أكمل دراسته في معهد التكنولوجيا ببغداد، وتخرج منها، حاله حال العشرات من حملة شهادة المعهد او الجامعة، يبحث عن فرصة عمل في عهد الحصار المزدوج على العراق في تسعينات القرن الماضي، بيد ان الاجواء الخانقة والحدود الضيقة آنذاك لم تخترق جدار أمله الصلب، فعزم على الهجرة، فكانت العقبة الاولى؛ الشهادة الجامعية للحصول على فرصة عمل خارج بلده، فما كان من أحد اصدقائه المقربين، التحرك نحو "سوق مريدي" لإعداد شهادة جامعية في الاختصاص الذي يحب (هندسة ميكانيك)، فكانت انطلاقته، ليس في رحاب العمل وكسب المال وحسب، إنما في رحاب كسب العلم والخبرة والتجربة، حتى بلغ به التطور العلمي أن يكون أفضل مهندس عراقي بين عشرات المهندسين في ذاك البلد، بل حتى سمعت أنه يستعان به في دول أخرى، لما ذاع له من صيت في الآفاق.
طبعاً لا أحد يجهل أهمية العلم في الحياة، والكل يعد نفسه على صلة ما بهذا الأمر، فان لم يكن طالب علم، فانه من المشجعين، مثل الابوين، او من الداعمين، مثل أهل الحكم والسلطة، لكن السؤال الذي يقفز امامنا؛ لأي حياة نريد العلم؟، هل الحياة التي ننشد فيها التقدم والنمو، ثم الرخاء والازدهار؟، أم الحياة التي تعيشها شعوبنا اليوم، ومنها الشعب العراقي؟.
إن طلب العلم في معظم الجامعات والمراكز الاكاديمية في بلادنا، لا يتحول الى عجلة للتقدم لينقل البلاد والعباد من التخلف والحرمان الى رحاب النمو والرفاهية والاستقرار في الميادين كافة، وإنما العكس – في بعض الاحيان- باضافة اعداد اخرى على جيش الموظفين الذين يستنزفون ميزانية الدولة ملايين الدولارات، وقد سمعت من أحد مؤسسي الجامعات الاهلية في العراق، وهو يتحدث عن انجازاته باعتداد، بانه تمكن من تخريج اعداد كبيرة – ولا اتذكر الرقم- من الموظفين الذين يعيلون أسرهم!!.
وإن كانت الشهادة الجامعية ذات قيمة علمية خاصة، مثل الطب والهندسة، فانها تتحول الى عجلة سريعة لصاحبها نحو الإثراء، حتى وإن كان ذلك على حساب الآخرين من افراد المجتمع.
وفي تحقيق قرأته في إحدى المجلات مؤخراً عن دوافع طلب العلم لدى الفتيات، وجدت بوضوح علائم التمرّد على الواقع الذي تعيشه المرأة العراقية، وما شكل من دوافع اساس لطلب العلم لإثبات الوجود الى جانب الرجل، وربما منافسته في جميع الاختصاصات، بدعوى أنها لا تقل عنه بشيء وغير ذلك من جدل طويل لسنا بوارد الخوض فيه. بيد أن الذي يهمنا في هذا الحيّز، ونحن نعيش ذكرى المبعث النبوي الشريف، ان نعرف كيف يحملنا العلم نحو التغيير الحقيقي لأوضاعنا المتردية في المجالات كافة؟ وإن كان هو حقاً "النور" فلماذا تعيش شعوبنا "الظلام"، رغم أنها تسعى لتقليص حجم الأمية فيما يتزاحم الشباب والشابات نحو الجامعات لطلب العلم؟.
إن النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله، وفي اكثر من مناسبة، أكد على طلب العلم، وبين مكانته واهميته، ففضله على القتال والشهادة في سبيل الله، وعلى قراءة القرآن الكريم، وعلى صيام النهار وقيام الليل لسنين طوال، وفي نفس الوقت بيّن الوجهة التي ينبغي ان يتجه اليها هذا العلم، وإلا فان العلم كان موجوداً في الصين، كما كشف ذلك بنفسه، صلى الله عليه وآله، وربما كان في البلاد الاخرى، بيد أن العلم الذي يريده للمسلمين وايضاً للبشرية جمعاء، هو ذلك الذي يحقق السعادة الحقيقية في الحياة، ابتداءً من حدود الاسرة الصغيرة، مروراً بالمجتمع الكبير وحتى الدولة والامة، فلا اسلحة فتاكة تقتل الآلاف بسرعة مذهلة، ولا أزمات اقتصادية خانقة، ولا مشاكل اجتماعية وسياسية.
جاء في حديث طويل مع أبي ذر، قال، صلى الله عليه وآله: "يا أبا ذر، عليكم بمذاكرة العلم فإن بالعلم تعرفون الحلال من الحرام..."، وفي حديث آخر مع احد الاصحاب قال: "...أما علمت أن الله يُطاع بالعلم ويُعبد بالعلم، وخير الدنيا والآخرة مع العلم، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل". وقال ايضاً: "...وأكثر مدارسة العلماء ومناظرة الحكماء في تثبيت سنن العدل على مواضعها، وإقامتها على ما صلح به الناس؛ فإن ذلك يحيي الحق ويميت الباطل ويُكتفى دليلاً به على ما صلح به الناس، لأن السنة الصالحة من أسباب الحق التي تعرف بها، ودليل أهلها على السبيل إلى طاعة الله فيها".
هنا تحديداً نعرف لماذا يكون العلم "فريضة على كل مسلم ومسلمة"، كما هو الصلاة والصيام وسائر الفرائض العبادية، فبهذه الفريضة نبغ علماء أفذاذ مثل جابر ابن حيان هشام بن الحكم وغيرهم في عهد الامام الصادق، عليه السلام، وايضاً من جاء بعدهم في العهود اللاحقة وحتى اليوم، فقد اخترق العلم لدى هؤلاء حدود الذات والمصالح الشخصية والفئوية، الى حيث مصالح الامة، فكانت الاكتشافات في مجال الهندسة والبناء والفلك والكيمياء والطب الى جانب العلوم الدينية التي تنظم حياة الانسان.
لذا نحن بحاجة الى مراجعة شاملة لمنظومة التفكير والتخطيط في طلب العلوم المختلفة لتحديد الوجهة التي يستفاد منها، لاسيما ونحن نعيش فرصة الحرية في العراق – مثلاً- فمن الجدير توجيه العلم والعلماء نحو الابداع والتطوير وتفجير الطاقات والمواهب بما يخدم البلاد والعباد حاضراً ومستقبلاً. وهذه مسؤولية تنقسم بين المجتمع وبين الدولة، فطالب العلم عليه توسيع نطاق تفكيره وطموحاته، كما على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في رعاية هذه الطاقات والقدرات، وتشجيع طلبة العلم والعلماء على العطاء المستمر واعتبار طلب العلم، ومن ثم الحصول على الاختصاص في العلم، مسؤولية وطنية واخلاقية وحضارية.
اضف تعليق