر للدين، الباسط للعدل، قال الحسين عليه السلام: فقلت يا أمير المؤمنين وإن ذلك لكائن. فقال: إي والذي بعث محمدا بالنبوة واصطفاه على جميع البرية ولكن بعد غيبة وحيرة لا يثبت فيها على دينه إلا المخلصون المباشرون لروح اليقين الذين أخذ الله ميثاقهم بولايتنا وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).
كانت تبكي شوقا الى كربلاء وفارقت الحياة ولم ترى هذه المدينة المعطرة بدم الحسين (ع)، ولكن رسمت حنينها صورة جميلة على جدار قلبي. أخاف أن أمضي ولا تسنح لي فرصة لرؤية وجهه المضيء (عج) ولكن أبكي شوقا، لأرسم صورة جميلة على جدار قلب أحفادي ....
الطفولة صفحة بيضاء وروح بريئة....
وتبقى حكاية الجدة أجمل حكاية على مر الدهور.
اضف تعليق