كان المقاتلون في جيش أمير المؤمنين يريدون النصر والغلبة على جيش معاوية على شاكلة الحروب الأخرى؛ قتال، وقتل، ثم النصر، ثم الغنائم بأي ثمن، بينما النصر في منهج امير المؤمنين كان أكبر بكثير وأوسع من هذه النظرة الضيقة، فهو انتصار للقيم والمبادئ، وليس انتصار السيف على السيف...
"وَاللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ"
أمير المؤمنين، عليه السلام
هل لأنه كان على حق وقاتله على باطل؟ فما أكثر المغدورين والشهداء في معارك الحق والفضيلة من يسقطون قتلى على مر التاريخ.
عندما شدّ حيازيم الموت في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة، مستعداً لأداء فريضة الصبح في مسجد الكوفة، كان قبلها قد شد حيازيم الموت لساحة المعركة مع (القاسطين)، المتمردين من أنصار معاوية في الشام.
كانت قوات الجيش الإسلامي متجحفلة في "النخيلة" قد هيئها الإمام لاستئناف القتال ضد المتمردين من أصحاب معاوية، علماً أن ميزان القوة العسكرية كانت لصالح الجيش الإسلامي في صفين لولا خديعة المصاحف، وهذه نقطة فارقة لابد من التوقف عندها، علّها تفيدنا في الإجابة عن السؤال الآنف الذكر، ونلامس جانباً من شخصية أمير المؤمنين.
قوة عسكرية هائلة من دون إيمان
صدق قول القرآن الكريم في جيش أمير المؤمنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}، فالمسلمين آنذاك كان تعدادهم اثني عشر مقاتل، وقد خرجوا للتو من فتح مكّة، معززين مادياً ومعنوياً، ولكن في ساحة المعركة اختلف الأمر، فكان التوكل ليس على الله، بل على الكثرة والتعصّب للعشيرة والقبيلة وللذات ايضاً.
في تلك الغزوة كان النبي الأكرم هو قائد الجيش الإسلامي، في ظروف استثنائية للغاية، فهو رسول الله، وكان يقاتل على التنزيل، ولكل حركة وسكنة منه متابعة دقيقة من السماء، لذا كانت اليد الغيبية تنصره على أعداء الدين والرسالة لتكون عبرة للأجيال الأخرى، بيد أن الأمة على موعد مع من يقاتل على التأويل فقد تُرك الأمر اليهم، وما صنعوا بعد رحيل رسول الله، فهو مما جنت يداهم، وهم من ظلموا انفسهم، وهذه الزاوية المظلمة التي خشيها أمير المؤمنين عندما رفض دعوتهم للقيادة السياسية، وقال: "أنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً".
في تلك اللحظات الأخيرة والعصيبة ترك أمير المؤمنين جيشه المتجحفل خارج الكوفة، تحفه الفرقة والتمزق والتشكيك، فقد ورثوا حقبة الفساد الإداري، والدجل الديني، والفشل السياسي المريع في إدارة شؤون الامة، مما خلق في النفوس حالات الازدواجية والنفاق والوصولية، مع استعادة العصبيات الجاهلية هيبتها في النفوس، فمعظم المقاتلين كانوا يدينون بالولاء لقبائلهم قبل الولاء لأمير المؤمنين الذي لم تكن الغالبية العظمى ترى فيه الإمام المعصوم المفترض الطاعة، ما خلا القلّة "ممن وفى لرعاية الدين"، فيما الباقون بين لاهث خلف المكاسب والرواتب والغنائم بكل ثمن، وبين جبان يتستر بالولاء الكاذب.
يكفي أن نعرف مدى السطحية في الفهم والإيمان في قومٍ يريدون ان يكون القائد جندياً مثلهم وسط المعركة بظنهم تعزيزاً لمعنوياتهم وتحفيزاً لهم على قتال معاوية.
