كل واحد يضع لبنة في هذا البناء المعرفي الذي يتشكل من مجموعة أعمالنا ومسؤولياتنا ووظائفنا، فنحن نشكل هذا البناء المعرفي الكبير للإعداد للمشروع المهدوي التراكمي، فالتخلي عن المسؤولية المعرفية يعني توريث الجيل المقبل والذي بعده جهلا، في حين ان المشروع المهدوي يوجب على المنتظرين توريث ابنائهم واحفادهم واجيالهم...
ما هو الفرق بين المعرفة السطحية والمعرفة العميقة، في قضية انتظار الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؟
كل إنسان يبدأ صفحة حياته وهو جاهل، لا يعلم ولا يعرف شيئا، ولكن تدريجيا يبدأ بالتعلم، وهذه العلوم تجعله يرتقي ويتطور، كالذي يذهب إلى المدرسة، يدخل في الصف الأول الابتدائي، ثم الثاني والثالث وإلى الصف السادس، ومن ثم مرحلة المتوسطة، وبعدها تأتي مرحلة الاعدادية.
وهكذا يرتقي فيدخل الجامعة ويستكمل مراحل العلم، وكذلك الدراسة في الحوزات الدينية، فالإنسان يبدأ من البداية، فكلما الإنسان يرتقي بعلمه ويتغلب على جهله يرتقي ويتطور ويتكامل وينضج.
مشروع الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، مشروع عظيم فهو مشروع الإنسانية، الذي ينتظره الجميع، جميع الأديان والمذاهب والبشرية كلها تنتظر الإمام الحجة، لذلك فإن انتظار هذا المشروع عظيم أيضا، لأنه كما يُقال مقدمة الواجب واجب.
لذلك لابد أن يكون هناك منهج للانتظار، ومعرفة وعلم خاص به، ولذلك فإن الذي لا يستطيع أن يتعلم المعرفة بمشروع الانتظار لا يستطيع أن يكون منتظِرا للإمام الحجة، وقد لا يكون من الذين يساهمون في عملية انطلاقة هذا المشروع، وظهور الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
إدارة الحياة والتخطيط لها
الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: (الْكَمَالُ كُلَّ الْكَمَال التَّفَقُّهُ فِي الدَّيْنِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّائِبَة وَتَقْدِير الْمَعِيشَة)(1)، فالتفقه والتعلم مشروع اساسي في تحول كل فرد، وخصوصا التفقه في الدين، لأن الإنسان الذي يتفقه في الدين يحرز كل شيء، والقصد من هذه الثلاثية التي يذكرها الإمام الباقر عليه السلام، بمعنى إدارة الحياة والتخطيط لها بالمعرفة، والاستقامة من خلال الصبر والتحمل للوصول الى الاهداف الموضوعة. وبهذه الثلاثية يحصل الكمال المطلوب، لذلك فإن الذي يريد أن يكون له كمال وتكامل في عصر الانتظار، لابد أن يكون عارفا بمشروع الانتظار والوظائف المطلوبة منه والمسؤولية الملقاة عليه في عصر الانتظار.
لذلك كلما ازدادت معرفته بمشروع الانتظار ووظائفه، ازداد قربا نحو الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وهذا هو معنى المعرفة العميقة، فلا يكفي ان يعرف ان الإمام الحجة هو الإمام الثاني عشر، بل لابد ان يعرف وظائفه ومسؤولياته في عصر الانتظار.
مسؤولية البناء التراكمي المعرفي
الجميع يتحمل المسؤولية، وخصوصا (أنا)، أنا الفرد، فأنا مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى، فكل فرد من الموالين للإمام الحجة اذا أراد أن يكون منتظرا حقيقيا لابد أن يساهم في بناء المشروع التراكمي المعرفي في عصر الانتظار من أجل التمهيد لظهور الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (إذَا قَامَ قَائِمِنَا وَضَعَ اللَّهُ يَدَهُ عَلَى رُؤُوسِ الْعِبَاد فَجَمَعَ بِهَا عُقُولِهِمْ وَكَمُلَتْ بِهِ أَحْلَامَهُمْ)(2).
فما المعنى الذي يمكن استكشافه من هذه الرواية؟
هناك معاني كثيرة، ربما نحن لا نعرف المعنى الغيبي، ولكن المعنى الذي يمكن أن نتوصل له لفهم هذا الحديث، إنه لابد لكل واحد منّا أن يكون متعلما مستمرا على سبيل النجاة ومستوعبا لمعنى الغيبة، حتى يصل إلى مرتبة النضج والتكامل. بحيث يكون منتظِرا حقيقيا، أي عندما يظهر الإمام الحجة تكون عقول الناس ناضجة مكتملة تستوعب المشروع المهدوي، لكي يسود العدل في حقيقته بين البشرية.
