السيدة خديجة ستبقى في ذاكرة المسلمين نموذجًا للفداء، والعطاء، والإيمان الراسخ بالله ورسوله وعلى الأمة الإسلامية أن تظل تذكر فضلها ومكانتها العظيمة؛ وإن غيّبها الموت في عام الحزن، ولكن ذكراها الخالدة تبقى حية في قلوب المؤمنين، ورمزًا لكل من يسعى لاقتفاء أثرها في العفة، والإيمان، والتضحية من أجل الحق...

السَّيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام)، واحدة من أعظم النساء في تاريخ الإسلام؛ فهي رمز للقوَّة والصَّبر والعطاء. وُلدت في مكَّة المكرَّمة في أسرة نبيلة وثرية، وكانت تعمل في التجارة، واشتهرت بحكمتها وفطنتها، وقد تزوجت من الرَّسول الأعظم محمَّد (صلى الله عليه وآله)، وكانت أوَّل من آمن به وسانده في بداية دعوته (صلى الله عليه وآله).

 تميَّزت بفضلها العميق في دعم الرِّسالة الإسلامية منذ بداياتها، كما تميَّزت بصفات عظيمة كالكرم، والصدق، والإيثار، ولم تكن مجرد زوجة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، بل كانت شريكة في مهمته وتبليغ رسالة الله (تعالى) إلى العالمينَ؛ لذلك سنتناول محاور مضيئة من حياتها (عليها السلام)، وكيف كونت بصمة واضحة في تاريخ الإسلام.

المحور الأوَّل: السَّبق والريادة

 كانت السيدة خديجة (عليها السلام) من الشخصيات البارزة التي سبقت غيرها في العديد من المواقف؛ وفي قوله (تعالى): (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) (1)؛ إشارات جليَّة إلى التَّميز والريادة والسَّبق، لتكون (عليها السلام) واحدة من الذين سبقوا غيرهم في التَّضحية والدَّعم؛ فأصبحت قدوة في الإيمان والوفاء؛ ولقد كانت الرائدة في العديد من المجالات: 

المجال الأوَّل: مجال الإيمان

أمَّا في مجال الإيمان؛ فقد كانت (عليها السلام) أوَّل من آمن بالله (تعالى) ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وصدَّقته في كلِّ ما جاء به عن ربِّه (تعالى)، وكانت السند القوي والداعم الأمين له في رسالته؛ فقد آزرته (صلى الله عليه وآله) في كلِّ خطوة، وساندته (صلى الله عليه وآله) بكلِّ ما تستطيع من قوَّة وحرص. وكان النبي (صلى الله عليه وآله) لا يسمع من المشركين ما يكره من رد عليه أو تكذيب له أو سخرية واستهزاء، إلَّا ويُفرِّج الله (تعالى) عنه بحسن رعاية السيدة خديجة (عليها السلام)، التي كانت تداوي آلامه وتخفف عليه ما يلقاه من معارضة قومه وأذاهم، فكانت له عزاءً وصبراً، ولقد كان موقفها (عليها السلام) يظهر صلابة إيمانها حينما صلَّت مع النبي (صلى الله عليه وآله) في جماعة؛ قرب بيت الله الحرام؛ عن عفيف قال: "كُنْتُ امْرَأً تَاجِراً؛ فَقَدِمْتُ مِنًى أَيَّامَ الْحَجِّ، وَكَانَ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ امْرَأً تَاجِراً، فَأَتَيْتُهُ أَبْتَاعُ مِنْهُ وَأَبِيعُهُ. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ؛ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ خِبَاءٍ يُصَلِّي فَقَامَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ تُصَلِّي، وَخَرَجَ غُلَامٌ يُصَلِّي مَعَهُ. فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ مَا هَذَا الدِّينُ. إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَا نَدْرِي مَا هُوَ. فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ، وَأَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ آمَنَتْ بِهِ، وَهَذَا الْغُلَامُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ آمَنَ بِه‏"(2).

وروى السيد بن طاووس عن كتاب الوصية لعيسى بن المستفاد عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: "سَأَلْتُ عَنْ بَدْءِ الْإِسْلَامِ؛ كَيْفَ أَسْلَمَ عَلِيٌّ، وَكَيْفَ أَسْلَمَتْ خَدِيجَةُ.

