شيعة أمير المؤمنين، عليه السلام، كنّوا إمامهم الغائب بـ "المنتظر" يعني؛ ثمة أناس ينتظرونه، بيد أن السؤال الذي يؤرق المنتظرين طيلة الفترة الماضية والى وقت غير معلوم، فقد مات الآباء والاجداد وهم يحملون معهم أمل اللقاء بالإمام في عصر الظهور؛ ما السرّ في هذا الانتظار الطويل؟...
يرجو الانسان لنفسه الصواب في جميع أعماله فيستعجل النتائج بما يماثل الصواب، فلا يرى حاجة لطول انتظار لتأكده –في قرارة نفسه- من حُسن أعماله وافكاره لاسيما اذا كان ذا قربى من مصادر الدين والعقيدة، من تراث ونصوص و رموز وأجواء روحانية كالتي نعيشها في العراق، وفي البقاع المقدسة لدى زيارتنا لها، وتحديداً؛ مرقد الامام الحسين في كربلاء المقدسة التي يؤمها الملايين لزيارته في ليلة النصف من شهر شعبان المتزامن مع ذكرى مولد الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه.
شيعة أمير المؤمنين، عليه السلام، كنّوا إمامهم الغائب بـ "المنتظر" يعني؛ ثمة أناس ينتظرونه، بيد أن السؤال الذي يؤرق المنتظرين طيلة الفترة الماضية والى وقت غير معلوم، فقد مات الآباء والاجداد وهم يحملون معهم أمل اللقاء بالإمام في عصر الظهور؛
ما السرّ في هذا الانتظار الطويل؟
القيادة الواحدة
صحيح أن الغيبة لم تخلق فراغاً قيادياً في الأمة، و أن الامام الحجة المنتظر حدد بنفسه المؤهل لقيادة الأمة في غيابه، وهم الفقهاء وعلماء الدين، بيد أن استمرار فترة الغيبة لفترات طويلة توهم البعض بالتطبيع على حالة "النيابة العامة"، رغم إن مصطلح النائب عليه تحفظ، إذ لا نائب للإمام الحجة، إنما كان لديه سفراء أربعة، وقد انتهى دورهم في حقبتهم الزمنية، إنما المُراد من المصطلح لدى الرأي العام الشيعي؛ هم مراجع التقليد الذين يعود الناس اليهم في أحكام دينهم، وفي أمورهم الاجتماعية، والاقتصادية، السياسية.
بمرور الزمن اكتسى مرجع الدين صفة القائد لجمهور المقلدين له مع أول بوادر الوعي الاجتماعي بالمطالب والحقوق السليبة على يد السلطة الديكتاتورية في نهايات القرن الماضي، مما أفرز اصطفافاً سريعاً بين قيادة السلطة وقيادة الحوزة العلمية، ومنذ ذلك الحين تولدت القناعة التامة بأن مرجع الدين هو الذي يصون كرامة الانسان وحقوقه، وليس الحاكم المستبدّ الذي يسترخص دماء وأعراض الملايين لتحقيق مصالحه الشخصية والحزبية، بيد أن الغيبة المتواصلة للإمام الحجة المنتظر تؤكد للناس أجمعين، أن قيادة المرجعية الدينية محدودة في حياة المرجع نفسه، ثم تنتهي بوفاته، فتأتي قيادة أخرى، ربما بأفكار وأساليب جديدة، واجتهادات تواكب تطورات الزمن، وإذن؛ فهي قيادة غير دائمية مثل قيادة الامام الحجة المنتظر المتوفرة على كل شروط القيادة الربانية؛ من عصمة، وشمولية للمكان والزمان، وحلول جذرية لأية مشكلة تواجه العالم.
ليس في يوم الخامس عشر من شعبان، ذكرى مولد الإمام المنتظر، وإنما طوال حياة الانسان، عليه أن يتذكر أن القائد الحقيقي له؛ الامام المنتظر، وعليه النظر بدقّة الى ما يريد وهو غائب.