ان معظم القوى المتقدمة سواء كانت خيرة أو شريرة على طول التاريخ البشري، هي القوة التي تمتلك العلم والمعرفة، بحيث تصنع السلاح، وتبني المصانع، وتنشئ الجامعات، والمدارس، فتكون مسيطرة على السلطة من خلال قوتها المعرفية سواء في داخل الدولة أو في العالم.
لذلك فإن المشروع الذي يريد أن يحكم العالم، لابد أن تكون لديه قوة معرفية كبيرة حتى يستطيع أن يكون مسيطرا، لذلك فإن المنتظرين لابد أن يكونوا متسلحين بسلاح المعرفة، حتى الوصول إلى الكمال والنضج المطلوب في الإعداد للمشروع المهدوي في عصر الانتظار.
قد يقول البعض وما علاقتي أنا بهذا الأمر لأنه من غير المعلوم متى يظهر الحجة، ربما بعد ألف سنة، أو ألفي سنة، أو مليون سنة، وكم استطيع ان اكون مؤثرا كفرد واحد في هذا المشروع العظيم؟
والجواب: هو أنه كل واحد يضع لبنة في هذا البناء المعرفي الذي يتشكل من مجموعة أعمالنا ومسؤولياتنا ووظائفنا، فنحن نشكل هذا البناء المعرفي الكبير للإعداد للمشروع المهدوي التراكمي، فالتخلي عن المسؤولية المعرفية يعني أن اورث الجيل المقبل والذي بعده جهلا، في حين ان المشروع المهدوي يوجب على المنتظرين توريث ابنائهم واحفادهم واجيالهم المقبلة تراثا معرفيا مهدويا يتصاعد وينمو فيه تراكم العقول وتكامل المعرفة ونضج الشخصية.
إنه مشروع عميق في الامتداد المعرفي، بعيد المدى في نضج الشخصية وفهمها وادراكها لمفهوم الغيبة، فهو مشروع مستقبلي يحتاج إلى معرفة عميقة، متراكمة تتوارثها الاجيال، وكل جيل يأتي يضع لبنة للجيل المقبل، وهكذا يتم الأمر بشكل تصاعدي، هذا هو المطلوب، وهذا هو قد يكون معنى (جمع العقول واكتمالها).
من هو اليتيم الواقعي؟
وفي رواية مهمة جدا عن الامام الحسن العسكري (عليه السلام): (وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحُجَّةِ وَالْإِمَام بَعْدَه؟: ابْنَيْ مُحَمَّدِ، وَهُوَ الْإِمَامُ وَالْحُجَّة بَعْدِي، مِنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، إمَّا أَنْ لَهُ غِيبَةٌ يَحَارُ فِيهَا الْجَاهِلُون، وَيَهْلِك فِيهَا الْمُبْطِلُون، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الْوَقاتون، ثُمَّ يَخْرُجُ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْإِعْلَام الْبَيْض تَخْفِق فَوْقَ رَأْسِهِ بِنَجَف الْكُوفَة)(3).
هذه رواية فيها تفاصيل ومعاني كثيرة، لكننا نركز على هذه الكلمات: (أما أنّ له غيبة يُحارُ فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون)، هذا هو المقصود من مفردة (يُحار)، فالإنسان الذي ليس لديه معرفة عميقة يبقى في حيرة من أمره، وتنتابه كثير من المشكلات والأزمات والشكوك.
إن الإنسان الذي لا يوجد عنده إيمان بالغيب لا يقين له، ويعيش حالة من القلق وعدم الاطمئنان، وعدم الاحساس بالوجود وعدم الاحساس بالمستقبل.