 فَقَالَ تَأْبَى إِلَّا أَنْ تَطْلُبَ أُصُولَ الْعِلْمِ وَمُبْتَدَأَهُ؛ أَمَا وَاللهِ إِنَّكَ لَتَسْأَلُ تَفَقُّهاً، ثُمَّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عليه السلام عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِي لَمَّا دَعَاهُمَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: يَا عَلِيُّ وَيَا خَدِيجَةُ أَسْلَمْتُمَا للهِ وَسَلَّمْتُمَا لَه‏.

فقال: إِنَّ جَبْرَئِيلَ عِنْدِي يَدْعُوكُمَا إِلَى بَيْعَةِ الْإِسْلَامِ فَأَسْلِمَا تَسْلَمَا وَأَطِيعَا تَهْدِيَا. فَقَالا فَعَلْنَا وَأَطَعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: إِنَّ جَبْرَئِيلَ عِنْدِي يَقُولُ لَكُمَا: إِنَّ لِلْإِسْلَامِ شُرُوطاً وَعُهُوداً وَمَوَاثِيقَ فَابْتَدِئَاهُ بِمَا شَرَطَ اللهُ عَلَيْكُمَا لِنَفْسِهِ ولِرَسُولِهِ أَنْ تَقُولَا: نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً إِلَهاً وَاحِداً مُخْلِصاً، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، وَنَشْهَدُ أَنَّ اللهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيَرْفَعُ وَيَضَعُ وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ قَالا: شَهِدْنَا"(3)؛ ولذلك من الأُمور المتّفق عليها لدى الجميع أنَّ السّيّدة خديجة (عليها السلام) هي أوَّل امرأة أسلمت وآمنت برسول الله (صلى الله عليه واله).

المجال الثاني: البذل في سبيل الله (تعالى)

لقد قدَّمت السيدة خديجة (عليها السلام) كلَّ ما تملك في سبيل دعم دعوة الإسلام؛ حيث كانت دائمًا في طليعة من يساندون الرسول الأعظم محمَّد (صلى الله عليه وآله) بكلِّ ما يستطيعون، وحينما حاربت قريش دعوة النبي (صلى الله عليه وآله)، وقررت حصار بني هاشم في شعب أبي طالب (عليه السلام)، كان لها دورٌ عظيم في الوقوف بجانب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن تبعه؛ فلم تقتصر على مجرد الدَّعم المعنوي، بل بذلت جميع أموالها لرفد من في الشعب، لتخفف عنهم وطأة الحصار.

ثلاث سنوات مرَّت على النَّبي (صلى الله عليه وآله) وعلى من تبعه في هذا الشعب وهو محاصر، وكان لولا سخاء مولاتنا خديجة (عليها السلام) وكرمها في تقديم المال، لكان الجميع في الشِعب قد ماتوا جوعًا. ولم يكن هذا الدعم المادي فحسب، بل كان له أثرٌ بالغ في نفس النبي الكريم (صلى الله عليه وآله)، الذي لم ينسَ أبدًا مواقفها النبيلة، وظلَّت فضائلها حاضرة في قلبه وعقله (صلى الله عليه وآله) حتَّى بعد وفاتها (عليها السلام)، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يتحدث عن فضلها ومكانتها في كلِّ مناسبة، معبرًا عن تقديره العميق لما قدمته في سبيل الدفاع عن الإسلام ونصرته.

المجال الثَّالث: السَّبق إلى الولاية

 أما فيما يتعلق بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد كانت السيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام) هي الأولى في تاريخ الرسالة النبوية التي آمنت واعتقدت بمكانته العظيمة، وكانت ترى في الإمام علي (عليه السلام) تجسيدًا حقيقيًا للحق، وكان قلبها لا يعرف الراحة إلَّا عندما ترى عينيها عليًّا، فتسكن بذلك نفسها. ولم تكن تهدأ لها عين إلَّا أن تحظى برؤية أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، بل كانت تُصر على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكون الإمام عليٌّ (عليه السلام) في دارها، لتكون بذلك شاهدةً على ارتباط عميق بين الإيمان الحقيقي والولاء المطلق لآل بيت النبوة (عليهم السلام)؛ ومما ورد في روايات عديدة أنَّ قبول ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) دليل الإيمان والمعرفة؛ عن النبي (صلى الله عليه وآله): "لَمْ يَزَلِ اللهُ يَحْتَجُّ بِعَلِيٍّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ فِيهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَأَشَدُّهُمْ مَعْرِفَةً لِعَلِيٍّ أَعْظَمُهُمْ دَرَجَةً عِنْدَ الله‏"(4).