هذا ما نقرأه في نهج البلاغة "عندما جمعهم –أمير المؤمنين- وحضهم على الجهاد فسكتوا مليّا، فقال عليه السلام: ما بالكم! أمُخرسون أنتم؟! فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين؛ إن سِرتَ سِرنا معك، فقال، عليه السلام: ما بالكم! لا سُددتم لرُشد، ولا هُديتم لقصد، أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟! وإنما يخرج في مثل هذا رجلٌ ممن أرضاه من شجعانكم، و ذوي بأسكم، ولا ينبغي لي أن أدع الجُند والمِصرَ وبيت المال وجباية الأرض، والقضاء بين المسلمين، والنظر في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى، أتقلقل تقلقل القِدح في الجفير الفارغ، إنما انا قطب الرحا..."، وللكلام البليغ والمؤلم تتمة لمن يريد المتابعة في "النهج" الخطبة 119، لنتصور الى أين بلغ الخذلان أن يطلبوا من قائدهم وإمامهم المشاركة معهم في القتال ليؤكدوا بأنفسهم مدى تشكيكهم بحقانية موقفهم، وقد أنبأهم، عليه السلام، في مناسبة أخرى: "عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً".
نصرٌ عظيمٌ ومستدام على طريقة أمير المؤمنين
كان المقاتلون في جيش أمير المؤمنين يريدون النصر والغلبة على جيش معاوية على شاكلة الحروب الأخرى؛ قتال، وقتل، ثم النصر، ثم الغنائم بأي ثمن، بينما النصر في منهج امير المؤمنين كان أكبر بكثير وأوسع من هذه النظرة الضيقة، فهو انتصار للقيم والمبادئ على طول الخط، وليس انتصار السيف على السيف، ومن نافلة القول هنا؛ كُره الإمام، بل ورسول الله من قبله، والأئمة المعصومين البدء بقتال الطرف المقابل، إلا بعد إلقاء الحجج والبراهين، وظهور العناد والإصرار على الظلم والعدوان والبغي.
استمرت المعارك بين جيش الإمام وجيش معاوية في صفين مائة وعشرة أيام، منها ليلة الهرير الشهيرة بضراوتها وحدّتها حيث سقط عدد كبير من القتلى بين الجانبين، وفي كتابه؛ "علي من المهد الى اللحد"، يقول الخطيب والعلامة السيد كاظم القزويني، أن معارك صفين أزهقت أرواح حوالي مائة وعشرة آلاف انسان بسبب تمرد وبغي معاوية، تسعون ألفاً من أهل الشام، وعشرون الفاً من جيش أمير المؤمنين الذين كانوا على وشك الغلبة لولا خديعة ابن العاص وانقاذه معاوية من الهلاك، ولما رفعت المصاحف ساد اللغط في جيش الامام، ومرق منه من انكشفت حقيقة ايمانهم، فقالوا بتحكيم كتاب الله بدلاً من أمير المؤمنين ومعاوية، ولكن عندما اكتشفوا أن صياغة وثيقة الهدنة تعطي الحق لجيش معاوية وأنهم مسلمون، وهو ما لم يرض به أمير المؤمنين، وسمع البعض أن أمير المؤمنين محى كنيته "أمير المؤمنين" من وثيقة الهدنة، هبّ أصحاب الجباه السود، والعبادة السطحية، وصاحوا: "لا حكم إلا لله"، وأنكروا على الاشعث بن قيس ما اتفق عليه مع ابن العاص، ثم طلبوا من الإمام نقض المعاهدة والتوبة لما قام به من التنازل عن إمرة المؤمنين، وإلا فانهم يكفروه، وكان من المؤكد رفض الامام لطلبهم، لأنهم يطلبون القتال ونقض الميثاق والعهد وهو منهيّ عنه في القرآن الكريم.
مرِق أربعة آلاف من الخوارج من جيش الإمام، وانضم اليهم ثمانية آلاف، وراحوا يفسدون ويفتكون بالناس، وارتكبوا جرائم بشعة يذكرها التاريخ، فما كان من الإمام إلا أن يقاتلهم في النهروان ويقضي عليهم، ولم ينج منهم سوى تسعة اشخاص، علماً أن أمير المؤمنين أفلح في هداية ثمانية آلاف منهم الى طريق الصواب قبل المعركة بحججه البالغة وبراهينه الواضحة.