والمبطلون، هم الفرق الضالة الذين يستغلون جهل الآخرين ومعرفتهم السطحية، فنحن نكتفي أن نقوم بمشاريع خيرية، وتقديم خدمات من إطعام للجياع والفقراء وتأمين الأيتام واطعامهم. وهي مشاريع نبيلة، ولكن هل لها الأولوية في عصر الانتظار، أم يجب أن تكون الأولوية المطلقة للمعرفة العميقة، فهي مشروع الإنقاذ والاستنقاذ لأهل البيت عليهم السلام.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أَشَدُّ مِنْ يُتِمُّ الْيَتِيمِ الَّذِي انْقَطَعَ عَنْ أَبِيهِ، يَتِمّ يَتِيم انْقَطَعَ عَنْ إمَامِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَلَا يَدْرِي كَيْفَ حُكْمُهُ فِيمَا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ شَرَائِعِ دَيْنِهِ، إلَّا فَمَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا عَالِمًا بِعِلْوَمِنَّا وَهَذَا الْجَاهِلُ بِشَرِيعَتِنَا الْمُنْقَطِعُ عَنْ مُشَاهَدَتَنَا يَتِيمٍ فِي حِجْرِهِ، أَلاَ فَمَنْ هَدَاه وَأَرْشَدَه وَعِلْمِه شَرِيعَتِنَا كَانَ مَعَنَا فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى)(4)، فاليتم حاصل في من فقد معرفة إمامه، واليتيم هو الجاهل بإمامه ولايعرف وظائفه ومسؤولياته.
لذلك فإن الإنسان اليوم الذي لا يملك معرفة الانتظار ويجهل وظائفه تجاه الإمام الحجة، وكيف يصل إليه، فهو يتيم آل محمد، هذا الإنسان لابد أن يتعلم ويتعرف على قضية الانتظار حتى يخرج من حالة اليتم، وهذا هو اليتيم الحقيقي، فالمطلوب منّا ووظيفتنا الشرعية في قضية مشروع الانتظار هي المعرفة. الانتظار بالمعرفة والتعلم حتى لا تغلبنا الفرق الضالة التي تستغل جهل الناس ومعرفتهم السطحية.
الشكُ لباس الجاهل
وهنا يبرز التساؤل لماذا هناك حاجة للمعرفة ألا تكفينا المعرفة البسيطة؟
والجواب ان للمعرفة العميقة دور كبير في تحصين الفرد من الشبهات والانحرافات، حتى لايصبح الشك لباسا للغارقين في وحول الشبهات ولا دربا للضائعين في ظلمات الانحرافات.
(الشكُ لباس الجاهل)، فماذا يحصل للجاهل؟، يحصل عنده الشك وعدم اليقين، والقلق النفسي والوسواس الفكري، لا يعرف ماذا يحصل له، فالعالم اليوم في عصر التكنولوجيا زاخر بالمعلومات، ممتلئ بالافكار تتطاحنه الثقافات المتضادة، ولكن بماذا تفيده هذه المعلومات التي تغذي فيه الشك، الشك مشكلة كبيرة يتسلل إلى النفس فيصبح مرضا مستعصيا.
والشخص الذي لا يتعلم ولا يفهم ولا يعرف فيصبح الجهل (لباسا له) لا يستره من الشك، لكن المعرفة تستر الإنسان وتكون لباسا له، حيث يقول الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) الأنعام 82.
وسأل الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: قال بشك)(5)
فالذين لايلبسهم الشك بل يلبسهم ايمانهم سيكونون مستورون ويشعرون بالامن والاطمئنان والهداية واليقين.
ومع ظلم الانسان لنفسه بعدم السعي للمعرفة العميقة يصبح الشك لباسه الذي لايستره ولايغطيه ولايعطيه الأمن، وفقدان الامن معناه القلق، الخوف، الشعور بعدم الراحة، لنفرض أن هناك إنسانا نائم في الشارع أو في قارعة الطريق، فهو غير مستور، يخشى على ما يمتلكه من أشياء وأموال، فيخشى من السرّاق على أمواله، ويبقى يعيش في حالة قلق وهلع، أما إذا دخل في بيته ووضع هذه الأموال في خزنة وأقفل باب بيته جيدا، فإنه سوف يشعر بالأمان.
كذلك الإنسان الذي لا يوجد عنده إيمان ويسيطر عليه الشك فإنه يعيش حالة القلق والخوف، ليس لديه شيء يشعره بالاستقرار، ليس عنده هداية، لذلك يحتاج الإنسان إلى المعرفة حتى يتخلص من هذه الشكوك التي اصبحت تنتاب الأشخاص والمجتمعات اليوم، والتي هي الانحرافات والشبهات وتأخذهم مأخذا كبيرا.
كيف يظلم الإنسان نفسه؟
سبب ظلم الإنسان لنفسه هو بعدم التعلّم، يضيّع وقته في التوافه واللهو والافراط في المتع، فيصبح مستغرقا في الجهل فاقدا للاطمئنان، فيصبح معرضا لاستقبال الأقاويل والتضليلات الخادعة ويأخذ به الشك فينحدر في وديان الانحراف ومستنقعات الشيطان.
