رغم الظروف القاسية بقي الامام الحسن صامداً لم ينتقص الشتم من حلمه، ولا الظلم والبغي من شجاعته وإقدامه، ولا الحرب والاستفزاز من سلميته، ولا البخل بالمال والنفس بالسخاء والعطاء لمن خذلوه من جماعته، وحتى لمن قاتله من أعدائه...
"اللهم إني أحبّهُ فأحبّه، وأحبُّ من يُحبه".
رسول الله في حق سبطه الحسن المجتبى، صلوات الله عليهما
إنه الغيث النازل من السماء على الأرض (القلوب) الجدب، فقد كان عرب الجزيرة العربية بشكل عام يعانون من إحدى موانع الإيمان بالله –تعالى- وهي قسوة القلب التي تدفع للظلم والجور والعدوان، ثم الكفر، كما سبقهم في ذلك بنو اسرائيل في تجربتهم مع نبيهم موسى بن عمران؛ {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، فكان جدّه المصطفى يبشر بهذه الهدية السماوية في كل موقف وموطن ليتعلم المسلمين كيف تكون المودّة؟ وكيف يكون الحب؟ وأثرهما في الحياة، فهم على موعد مع أهل بيته بعد رحيله، ليكون اختبارهم العسير مع تطبيق الآية الكريمة: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، والوفاء لعهد نبيهم الكريم.
بدأت الحكاية والمشوار منذ الساعات الاولى لولادته الميمونة، وهو المولود الأول لعلي وفاطمة، والسبط الأول للنبي الأكرم، صلوات الله عليهم، فقد فجّر ينابيع الحب والسعادة والبهجة، ظهرت بأجمل صورها على وجه جدّه المصطفى الذي استلمه بين يديه الكريمتين، وسمّاه حسناً بتوصية من جبرائيل الذي جاء بإسم "شبّر"، وهو اسم احد ابناء هارون، ثم تم تعريب الاسم الى؛ حسن.
تربى وترعرع في حجر جدّه المصطفى، وأصبح أيقونة الحب والعلاقة الودّية بين الجد والحفيد لأول أمام أنظار المسلمين، كأول تجربة من هذا النوع لم يألفوها من قبل، حتى أن أحد المسلمين استكثر على رسول الله كثرة تقبيله الحسن وملاطفته وملاعبته، وقال: إن لي ابناً ما قبلته قط! وربما لم يأخذه بين يديه، كما هي ثقافة العرب الجاهلية التي تأنف ملاعبة الأب لابنه الصغير حتى لا ينتقص من كبريائه شيئاً! فجاءه الجواب من رسول الله: "أرأيت إن كان الله قد نزع من قلبك الرحمة فما أصنع لك"؟!
كتب الحديث لدى أهل السنة المعروفة بالصحاح تحفل بالعديد من الروايات من مشاهد الحب والمودة بين النبي وسبطيه؛ الحسن والحسين، لاسيما اثناء الصلاة، وكيف كان الحسنان يأتيان ويلعبان في المسجد، ويجلسون على ظهر رسول الله، فكان الموقف التاريخي منه، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يبقى ساجداً لا يرفع رأسه لفترة طويلة حتى يظن المسلمون أن الوحي قد نزل عليه –كما جاء في بعض الروايات- ثم يتبين لهم أن السبب هو وجود الحسن او الحسين على ظهره، وبعد انتهاء الصلاة يلتفت الى المسلمين قائلاً: "من أحبني فليحب هذين".
على هذه الثقافة درج الامام الحسن في مراحل حياته، وهو يطوي السنين، ويخْبر الناس ويواجه الاحداث والظروف القاسية، فقد شهد النهاية المأساوية والمؤلمة لجدّه المصطفى على يد المتشبهين بالصحابة، ثم شهد ما حصل على أمه وأبيه من ظلم وعدوان وتجرؤ على الله وعلى رسوله، ثم ما حصل لأبيه خلال فترة حكمه وبعد استشهاده، وما لاقاه من ضعاف النفوس والإيمان في الايام القليلة لتوليه الخلافة والزعامة، بيد أنه بقي ذلك الامام الحَسَن صامداً لم ينتقص الشتم من حلمه، ولا الظلم والبغي من شجاعته وإقدامه، ولا الحرب والاستفزاز من سلميته، ولا البخل بالمال والنفس بالسخاء والعطاء لمن خذلوه من جماعته، وحتى لمن قاتله من أعدائه، وقصته مع ذلك الشامي، الذي لابد وأن كان يوماً في صفوف جيش معاوية، معروفة للجميع، وكيف أنه واجه الإمام بالسبّ والشتم، له ولأبيه أمير المؤمنين، فقابله، عليه السلام، بالحلم والعفو والابتسامة ليكون الموقف نقطة مضيئة في التاريخ، قبل أن تفيد ذلك الشامي وتهديه سواء السبيل، وتجعله محبّاً ومؤمناً بعد أن كان مبغضاً وناصبياً.