المحور الثَّاني: ألقابها وصفاتها (عليها السلام)

المحدَّثة، والطاهرة، وخير نساء النبي (صلى الله عليه وآله)، ألقاب وصفات تجلَّت في شخصية السيدة خديجة (عليها السلام)؛ وبيَّنت بعض مقامتها عند الله (تعالى) وعند الرسول الأعظم محمَّد (صلى الله عليه وآله)؛ لذلك نحتاج أن نلقي عليها الضوء حتى نحظى بشرف معرفتها (عليها السلام):

أوَّلاً: المحدَّثة.

ورد في العديد من الروايات أنَّ السيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام) كانت من المحدَّثات؛ حيث كانت تُحدثها الملائكة، وتسمع منها كلامًا ملائكيًا يُطمئن قلبها؛ وهذه القضية من المسائل العقدية الهامة التي أشار إليها القرآن الكريم؛ حيث ذكر إنَّ بعض الصالحين، وخاصة من أهل الإيمان، يتلقون إشارات وتوجيهات من الملائكة؛ وقد ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع الإشارة إلى أن الملائكة تتواصل مع المؤمنين الصادقين وتُسَلّم عليهم وتُبَشّرهم بما يرضي الله (تعالى)؛ وقد كان حديث الملائكة مع السيدة خديجة (عليها السلام) تعبيرًا عن مكانتها الرفيعة في الإسلام، ودعمًا معنويًا لها في لحظات الشدَّة والصعوبات التي مرَّت بها في مسيرتها مع النبي (صلى الله عليه وآله)؛ قال الله (سبحانه): (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(5)؛ وإذا نظرنا إلى هذا المقطع القرآني وحملناه على ظاهره كما يفعل المسلمون بكل وضوح، فإنَّ الذين قالوا "ربُّنا الله" هم من المؤمنين الصادقين، وكانت السيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام) من أولئك الذين قالوا "ربُّنا الله" بكلِّ يقين وإيمان؛ وهذا المعنى يتجسَّد في سلوكها وطهارتها؛ فقد كانت السيدة خديجة طاهرة من كل رجس موجود في زمن الجاهلية، ولم يؤثر فيها المحيط الذي نشأت فيه، بل كانت مستقيمة في إيمانها وأفعالها، متبعة ما أمر الله (تعالى) به، وخاصة في الإيمان برسالة النبي (صلى الله عليه وآله)، والولاية التي كانت جزءًا من عقيدتها الراسخة.

آمنت السيدة خديجة بالنبي الأعظم محمَّد (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن في نظرها أيّ زوج صالح سواه (صلى الله عليه وآله)، على الرغم من أن زعماء قريش قد خطبوها وأبدوا استعدادهم لتقديم كل ما يستطيعون من إمكانيات، لكنها رفضت جميعهم بإصرار؛ لأنَّها كانت تنتظر النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي سن الخامسة والعشرين، تزوجت (عليها السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان هذا الزَّواج شرفًا عظيمًا لها.

ثانياً: الطاهرة.

كانت السيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام) في الجاهلية تُلقب بـ"الطاهرة"؛ وذلك لشدة عفافها؛ إذ كانت مثالًا حيًا للفضيلة والطهارة في مجتمع مليء بالتعقيدات، وكان لها مكانة عالية بين نساء قريش، حيث عُرفت بـ"سيدة نساء قريش" لما كانت تتمتع به من مكانة رفيعة في المجتمع، فضلاً عن سمعتها الطيبة وأخلاقها الرفيعة.

وقد ورد في النصوص أن السيدة خديجة (عليها السلام) كانت مصطفاة بنص من الله (تبارك وتعالى)؛ إذ قال (عزَّ وجلَّ) :(إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (6)، فأثنى (سبحانه) عليها وجعلها مثالًا يحتذى به في النقاء والعفاف؛ ومعنى (اصطفى) اختار واجتبى وأصله من الصفوة؛ والصَّافي هو النَّقي من شائب الكدر.