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: (بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله من الولاية، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان، فهو الملبس بالظلم)(6).
هؤلاء الانتهازيون والمنافقون والازدواجيون والذين يتحينون الفرص من أجل مصالحهم الخاصة، ويلبسون الآخرين الشك والضلال من اجل التحكم بهم والسيطرة عليهم وقيادتهم نحو دورب الضلال والظلام.
الاستعمار المعرفي
ومن ذلك التلبس، القابلية للاستعمار وخصوص الاستعمار الثقافي أو الاستعمار المعرفي الذي يستخدمه المتسلطون والمستعمرون، من أجل السيطرة على شعوب وبلدان، عبر تغذيتهم بثقافة وافكار موجهة، تستولي على عقولهم، كما اليوم في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، تغذي باستمرار بالأفكار والاخلاقيات والسلوكيات التي تستولي على الناس، وعندما يستولي على الناس يستطيع أن يتحكم بهم ويسيطر عليهم.
فإذا أردنا أن نواجه المعرفة الغازية، يجب أن نواجهها بمعرفة مضادة نابعة من ثقافة ومبادئ وأفكار أهل البيت (عليهم السلام).
الشخصية التي تتشكل عند الإنسان تتشكل من خلال المعرفة التي يمتلكها، لذلك فإن الشخصيات الذائبة، أو التي تذوب في ثقافات الآخرين، هي دائما تستورد الافكار من الثقافات الوافدة، عبر استيراد سلعهم واشيائهم وأفكارهم وكلماتهم ولغاتهم، وعندما يصبح مستوردا لكل شيء يكون ذائبا بشكل مطلق في الثقافات الغازية، التي تجعله يعيش الشك، وهذا الشك الذي يزرعوه في القلوب والعقول هو شك مدمّر للشخصية المسلمة، خصوصا عندما يصبح هذا الشك مستوطنا في داخلهم، لدرجة أنهم لا يستطيعون التخلص منه، فالذي يخلص الإنسان من الشك هو اليقين، واليقين يأتي من الإيمان بالغيب.
لماذا يجب أن نؤمن بالغيب؟
ان الإنسان الذي لا يستطيع ان يكوّن له قاعدة إيمانية، كيف يستطيع ان يعيش بلا ايمان، أو بماذا يؤمن، إنه كالشخص الذي يتأرجح في الهواء، لا يوجد شيء اسفله وبلا جاذبية، لذلك لابد أن نعرف بأننا نحتاج إلى الإيمان حتى نحصل على الاستقرار.
فهذا الشخص إذا كان لا يؤمن بالإمام المهدي ولا يؤمن بالأئمة، ولا يؤمن بالأنبياء ولا يؤمن بالله سبحانه وتعالى، بماذا يؤمن؟
الا يتساءل من خلقه ومن أنعم عليه، ومن أعطاه عينين، من أعطاه يدين، من أعطاه هذا العقل الذي يفكر ويشك به، وهي سلسلة من الاعتقادات لابد أن يكون مؤمنا بها حتى يحصل له الاطمئنان واليقين الذي يجلب له الراحة النفسية.
إن جوهر وأساس هذا اليقين هو الإيمان بفكرة الإمام المهدي (عليه السلام): (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) البقرة/3، يؤمنون بالغيب، لكن هو ليس غيبا، بل هو حقيقة وواقع، لكنه يعتبر من الغيب لأن إدراكنا ضعيف، ولأنه امتحان لنا.
إذا كان الإمام الحجة حاضرا الآن، ونحن موجودون معه (عليه السلام)، فكيف نُمتحَن؟
فالامتحان الحقيقي يكون في غيبة الإمام، لأن الامتحان يبني الإنسان، من خلال صموده في إيمانه، وقوته في صبره، واستقامته على المعرفة، وسعي لتكامل ذاته، وحينئذ سيخرج من الامتحان موقنا صابرا مستقيما، فهذا الإنسان سوف ينجح في الامتحان، هي قاعدة عامة، ولكنها في قضية الإمام الحجة هي من اعظم الامتحانات.
الحياة امتحان وصعوبات في كل شيء، فمن يريد الحياة سهلة سوف يقول (دعني أرى الإمام المهدي)، أين هو حتى أؤمن به، وهذا الأمر سهل، لكن الصعب هو أن تكون مؤمنا بالإمام المهدي وهو غائب، وتسير في طريقه وسيرته ومنهجه. هذا الإيمان بالغيب هو الذي يعطي الإنسان قوة اليقين والصمود في الحياة.
