اذا قدّر لنا اليوم أن لا نعرف تلك الشروط بمفرداتها، فلنعرف أنها كانت من السعة والسماحة والجنوح الى الحسن، بحيث صححت ما يكون من الفقرات المنقولة عن المعاهدة أقرب الى صالح الحسن، ورجّحته على ما يكون منها في صالح خصومه، كنتيجة قطعية لحرية الحسن في أن يكتب من الشروط ما يشاء...
بقلم: الامام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي
وروى فريق من المؤرخين، فيهم الطبري وابن الاثير: «أن معاوية أرسل الى الحسن صحيفة بيضاء مختوماً على أسفلها بختمه»، وكتب اليه: «أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت، فهو لك(1)».
ثم بتروا الحديث، فلم يذكروا بعد ذلك، ماذا كتب الحسن على صحيفة معاوية. وتتبعنا المصادر التي يُسّر لنا الوقوف عليها، فلم نر فيما عرضته من شروط الحسن عليه السلام، الا النتف الشوارد التي يعترف رواتها بأنها جزء من كل. وسجّل مصدر واحد صورة ذات بدء وختام، فرض أنها [النص الكامل لمعاهدة الصلح]، ولكنها جاءت - في كثير من موادّها - منقوضة بروايات أخرى تفضلها سنداً، وتزيدها عدداً.
ولنا لو أردنا الاكتفاء، أن نكتفي - في سبيل التعرّف على محتويات المعاهدة - برواية (الصحيفة البيضاء)، كما فعل رواتها السابقون، فبتروها اكتفاءً بإجمالها عن التفصيل، ذلك لان تنفيذ الصلح على قاعدة «اشترط ما شئت فهو لك» معناه أن الحسن أغرق الصحيفة المختومة في أسفلها، بشتى شروطه التي أرادها، فيما يتصل بمصلحته، أو يهدف الى فائدته، سواء في نفسه أو في أهل بيته أو في شيعته أو في أهدافه، ولا شيء يحتمل غير ذلك.
واذا قدّر لنا -اليوم- أن لا نعرف تلك الشروط بمفرداتها، فلنعرف أنها كانت من السعة والسماحة والجنوح الى الحسن، بحيث صححت ما يكون من الفقرات المنقولة عن المعاهدة أقرب الى صالح الحسن، ورجّحته على ما يكون منها في صالح خصومه، كنتيجة قطعية لحرية الحسن عليه السلام في أن يكتب من الشروط ما يشاء.
ورأينا بدورنا، وقد أخطأنا التوفيق عن تعرّف ما كتبه الحسن هناك، أن ننسق - هنا - الفقرات المنثورة في مختلف المصادر من شروط الحسن على معاوية في الصلح، وأن نؤلف من مجموع هذا الشتات صورة تحتفل بالاصح الأهم، مما حملته الروايات الكثيرة عن هذه المعاهدة، فوضعنا الصورة في مواد، وأضفنا كل فقرة من الفقرات الى المادة التي تناسبها، لتكون - مع هذه العناية في الاختيار والتسجيل - أقرب الى واقعها الذي وقعت عليه.
واليك هي:
صورة المعاهدة التي وقعها الفريقان
المادة الاولى:
تسليم الامر الى معاوية، على أن يعمل بكتاب اللّه وبسنة رسوله(2) (صلى اللّه عليه وآله)، وبسيرة الخلفاء الصالحين(3).
المادة الثانية:
أن يكون الامر للحسن من بعده(4)، فان حدث به حدث فلأخيه الحسين(5)، وليس لمعاوية أن يعهد به الى احد(6).
المادة الثالثة:
أن يترك سبَّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة(7)، وأن لا يذكر علياً الا بخير(8).
المادة الرابعة:
استثناء ما في بيت المال الكوفة، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الامر. وعلى معاوية أن يحمل الى الحسين كل عام الفي الف درهم، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد(9).