إن فشل جيش أمير المؤمنين في تحقيق الانتصار بالطريقة الجاهلية، ألحق بهم هزيمة نفسية مُنكرة، فقد اغتروا بكثرتهم وأنهم يمثلون الدولة الإسلامية، والقوة العسكرية الشرعية، معززين بالامكانات والأموال متغافلين عن الإيمان والأخلاق، وهي من أهم ركائز المعنويات في أي جيش ظافر، وقد حاول الإمام تبيين هذه الحقيقة بأن من يقاتلونهم من أهل الشام إنما مجتمعين على الباطل، ومؤمنين ومطيعين لباغٍ ومتمرد على الدين، بينما هم متفرقون عن الحق وعمّن قال فيه رسول الله: "عليٌ مع الحق والحق مع علي".
هذا الاضطراب النفسي والقلق جعل الاجواء في الكوفة مشحونة في الايام الاخيرة من حياة أمير المؤمنين، فقد كان يريد انقضاء فترة العام المثبتة في معاهدة الهدنة مع معاوية –يقول العلامة القزويني- فظهرت حسيكة النفاق عند بعض اركان جيش الإمام مثل؛ الاشعث الكندي وأشباهه ممن تسبب في نكبة التحكيم، الى شكل دسائس ومؤامرات لاغتيال الإمام، علماً أنه، عليه السلام، دعاهم لرصّ الصفوف، وحضّهم على القتال ثانية مع جيش معاوية الذي استغل التخلخل في الجيش الإسلامي بشن غارات عدّة يذكرها العلامة القزويني، انتهك فيها العهد والميثاق، وارتكب جرائم بشعة ضد الأطفال والنساء في مناطق مختلفة من البلاد الإسلامية، وفي "النهج" تأوهات ومناشدات تدمي القلب لأمير المؤمنين لأهل الكوفة بأن يهبّوا لنصرة الدين ومقاتلة البغي والعدوان والظلم.
كانت تحركات المنافقين والخونة مريبة في الكوفة، وهي لم تكن بعيدة عن أنظار الإمام، بيد أنه لم يتخذ الاجراءات الامنية ضدهم، فلم يصدر -مثلاً- قرارات حظر الاجتماعات، او الاعتراض، وحتى الاتهام، ومن هؤلاء كان عبد الرحمن بن ملجم المرادي، الذي يقول عنه السيد القزويني أنه "كان على رأي الخوارج"، ويذكر المؤرخون ومن كتب في سيرة حياة أمير المؤمنين، تفاصيل لقاء الإمام بهذا الشقي مرات عدّة، أولها؛ لدى بيعته، فكشف، عليه السلام، عن حقيقة يهوديته، وأنه أشقى الآخرين، وأنه ليس طاهر المولد، وهي مواصفات قاتله، وحتى في اللحظات الاخيرة قبل حادثة الاغتيال، جرى حديث عابر معه، وكان بإمكان الامام اتخاذ الاجراءات الاحترازية البسيطة مثل تعيين رجال لمراقبة المكان -مثلاً- لكنه لم يفعل، وترك الأمور تسير وفق ما قدر لها الله -تعالى-، ولعل الامام لم يكن يرغب أن يحرم أحداً من الصلاة جماعة بدعوى الاجراءات الأمنية! والله العالم.
في كل الأحوال وقعت الواقعة، وتهدمت أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى، وكان أول رد فعل من الإمام، هتافه المدوي: "فُزت و رب الكعبة". إنه الفوز الذي يعلّمه أمير المؤمنين أيانا، وكل انسان مسلم ومؤمن يريد أن يموت على الإسلام بكرامة؛ الفوز للقيم والمبادئ وليس للسيف والخديعة والغدر والرذيلة، ولعله، عليه السلام، يكون أول من أسس لمبدأ انتصار الدم على السيف.
اضف تعليق