دور المعرفة في بناء الشخصية عصر الغيبة
المعرفة تبني اليقين عند الإنسان، والصبر والقوة على الصمود، والقوة على تجاوز كل المشكلات العقائدية الموجودة عند الإنسان، فاليوم العالم كله يعيش ليس تحديات مادية واقتصادية سياسية فحسب، بل العالم يعيش تحديات عقائدية هائلة.
لأن القوة والسلطة والنعمة الكبيرة التي وصلت إليها البشرية، جعلت الناس يصبحون طغاة يكفرون بالنعم بدل ان يشكروا، فوصلوا إلى عصر التكنولوجيا اليوم وصناعة الطائرات والسيارات والكهرباء والإنترنيت والذكاء الاصطناعي والعلوم الهائلة، الى ان قالوا لقد انتهى الأمر نحن سيطرنا ولا نحتاج إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك هذا تحدٍ عقائدي كبير.
هنا في هذه المرحلة ينهار الإنسان، فقد اعمتهم الحضارة المادية وقالوا لابد أن نلغي العقل والدين والأخلاق، ونقود العالم وراء إشباع الرغبات فقط، فنحن إذا أردنا أن نعيش، فإننا نعيش حياتنا لإشباع رغباتنا فقط، هذه هي الدنيا حياتنا وليس بعدها شيء، وليس وراءنا حساب، لذلك تلاحظ الإنسان يصبح يوما بعد يوم مريضا يائسا محبطا، نفسيته منهكة ومتعَبة. لأن التقدم التكنولوجي والمادي إذا لم يصاحبه الإيمان وعقائد راسخة قوية يصبح لا قيمة له، القيمة الحقيقية لقوة القلب والمعنى في داخل الإنسان، فالمعرفة الشخصية الحقيقية للإنسان المؤمن تُبنى في عصر الغيبة بالمعرفة العميقة.
دور معرفة الانتظار في بناء روح المسؤولية
لابد أن نعرف أولا بان مسألة الانتظار هي وجودية وليست عدمية، يعني عندما نقول هناك شخص ينتظر أحد الاشخاص بمعنى إنه يقف في مكانه لا يتحرك ولا يعمل أي شيء، هذا يسمى بالعدم لأنه لا يفعل شيئا، ولكن انتظار الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، هو مسألة فعل، وليس بلا فعل، هي مسألة وجودية، والوجود يعني العمل والحركة ومنهج ومشروع بناء يتم العمل عليه.
فالبعض يزعمون ليس علينا واجب معين نقوم به، فنحن ننتظر الإمام الحجة يظهر وهو يحلّ الأمور كلها، نحن غير معنيين بشيء ولا نعمل أي شيء، ولكن هذا نوع من اللامبالاة وعدم تحمل المسؤولية وترك الشيء، ولكن في الحقيقة مشروع الانتظار هو مشروع وجودي يعتمد على الأمل والحركة.
ولكنها مسؤولية كبيرة علينا جميعا، لنشر المعرفة المهدوية الحقيقية اللازمة التي تحرض الإنسان على العمل والحركة، وأهم محور في المشروع المهدوي، هو الأمل، حيث المشروع المهدوي يعطي الأمل للإنسان في حياته، ولا يكون عنده يأس أو إحباط، فالأمل بطبيعته يعطي الإنسان طاقة إيجابية.
مثلا، الأم التي لديها ابن سجين في أحد السجون، تأمل ان يخرج ابنها من السجن، فالأمل يعطيها طاقة من الصبر والثبات إلى أن يخرج ابنها من السجن، كذلك المشروع المهدوي فهو قائم على الأمل وليس اليأس، وهو حركة إيجابية تعطي للإنسان قدرة على أن يواصل حياته، بمسؤولية وبتحمل لوظائفه الشرعية والانسانية، ويعمل على ذلك.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الأَمَلُ رَحْمَةٌ لِأُمَّتِي، وَلَوْلَا الْأَمَل مَا رَضَعَتْ وَالِدِه وَلَدِهَا وَلَا غَرْسُ غَارِسٌ شَجَرًا)(7).
فالأم تغذي طفلها لكي يكبر ويصبح شخصية له مستقبل، وغارس الشجرة أو النخلة التي يزرعها بنفسه ربما لا يراها، لكن يزرعها للمستقبل.