المادة الخامسة:
«على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمّنَ الاسود والاحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع احداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق باحنة(10)».
«وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن اصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل الى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب اصحاب عليّ حيث كانوا..(11)».
«وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لاخيه الحسين، ولا لاحد من أهل بيت رسول اللّه، غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق(12)».
الختام:
قال ابن قتيبة: «ثم كتب عبد اللّه بن عامر - يعني رسول معاوية الى الحسن (ع) - الى معاوية شروط الحسن كما أملاها عليه، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة، والايمان المغلَّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، ووجه به الى عبد اللّه ابن عامر، فاوصله الى الحسن(13)».
وذكر غيره نص الصيغة التي كتبها معاوية في ختام المعاهدة فيما واثق اللّه عليه من الوفاء بها، بما لفظه بحرفه:
«وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك، عهد اللّه وميثاقه، وما أخذ اللّه على أحد من خلقه بالوفاء، وبما أعطى اللّه من نفسه(14).
وكان ذلك في النصف من جمادى الاولى سنة 41 - على أصح الروايات -.
دراسة النصُوص البارزة في المعاهدة
لتكن صيغة المعاهدة بما لولوت عليه من عناصر موضوعية لها أهميتها في الناحيتين الدينية والسياسية، شاهداً جديداً على ما وفّق له واضع بنودها من سمو النظر في الناحيتين جميعاً.
ومن الحق ان نعترف للحسن بن علي عليهما السلام - على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل اليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه - بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدّر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها، لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين وحكام المسلمين اللامعين. ولن يكون الحرمان يوماً من الايام، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان، دليلاً على ضعف أو منفذاً الى نقد، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير وسموّ الرأي، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش.
وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل. وها هي ذي من لدن هذا الرجل العظيم تستجدّ - منذ الآن - ميدانها البكر، القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمة بكاملها في حاضرها ومستقبلها، بما تضعه في هذه المعاهدة من خطوط، وبما تستقبل به خصومها من شروط.
وانك لتلمح من بلاغة المعاهدة بموادها الخمس، أن واضعها لم يعالج موضوعه جزافاً، ولم يتناوله تفاريق وأجزاءً، وانما وضع الفكرة وحدة متماسكة الاجزاء متناسقة الاتجاهات. وتوفر فيها على تحرّي أقرب المحتملات الى التنفيذ عملياً، في سبيل الاحتياط لثبوت حقه الشرعي، وفي سبيل صيانة مقامه ومقام أخيه، وتيسير شؤون أسرته وحفظهم، واعتصم فيها بالأمان لشيعته وشيعة أبيه وانعاش أيتامهم، ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ووفائهم مع أبيه، وليحتفظ بهم أمناء على مبدئه وانصاراً مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه، يوم يعود الحق الى نصابه. وسلّم فيها «الأمر» الى معاوية مشروطاً بالعمل على سنّة النبي (ص) وسيرة الخلفاء الصالحين، فقلص بذلك من نفوذ عدوه في «الأمر» بما عرضه - من وراء هذا الشرط - للمخالفات التي لا عدَّ لها ولا حدَّ لنقمتها، وهو اذ ذاك اعرف الناس بمعاوية وبقابلياته الخلقية تجاه هذا الشرط.
والمعاهدة - بعدُ - هي الصكّ الذي وَقّعه الفريقان ليسجلا على أنفسهما الالتزام بما أعطى كل منها صاحبه وبما أخذ عليه. وهي هنا - على الاكثر - قضية «ماديَّات» محدودة لجّ في تحصيلها أحد الفريقين لقاء «معنويات» لا حدَّ لها استأثر بها الفريق الثاني.
فلم يهدف معاوية في صلحه مع الحسن (ع)، الا للاستيلاء على الملك، ولم يرض الحسن بتسليم الملك لمعاوية الا ليصون مبادئه من الانقراض، وليحفظ شيعته من الابادة، وليتأكد السبيل الى استرجاع الحق المغصوب يوم موت معاوية.