الرسالة الأخلاقية للإمام الحسن المجتبى، سلام الله عليه، تحمل دلالة انسانية تهدف لتأسيس البنية التحتية للمجتمع الاسلامي، حتى قرار الهدنة مع معاوية كان في هذا الطريق، فيما كان قرار أخيه الامام الحسين، عليه السلام، استنهاض الضمائر والعقول وفق هذا البناء الحضاري، فقد تخللت فترة عشرون سنة بين خلافة الامام الحسن، و واقعة الطف.
إنما المشكلة العويصة في الاستيعاب والسطحية في فكر الأمة وثقافتها، فكلما سارعت في تعميق الوعي، ساهمت في انقاذ نفسها من المهالك، بل وتقدمت خطوات نحو التقدم والرقيّ، والعكس بالعكس قطعاً، كما نشهد اليوم.
يكفي أن نلقي نظرة على هذا المقطع التاريخي من العلاقة بين الامام الحسن، وهو الخليفة والإمام المفترض الطاعة، و افراد الأمة عندما تسللت الاشاعات الأموية الى معسكره، عليه السلام، بأنه سيصالح معاوية بعد خيانة القادة، وتشرذم الجُند وخذلان الأغلبية من جيش الامام عن خوض الحرب ضد الفئة الباغية.
الامام الحسن صعد المنبر وخاطب افراد جيشه بالقول:
"أما بعد فوالله اني لأرجو ان أكون قد اصبحت - بحمد الله ومنّه- وانا أنصح خلق الله لخلقه، وما اصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مُريداً له بسوء، ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا و اني ناظر لكم خيراً من نظركم لانفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم".
أبرز معاني هذه الرسالة؛ الحب والودّ لافراد جيشه، وللناس تحت إمرته، فهو لا يريد سوءاً لأحد، وأكثر من هذا؛ يبحث لهم فوائد الجماعة و وحدة الصف وإن لم تلبي بعض الرغبات، فالكلام برمته لصالحهم، بينما جاء الفهم معكوساً بشكل فضيع، فقال أحدهم –المستمعين- ما ترونه يريد بما قال؟! فأجاب بعضهم: لعله يريد أن يصالح معاوية، فقال آخر: لقد كفر الرجل! فثار لغط بين الجموع، وضاعت الحكمة والموعظة الحسنة بين اشخاص ران على قلوبهم فهي كالحجارة لا تسمح بأي تفاعل ايجابي مع الطرف المقابل.
وحصل ما حصل من تعرض الإمام لاعتداء بالفأس على فخذه من قبل أحد الخوارج المتطرفين، وقبلها الهجوم على خيمته وسلبه السجادة التي كان يصلي عليها، كما لو أنهم يعدونه غير جدير بالصلاة!
ومع شريط الاحداث المؤلمة هذه، وحتى ساعة اغتياله بالسمّ على يد زوجته الخائنة، لم يحد الامام الحسن مطلقاً عن طريق الأخلاق والفضيلة، فقد بقي ذلك الحليم والحكيم والمتسامح، حتى أنه رفض الافصاح الى أخيه الحسين عمن دسّ اليه السمّ فقال له: "وما تريد منه؟ أتريد ان تقتصّ منه؟ إن يكن هو فالله أشدّ نقمة منك، وإن لم يكن هو فما أحبّ أن يؤخذ بي بريء".
حريٌ بأبناء الامة اليوم الالتفات الى ما هم عليه من الفرقة والتشرذم والتمزق بسبب التعصّب للعائلة، وللعشيرة والقبيلة، والطائفة، والتيار الفكري والسياسي، فكل واحد منهم يكنّ الحب والودّ لهذه المسميات التي ذوبها رسول الله والاسلام في بوتقة الدين الواحد والمصير المشترك، ثم مراجعة سيرة هذا الإمام العظيم ليستلهموا منه دروس الحب والمودة ويجعلوها دواءً لأدوائهم.
اضف تعليق