كذلك مشروع الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) هو مشروع أمل، وبناء الأمل في الأمة، وهذا الأمل هو الذي يغذي الاجيال المتلاحقة بالطاقة المعنوية والإيمان للوصول إلى قمة المشروع المهدوي.
فالمجتمع الجامد الراكد الساكن لا يستطيع أن يكون منتظِرا، لأن الانتظار يقوم على فلسفة عمل، وسعي وحركة مستمرة، من أجل بناء الشخصية تدريجيا، كما يبني الإنسان بيته، فيضع حجرا على حجر حتى يصعد البيت ويكتمل.
لذلك فإن مشروع الإمام المهدي مشروع قائم على فلسفة عمل وسعي وحركة مستمرة من أجل بناء الشخصية وتكاملها وتطورها، ونقل هذه التجارب إلى الأجيال اللاحقة.
العلاقة بين المعرفة والعمل في تكوين الشخصية
مشكلة الإنسان هو الكسل وعدم حب العمل، وحب الجمود والخوف من الاستكشاف، والخوف من الانطلاق إلى الأمام:
(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) طه 15.،
القاعدة في هذه الآية القرآنية عندما يكون المستقبل أمامك مخفيا وغائبا وأنت لا تعلم به، ولكنك تستطيع أن تستكشف المستقبل من خلال العمل والسعي والحركة.
فأنت تستطيع أن تتعلم من خلال الحركة، ومن خلال العمل نحو المستقبل، وكلما واصلت العمل في حياتك من أجل مشروع الإمام المهدي، استطعت أن تعرف الإمام المهدي (عليه السلام) اكثر عمقا، مثلا إذا نشرت الكتب الخاصة بمشروع الإمام المهدي وألقيت المحاضرات، أو فتحت المدارس، وهنا نقصد بنوعية العمل العمل الصالح، العمل مطلوب في كل شيء ولكننا هنا نتكلم عن المشروع المهدوي، لأن المشروع المهدوي يحتاج إلى حركة مستمرة وليس إلى سكون، ولا جمود.
فالإمام المهدي ينتظرنا نحن، وينتظر أعمالنا وهو يظهر من أجلنا، فإذا كان هناك شخص معين لديه مجموعة من الناس يقودهم، فإذا كانت مجموعته كسولة، ساكنة، لا تعمل، ولا تتحرك، فهو لا يستطيع أن يقودهم، فلابد لهؤلاء الذين يعملون ويتحركون ويتعلمون أن يواصلوا جهودهم ليرتبطوا بقائدهم بالعمل من أجل تكامل المشروع المهدوي.
وعندما يظهر الإمام الحجة يكون هؤلاء جاهزون لهذا المشروع، لذلك هي حركة استكشافية، نحو المستقبل بالحركة والعمل والسعي كما تقول الآية القرآنية: (لتجزى كل نفس بما تسعى)، الجزاء والنتيجة في السعي المعرفي، في السعي بالعمل، في السعي بتجاوز كل الصعوبات، وتجاوز الكسل والعجز والتواني.
اليوم توجد لدينا مشكلة تتعلق بالشباب، فقد أصبح الشباب كسولين، عندما سيطرت المادية والتكنولوجيا والرفاه والمتعة، أصبح الكسل مسيطرا على الأمة، وخصوصا على فئة الشباب، فاليوم أصبحت الحياة سهلة، وجميلة، ولذيذة، ومليئة بالمتع، ولهذا يعلن الإنسان نفسه بأنه خالي من المسؤولية ولا توجد عندي وظيفة محددة، لذلك يعاني من الكسل.
التكامل في عصر الانتظار
كلما يكون الإنسان كسولا، وعاطلا عن العمل، يبتعد عن مشروع الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، لأن المشروع المهدوي هو مشروع حركة، وعمل، فإذا أراد الإنسان أن يصل إلى القمة، لابد أن يسير ويسعى ويتحرك ويبتعد عن الكسل.
هذا الأمر نحن نسميه (التكامل في عصر الانتظار)، وأهم نقطة فيه أن يتجاوز الإنسان مرحلة الكسل، والتواني، والضجر، وخصوصا التسويف، (سوف وسوف)، هذه المشكلة الكبيرة موجودة عند كثير من الشباب، نسأل الله تعالى ان يوفقنا جميعا في خدمة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، من أجل نشر المعرفة المهدوية فيما بين الناس ومن ثم نشر الازدهار والسعادة في مجتمعاتنا.
للبحث تتمة...
اضف تعليق