يعتبر كتاب (نهج البلاغة) مدرسة فكرية وانسانية فذة، خليق بنا ان نتتلمذ على ابوابها ونغترف من معينها الذي لا ينضب من الدين والعلم والبلاغة والاخلاق والانسانية.
وفي طيات هذا الكتاب العظيم (وهو دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق) آلاف المبادئ والقوانين التي تصلح لكل زمان ومكان، وفي مناحي الحياة كافة، ومنها آداب التعايش والتعامل مع الاخر. وهي سلوكيات تغنينا عن نظريات الشرق والغرب في علم الاجتماع والسياسة والتي تخبَّط اصحابها طويلا في سبيل معرفة الانجع منها، وخصوصا في المجتمعات التي تتميز بالتعددية والتنوع الديني والمذهبي والعرقي.
يضع لنا الامام علي (ع) في نهجه نظريات متكاملة، تتناول سبل التواصل والتوافق بين البشر، وقد اجاد في كل وصاياه لولاته في الامصار المختلفة، ومنها كتابه لمالك الاشتر لمّا ولّاه على مصر وهو اطول عهد كتبه واجمعه للمحاسن. وبات اليوم يعرف عالميا بـ (الدستور العلوي) المتمثل في كلماته للاشتر... (الناس صنفان: اما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق).
ما أعظمها من كلمات.. وهي تستحق ان تكتب بماء الذهب، وتعلَّق على كل المنظمات والمؤسسات التي تحمل لواء الانسانية والعدالة والحقوق والحريات وان تتخذها شعارا لها. وهو ما حدث فعلا، فهذه العبارة قد اصبحت احدى مصادر التشريع في اللجنة القانونية بالأمم المتحدة، بعد ان اقترحت من الامين العام للأمم المتحدة (كوفي عنان) في وقتها، وقد رشحت للتصويت وصوتت عليها الدول وهي رقم 194_193.
ما احوجنا نحن المسلمون لهذ المبدأ السامي في تعاملنا، وحواراتنا مع الفكر الاخر، ونحن نغرق اليوم في بحر متلاطم من الفتن والانقسامات والتفرقة والتعصب. ولنقف قليلا عند هذه الوصية، لكي نعود الى الطريق الصحيح الذي رسمه لنا الامام قبل أكثر من الف وأربعمائة سنة.
صنف ابو تراب الناس الى صنفين: فأخ لك في الدين وهو المسلم.. ونظير لك في الخلق اي البشر (فكلنا من ادم). ذكر امير المؤمنين هنا موضوع التعددية، وهي من آيات الله سبحانه وتعالى في الارض "ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين" والهدف منها هو الامتحان والاختبار "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات.."، ثم يوجهنا القرآن الكريم و(القرآن الناطق) الى كيفية التعامل مع نظيرنا المختلف فيقول جلَّ وعلا في كتابه الكريم "لا تجادلوا اهل الكتاب إلا بالتي هي احسن".
ويقول (عليه السلام) في الوصية نفسها: واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم.
فشريعة الاسلام مبنية على المحبة واحترام الآخر ومعتقداته إلا اللهم من اعتدى، فيسمح لنا الاسلام بالدفاع عن النفس والدين، والتسامح الديني والتعايش هنا ليس هو التنازل والتساهل بل احترام الاخر والاعتراف به مادام لم يؤذِ غيره.
وكان ابو الحسن (ع) المثل الاعلى في ذلك، وقد اكد على هذا المبدأ من خلال مواقف عديدة وممارسات عملية، فقد خرج (صلوات الله عليه) يوما من المسجد فجاء له شخص يحمل البغض والكراهية، فقال له امام حشد من المسلمين: انا لا احبك.. ولا اذهب للقتال معك.. ولا اصلي خلفك.. ولا أقم الجماعة خلفك.
فكان جوابه (ع): وأنا لا اضيرك مادام المسلمون في مأمن منك.
