q

آثار الخوف كانت ظاهرة في ملامح وجهه، كان مطأطأ الرأس، دنا مني فلذة كبدي (ابني) ليخبرني عما صدر منه من دون أن يقصد، كان متلكئاً ولا يعرف من أين يبدأ!. آثار الارتباك كانت واضحة عليه ايضا، أخذ شهيقا عميقا كي يتحلى بالشجاعة ليخبرني بالخطأ الكبير الذي ارتكبه، تكلم معي.. كلماته المرتبكة الخائفة وهي تنقل لي فعله الخاطئ، أشعلت في خلايا جسدي لهيب الغضب!.

في تلك اللحظة فقدت توازني وعقلي، وكدت أرتكب خطأ آخر....

ربما لو لم تقع عينيّ على اللافته لأبرحته ضربا وجعلته معاقا طوال عمره، ولكن تغيّر كل شيء، عندما وقعت عيني على اللافتة التي كتب فيها والدي بخطه الجميل: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) صدق الله العلي العظيم.

كان خطاطا ماهرا، رحل وترك أثرا جميلا وراءه، ادركت الآن أن دوري قد جاء كي أقوم بواجبي كأب ازاء ولدي، كما قام والدي بواجبه عندما كنت أتعرض للمشاكل، كان والدي يقول:

مسرح الحياة

الحياة مثل خشبة المسرح تعرض بطولات جميع الاشخاص الذين يولدون فوق هذه الكرة الأرضية، كل شخص يقرأ قصته على الآخرين وينزل من المسرح.

العرض مفتوح للجميع بشكل دائمي، لا يُستثنى أحد من تقديم دوره في مسرح الحياة، ولكن نادر وقليل وعظيم ذلك الذي يبقى خالدا في جميع الأذهان، من خلال المواقف الانسانية الجميلة التي يقدمها للآخرين، فيزرع الأمل والخير والمحبة والحرية والحق والجمال في نفوسهم المتعطشة للأمل والخلاص من متاهة الحياة.

لكل انسان بصمته في الدنيا التي نعيشها من الناحية الجسدية، ويمتلك البعض بصمة خاصة في الأخلاق والتعامل مع الآخر، حيث يتركون فيك أثرا جميلا مدى الدهر، حيث تموت مرارا وتكرارا بعد رحيلهم، الغربة أصعب أمر قد يضطر لها البعض، إذ يتعرض لها أما إرادياً وأما لا إرادياً، فنبتعد عمن نحب قسراً، فالغربة فاجعة في آثارها التي تتركها علينا، لأنها تبعدنا مسافات طويلة عن أولئك الذين شاركونا اللحظات الجميلة، الغربة جرعة مرة المذاق عليك أن تجرعها مضطرا، ولكن صعب عليك هضمها، ستموت معها وبدونها، ربما سيمتحنك الباري عز وجل بالغربة، لما لها من آلام ومصاعب لا تحصى، كيف سيتكون عذاب الغربة وأنت عالق فيها، بعد أن يرحل عنك الظل الحنون الذي كنت تأوي إليه في كل حين؟.

كيف ودع الحياة؟ كيف أخذ الموت يخنق بيديه القويتين ذاك الذي لم أعرف، هل كان ملَكاً ثم أصبح والدي، ام بعدما صار والدا أصبح ملَكا؟.

ربما كان آخر أمنيته ان يراني، وما أقسى تلك اللحظات على الانسان، فكل شخص في لحظات وداعه لهذه الدنيا يريد أعزائه موجودين الى جنبه، وبينما كنت انظر الى اللافتة التي كانت معلقة أمام بصري على الحائط واقرأ: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)، أخذتني هذه الكلمة (كاظم) الى قعر السجون، وتساءلت مع نفسي، كيف تحمل موسى بن جعفر (ع) تلك الغربة القاسية، طيلة تلك السنوات الثقيلة المريرة العجاف، كم اشتاق الإمام لرؤية أحبائه؟.

عندما كتب والدي هذه الآية المباركة، توجه إلي قائلا: في كل لحظة من حياتهم يوجد درس لمن والاهم، فقد اتّخذ الامام من السجن مسجداً، ومن وحشة الحبس وغربته ووحدته معتكَفاً ومؤنِساً بذكر الله وقربه سبحانه، فنهاره كان صياماً، وليله كان مناجاة وقياماً .

روى أحد الّذين كُلِّفوا بمراقبة الامام (ع) في سجن عيسى بن جعفر في البصرة، أنّه سمع الامام يقول :(اللّهمّ إنّك تعلم أنّي كنتُ أسألك أن تفرغني لعبادتك، وقد فعلتَ ذلك فلكَ الحمد).

وسألته لماذا دخل في السجن؟ فقال: لأنه نور يستضيء به العدو والصديق، حيث يشهد على هذا أعداء الإمام قبل أصدقائه، ومن هؤلاء الأعداء فضل بن ربيع وصاحب السجن في البصرة.

نور لن ينطفئ الى الأبد

لذلك نجد الخليفة العباسي خوفا من تأثير الامام (ع) الكبير على الناس، سارع الى عزله عن جميع الناس خوفا من تأثيره فيهم وعليهم، فأدخله في السجن لكي يطفئ نوره، ولكن الله سبحانه (متم لنوره):

(نور يتدفق من أعماق الأرض

ويدان ترتعشان مرفوعتان نحو السماء

وعينان تنهمر منهما الدموع

ولسان يتمتم في قعر السجون :

يا مخلِّص الشجرِ مِن بينِ رمل وطين!

يا مخلِّص النار من بين الحديد والحجر!

يا مخلِّص اللبن من بين فَرْث ودم!

يا مخلِّص الولد من بين مَشيمة ورحِم!

يا مخلِّص الروح من بين الأحشاء!

خلّصْني من سجن هارون).

ها أنا الآن أقرأ كلمات والدي وأنا أعاني من غربة رحيله، وفي لحظة فكرتُ كيف أثرت بي بصمةُ والدي التي تركها في حياتي، تأملتُ ذلك بعمق وخشوع لم اشعر بمثله من قبل، كظمتُ غيظي تأسيا بإمامي، أخذت ولدي الى المشفى لنبحث عن الشخص الذي دهسه بسيارته بلا قصد طبعا، وقلت له: لو نفترض انك تهرب من مسؤولية هذه الحادثة، هل باستطاعتك ان تهرب من ضميرك الذي سيؤنبك مدى الحياة؟؟.

اضف تعليق