ومن سداد الرأي أن لا نفهم مغزى هذه المعاهدة الا على هذا الوجه.
ولكي نتبين صحة هذا التفسير لأهداف الفريقين يوم صلحهما، علينا ان نتحلل هنا في سبيل الكشف عن حقيقة تاريخية لها أهميتها، من التعبّد بأقوال المؤرخين وبتصرفاتهم، وأن نرجع توّاً الى التصريحات الشخصية التي فاه بها كل من المتعاقدين أنفسهما، فيما يمت الى عناصر اتفاقيتهما هذه، أو فيما يلقي الضوء على تفسير ما يفتقر الى التفسير منها. ولعلنا سنصل من وراء هذا الاسلوب في طريقة الاستنتاج، الى حل شيء كثير من الرموز التي استعصى حلها على كثير من الاصدقاء في التاريخ.
1 - تصريحات الفريقين:
ويكفينا الآن من تصريحات معاوية بعد الصلح، فيما يمتّ الى معاهدته مع الحسن عليه السلام قوله فيما يرويه عنه كثير منهم ابن كثير(15): «رضينا بها ملكاً»، وقوله في التمهيد لهذه المعاهدة - قبل الصلح - فيما كان يراسل به الحسن: «ولك أن لا يستولى عليك بالاساءة ولا تقضى دونك الامور ولا تعصى في أمر(16)».
ويكفينا من تصريحات الحسن (ع) ما قاله أكثر من مرة في سبيل افهام شيعته حيثيات صلحه مع معاوية: «ما تدرون ما فعلت واللّه للذي فعلت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس». وما قاله مرة أخرى لبشير الهمداني وهو احد رؤساء شيعته في الكوفة: «ما أردت بمصالحتي الا ان أدفع عنكم القتل(17)»، وما قاله في خطابه - بعد الصلح -: «أيها الناس ان اللّه هداكم بأوّلنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وقد سالمت معاوية، وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين(18)».
وليس في شيء من هذه التصريحات ولا في الكثير مما جرى على نسقها، سواء من معاوية أو من الحسن عليه السلام، ما يستدعينا الى الالتواء في فهم العقد القائم بينهما، الذي لم يقصد منه الا الاهداف التي أشرنا اليها آنفاً. فلمعاوية طموحه الى الملك، وللحسن خطته في حماية الشيعة من القتل، وصيانة المبادئ الدينية التي هي خير مما طلعت عليه الشمس، والمسالمة الى حين.
ولا بدع - بعد هذا - في تقرير هذه الحقيقة على واقعها، وفي التنبيه الى جنف كثير من المؤرخين فيما حرّفوا من أهداف كل من المتعاقدين، وفيما أساءوا فهمه من نصوصهما. ولقد ترى، ان المعاهدة نفسها وتصريحات المتعاقدين أنفسهما، لم تنبس قط، بذكر بيعة ولا امامة ولا خلافة. فأين اذاً، ما يدعيه غير واحد من هؤلاء المؤرخين وعلى رأسهم ابن قتيبة الدينوري، من أن الحسن بايع معاوية على الامامة !!..
وقبل الانتقال الى مناقشة هذا الموضوع، أو مناقشة القائلين به نتقدم بتمهيد عابر عن نسبة الخلافة الاسلامية الى معاوية بن أبي سفيان، وامتناع البيعة الشرعية لمثله، فنقول:
معاوية والخلافة:
لقد مرّ فيما ذكرناه بين أطواء المناسبات الآنفة، أن خلافة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الاسلام لا ينبغي ان تكون الا في أقرب المسلمين شبهاً به في سائر مزاياه الفضلى، وانه ليس لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء في هذا الامر (كما قاله عمر)، وأن الخلافة بعد رسول اللّه ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً (الحديث كما صححه أهل السنة)، وأن لا امامة الا بالنص والتعيين (كما عليه الشيعة والمعتزلة)، وأن الغلبة والقوة لا تجعل غير الجائز جائزاً، فلا يصح أخذ الخلافة عنوة ولا فرضها على المسلمين قسراً، وأن الذي يكون خليفة النبي (ص) لا يمكن أن ينقاد - لا ظاهراً ولا سراً - الى مناقضته في أحكامه، فيلحق العهار بالنسب ويصلي الجمعة يوم الاربعاء وينقض عهد اللّه بعد ميثاقه.