الإيمان
ليس فقط بشخص الإمام القائد، وإنما بالقضية والمشروع ومصدره السماوي، ولعل طول غيبة الامام هي بحد ذاتها تذكيرٌ بوجود إرادة ربانية ينتظرها الإمام نفسه، وليس الأمر بيده، وهنا تحديداً يكمن جوهر الاختبار الصعب لأمم خلت في التاريخ عاصرت أنبياء قادة، فسقطوا في هذا الاختبار بشكل مريع، مثل بني اسرائيل مع نبيهم موسى، عليه السلام، فهم لمسوا معجزته الإلهية بشق البحر نصفين والعبور على قاعه اليابسة والنجاة من جيش فرعون، ثم الانتقال الى حياة الأمن والرخاء والاستقرار، فبدلاً من أن يكون هذا حافزاً لتعميق الإيمان بالله –تعالى- دفعهم رغبتهم النفسية لاتخاذ العجل إلهاً، لمجرد غياب نبيهم عنهم لفترة محدودة لم تتجاوز الاربعين يوماً.
إن غيبة الإمام والقائد تُعد حكمة إلهية عظيمة لاستجلاء النفوس والنوايا التي لن يظهر منها شيء للعلن بوجود القائد لأن الجميع يهتفون بحياته ويتقربون اليه بالطاعة والعمل، ولكن في غيابه تتحرك الخبايا والمضمرات في النفوس، "فهنالك كوامن خفية في مرحلة القوة حيث يوفر الامتحان الإلهي الجو لكي تتحول الى ما في هذه القوة الى فعل". (لماذا الغيبة؟ الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي)
وهنا الانسان المشحون إرادة وحرية وعزيمة بإمكانه أن يكون الحسين بن روح، السفير الثالث، الذي قال إنه لو قُرض بالمقاريض لما أخبر عن الإمام الحجة، وربما يكون الشلمغاني، وهو العالم والفقيه المعروف منذ عهد الامام العسكري، عليه السلام، وكان من اصحاب الامام الحجة في غيبته الصغرى، بيد أن حسده للحسين بن روح، وعدم ترشيحه للسفارة أثار كوامنه النفسية، و راح يصطنع لنفسه احاديث وافكار بعيدة عن الإمام الحجة وعن الدين، فادعى النيابة الخاصة، بل وأشاع فكرة الحلول لله –تعالى- في الانبياء والأوصياء، فكانت عاقبته الطرد والتبرؤ بكتاب من خط الإمام، عجل الله فرجه، ولعنه وتحذير الأمة منه.
وبهذا نفهم أن طول الانتظار المتعب والباعث على الملل في بعض الاحيان، وربما اليأس لدى البعض، يمثل وسيلة رائعة لمزيد من الصقل والتكريس للإيمان في النفوس، ضمن عملية مستمرة على مر الاجيال، فكما نجح الأولون قبل حوالي اثني عشر قرناً من الزمن، ومضوا الى ربهم بنفوس مطمئنة، بالامكان تكرار هذا النجاح في الوقت الحاضر، بل وفي قادم الأيام الى أمد غير معلوم، وحتى يوم الظهور العظيم، وفي رواية ينقلها الفقيه الشيرازي –طاب ثراه- في أحاديثه عن الغيبة والظهور، بأن رسُل السماء تأتي الى الأموات يوم الظهور، وتخيرهم بين الانبعاث من جديد ومعاصرة مرحلة الإمام الحجة ثم الاستشهاد معه، وبين الاستمرار في حالتهم البرزخية وهم على خير، بأن "لقد ظهر صاحبكم"، فيا له من نداء تقشعر منه الابدان، وتهفو اليه النفوس والمشاعر، فهي أمنية كل مؤمن متبصّر بقضية الامام الحجة المنتظر، وحاملٍ لمشعل الرسالة طوال حياته وحتى آخر لحظة من حياته.
اضف تعليق