وقد وردت عدة روايات عن المعصومين (عليهم السلام) تجعل السيدة خديجة (عليها السلام) منهم (7)‏. 

ثالثاً: خير نساء النبي محمَّد (صلى الله عليه وآله)

من الأُمور المتَّفق عليها عند الجميع أنَّ السيدة خديجة (عليها السلام) كانت خير نساء النبي (صلى الله عليه وآله)؛ وذلك بتصريح من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر من مرَّة، وهذا إنَّما يدل على علو مقامها وجلالة قدرها (عليها السلام)؛ عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوَّضك الله من كبيرة السن!

قالت: فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) غضب غضباً شديداً، فسقطت في يدي فقلت: اللهمَّ إنَّك إن أذهبت بغضب رسولك (صلى الله عليه وآله) لم أعد بذكرها بسوء ما بقيت.

قالت: فلمَّا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لقيت قال: كيف قلت؟ 

والله لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدَّقتني إذ كذَّبني الناس، ورزقت منِّي الولد حيث حرمتموه.

قالت: فغدا وراح عليّ بها شهرا"ً (8).

وعن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "وَاخْتَارَ مِنَ النِّسَاءِ أَرْبَعاً مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ"(9).

يضاف إلى ذلك أننا لم نجد ذرية للنبي (صلى الله عليه واله) إلَّا من السيدة خديجة (عليها السلام)، وقد قال (صلى الله عليه وآله) في حقها: "وَوَلَدَتْ لِي إِذْ عَقِمْتُم‏"(10). 

المحور الثَّالث: الشهادات العظيمة

بلغت السيدة خديجة (عليها السلام) مقامًا عظيمًا عند الله (تعالى)، وعند رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) بسبب المقدمات العظيمة التي قدمتها هذه السيدة الجليلة في نصرة دين الله (تعالى)؛ فحظيت بمجموعة من الشهادات لا تقارن معها كل شهادات الخلق؛ فالله (سبحانه وتعالى) اختصها بالسلام، والنبي (صلى الله عليه وآله) لم يكف عن الثناء عليها وذكر فضلها حتَّى بعد وفاتها (عليها السلام) مما يعكس عظمتها ومكانتها الرفيعة؛ وإليك شاهدينِ على ذلك:

الشاهد الأوَّل: تخصيصها بالسلام من الله (تعالى)

فقد بلغ من مقام السّيّدة خديجة (عليها السلام) عند الله (تعالى) أنَّه كان يخصّها بالسلام؛ وفي الحديث أنَّ جبرئيل أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فسأل عن خديجة فلم يجدها، فقال: "إِذَا جَاءَتْ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ رَبَّهَا يُقْرِئُهَا السَّلَام‏"(11).

الشاهد الثَّاني: كثرة ثناء النبي (صلى الله عليه وآله)

كانت السيدة خديجة (عليها السلام) عزيزة للغاية في قلب النبي (صلى الله عليه وآله)، ولقد كانت تحتل مكانة خاصة جدًا لديه (صلى الله عليه وآله)، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يحبها حبًا جمًا ويقدرها تقديرًا عميقًا، فقد كانت السند القوي له في بداية دعوته، وشاركت في تحمل أعباء الدعوة بكل تفانٍ وصدق. كما أن مواقفها المشرفة في دعم النبي (صلى الله عليه وآله) والإيمان برسالته كانت لا تُقدّر بثمن، ما جعل النبي (صلى الله عليه وآله) يعتز بها ويحفظ لها فضلها طيلة حياته. وبعد وفاتها (عليها السلام)، ظلَّ النبي (صلى الله عليه وآله) يتذكرها دائمًا ويتحدث عن مواقفها النبيلة، مظهرًا إعجابه واحترامه العميق لها، وكان لوفاتها أثرٌ بالغ في قلبه الشريف؛ والشواهد على ذلك كثيرة، منها:

"أَنَّ عَجُوزاً دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ فَأَلْطَفَهَا فَلَمَّا خَرَجَتْ؛ -سألت إحدى نسائه-: مَنْ هَذِهِ. فَقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَان‏"(12).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "لَمَّا تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ(رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) جَعَلَتْ فَاطِمَةُ (صَلَوَاتُ اللهِ َعلَيْهَا) تَلُوذُ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَتَدُورُ حَوْلَهُ، وَتَقُولُ: يَا أَبَتِ، أَيْنَ أُمِّي قَالَ: فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ عليه السلام؛ فَقَالَ لَهُ: رَبُّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ فَاطِمَةَ السَّلَامَ، وَتَقُولَ لَهَا: إِنَّ أُمَّكِ فِي بَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، كِعَابُهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَعُمُدُهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ، بَيْنَ آسِيَةَ وَمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام): إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ، وَمِنْهُ السَّلَامُ، وَإِلَيْهِ السَّلَامُ"(13).