ونجد ايضا كيف كان رسول الله (ص) يدخل في حوارات ولقاءات مع اليهود والنصارى، وكان اهل البيت (ع) ايضا يدخلون في نقاشات ومناظرات مع ملحدين وزنادقة، وفي اغلب هذه اللقاءات ينجحون في اقناعهم ويدخلون في الاسلام، وذلك بفضل حسن ادبهم (صلوات الله عليهم) ورقيّهم في الحوار مع الاخر.
فعن الرضا (ع): لو علم الناس محاسن كلامنا لاتَّبعونا.
وتأسيسا على ذلك كله يبقى السؤال المهم لم ابتعدنا عن هذا الطريق الواضح، والمنهج السليم في تعاملنا مع الاخ والنظير؟؟ ولِمَ انتشر التطرف والعنصرية؟؟ والتفرقة ورفض الاخر وإلغاءَه، بل وقتاله لمجرد انه ليس من دينه او طائفته او قوميته او لونه او حزبه و و..؟، ومعاملة الآخر وفق مبدأ (من ليس معي فهو ضدي). ولِمَ اختفت معاني التعاطف والتآلف والتآخي والعيش المشترك؟ الجواب هو في التعصب.. وهو سبب اساسي لكل الحروب المباشرة وغير المباشرة، والنزاعات الداخلية والخارجية والفتن المذهبية والطائفية، ووصلت التفاهة عند البعض بالتعصب لفرق وأندية رياضية!.
ولا شك أن هناك أسبابا عديدة للتعصب منها:
1- حب الذات والانانية والغرور (وهي من اسباب تعصب اليهود وتسمية أنفسهم بشعب الله المختار وفق نظرية التفوق العرقي).
2- التنشئة الاجتماعية (فالأسرة نواة المجتمع).
3- العولمة والاعلام (وفق أساليب الكذب والتضليل المعروفة).
4- الجهل والفهم الخاطئ للدين وهو اخطرها واكثرها تأثيرا (كما في الحروب الدينية في اوروبا والاقتتال في صعيد مصر والسودان، حيث يوجد اكبر مخزون من الاميين في العالم العربي وغيرها الكثير).
والهجوم على الشيعة واتهامهم بالشرك وتكفيرهم واباحة دمائهم هي بسب عدم المعرفة، وتصديق كل ما يقوله ويفتي به شيوخ الضلالة.
اما الحل فيكمن في معالجة الاسباب السابقة للتعصب وهي بتصحيح الذات.. فأمير المؤمنين يضيف بعد تصنيف الناس: (فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب ان يعطيك الله من عفوه وصفحه). كذلك تقع مسؤولية كبيرة على الاسرة في أهمية زرع مفاهيم التسامح والتآخي مع اقرانه المتشابهين والمختلفين على حد سواء، في نفس الطفل وتقويم الحالات المرضية التي يلحظونها.
اما الاعلام والجهل فيعالج بإنشاء اعلام مضاد، وضخ معلوماتي بكل الوسائل، وقد دلت الكثير من البحوث والدراسات على ان الشعوب والجماعات تغير اتجاهاتها عبر الاجيال عندما تتغير انماط التفكير لديها. ولذلك ينبغي ان نوضح من خلال وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي المختلفة، وبحواراتنا واجتماعاتنا، الوجه الحقيقي للإسلام الذي شوهه المتطرفون، ويجب ان نعرّف كل العالم، بعد ان اصبح قرية صغيرة بفعل التكنولوجيا الحديثة، بدستور امير المؤمنين الذي يضم بين طياته خير الدنيا والاخرة، كما قال المفكر المسيحي جورج جرداق: (فليس من أساس بوثيقة حقوق الانسان التي نشرتها الامم المتحدة إلا وتجد له مثيلا في دستور ابن ابي طالب ثم تجد في دستوره ما يعلو ويزيد).
وكيف لا يكون كذلك ومن خط هذا الدستور ربيب رسول الله، وباب مدينة علمه وسفير القرآن، وما وصلنا من علمه غيض من فيض وقطرة من بحر فهو من: (أسر أولياؤه مناقبه خوفا، وكتمها أعداؤه حقدا ومع ذلك شاع منها ما ملأ الخافقين).
اضف تعليق