بل إنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) وكما في التاريخ أطلق على العام الذي توفِّيت فيه السّيّدة خديجة وأبو طالب (عليهما السلام) "عام الحزن"، وهذا خير دليل على حبِّه (صلى الله عليه وآله) لهما.

توفِّيت أمّ المؤمنين السيّدة خديجة (عليها السلام) بمكة في السنة الثالثة قبل الهجرة، وقد حزن عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثيراً، وكانت وفاتها مصيبة عظيمة على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد تبعتها مصائب وكوارث تحمّلها النبي (صلى الله عليه وآله) برباطة جأش وصبر على المكاره.

إنَّ السيدة الطاهرة خديجة بنت خويلد (عليها السلام) لها فضل عظيم على المسلمين جميعًا، ولكن للأسف هناك تجاهل مقصود لهذا الفضل، وتهميش واضح في كتب الحديث؛ فهي أول من تزوج النبي (صلى الله عليه وآله):

 فكيف يُغفل ذكر أحاديثها؟

وأين سيرتها؟

وأين مواقفها؟

 لقد عاشت مع النبي (صلى الله عليه وآله) عشر سنوات من البعثة، وشهدت بدايات الدعوة قبل أن تكون زوجته؛ لأن النبي (صلى الله عليه وآله) بُعث في الأربعين من عمره، وعاش بعد ذلك 23 سنة، كما أنَّها قد اقترنت به في العمل قبل البعثة، وكانت أقرب الناس إليه (صلى الله عليه وآله) في كل جوانب حياته، ورغم ذلك، نجد أن أحاديثها (عليها السلام) تكاد تكون غائبة تمامًا.

 أليس هذا أمرًا عجيبًا؟ 

ولكن مع كل التهميش الذي كان ويكون، ستظل واحدة من أعظم الشخصيات في تاريخ الإسلام؛ والعلَّة في ذلك أنَّها تميزت بصفات قلَّما تتوفر في امرأة في زمنها؛ كانت الأم الرؤوم، والزوجة الصادقة، والمساندة الرحيمة في أشد الأوقات؛ ولم تقتصر على ذلك فحسب، بل تركت أيضًا أثرًا عميقًا في تاريخ الإسلام، من خلال إيمانها الصادق ووفائها الكامل لقضية الحق. وكانت الطاهرة، وكانت المصدقة، وكانت صاحبة الولاية.

إنَّ السيدة خديجة (عليها السلام) ستبقى في ذاكرة المسلمين نموذجًا للفداء، والعطاء، والإيمان الراسخ بالله (جلَّ جلاله) ورسوله (صلى الله عليه وآله). وعلى الأمة الإسلامية أن تظل تذكر فضلها ومكانتها العظيمة؛ وإن غيّبها الموت في "عام الحزن"، ولكن ذكراها الخالدة تبقى حية في قلوب المؤمنين، ورمزًا لكل من يسعى لاقتفاء أثرها في العفة، والإيمان، والتضحية من أجل الحق.

.........................................

الهوامش:

1. سورة الواقعة/ الآيات: 10-13.

2. إعلام الورى بأعلام الهدى: 38.

3. بحار الأنوار: ‏18/232.

4. كتاب سليم بن قيس الهلالي‏‏: ‏2/858.

5. سورة فصلت/ الآية: 30.

6. سورة آل عمران/ الآية: 34.

7. راجع: تفسير فرات الكوفي: 80.

8. كشف الغمّة: 1/512.

9. الخصال: ‏1/225. 

10. كشف الغمة في معرفة الأئمة: ‏1/508.

11. روضة الواعظين وبصيرة المتعظين: ‏2/269. 

12. المصدر نفسه.

13. الأمالي، للطوسي: 175.

اضف تعليق