ونزيد هنا: أن قادة الرأي في الامة الاسلامية منذ عهد معاوية والى يوم الناس هذا، لم يفهموا من استيلاء معاوية على الامر، معنى الخلافة عن رسول اللّه (ص) بما في هذا اللفظ من معنى، رغم الدعاوة الاموية النشيطة التي تجنّد لها الخلفاء الاسميون من بني أمية ومن اليهم، زهاء الف شهر، هي مدة حكمهم في الاسلام، أنفقوا فيها الرشوات بسخاء، ووضعوا فيها الاحاديث والاقاصيص وفق الخطط والاهواء، ثم بقي معاوية - مع كل ذلك - ملكاً دنيوياً وخليفة اسمياً لا اقلَّ ولا أكثر.
دخل عليه - بعد أن استقر له الامر - سعد بن أبي وقاص فقال له:
«السلام عليك أيها الملك» فضحك له معاوية وقال: «ما كان عليك يا أبا اسحق لو قلت: يا أمير المؤمنين»، قال: «أتقولها جذلان ضاحكاً، واللّه ما أحب اني وليتها بما وليتها به(19)».
وقال ابن عباس لابي موسى الاشعري في كلام طويل: «وليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة(20)».
وقال أبو هريرة في سبيل انكاره خلافة معاوية فيما يرويه عن رسول اللّه (ص): «الخلافة بالمدينة والملك بالشام(21)».
وسئل سفينة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - فيما أخرجه ابن أبي شيبة - عن استحقاق بني أمية للخلافة، فقال: «كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شرِّ الملوك، وأول الملوك معاوية(22)».
وأنكرت عائشة على معاوية ادعاءه الخلافة وبلغه ذلك، فقال: «عجباً لعائشة تزعم اني في غير ما أنا اهله، وأن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق، مالها ولهذا يغفر اللّه لها(23)».
وحضر أبو بكرة (أخو زياد لامه) مجلس معاوية، فقال له: «حدثنا يا ابا بكرة»، فقال [فيما أخرجه ابن سعيد]: «اني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: الخلافة ثلاثون ثم يكون الملك قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: «وكنت مع أبي فأمر معاوية فوجئ في أقفائنا حتى أخرجنا(24)».
وسأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي قائلاً: «أي الخلفاء رأيتموني ؟»، فقال صعصعة: «أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ودانهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً. أما واللّه ما لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، ولقد كنت أنت وابوك في العير والنفير، ممن أجلب على رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم. وانما أنت طليق وابن طليق أطلقكما رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم. فأنّى تصلح الخلافة لطليق؟!(25)».
ودخل عليه صديقه المغيرة بن شعبة، ثم انكفأ عنه وهو يقول لابنه: «اني جئت من أخبث الناس!!(26)».
ولعنه عامله سمرة يوم عزله عن ولاية البصرة، فقال: «لعن اللّه معاوية واللّه لو اطعت الله كما أطعته لما عذبني ابداً(27)».
وقال الحسن البصري: «أربع خصال كُنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها امرها (يعني الخلافة) بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويل له من حجر وأصحاب حجر، (مرتين)(28)».
وأبى المعتزلة بيعة معاوية بعد الصلح، واعتزلوا الحسن ومعاوية جميعاً، وبذلك سموا أنفسهم «المعتزلة»(29).
ثم مشى موكب الزمان بتاريخ معاوية، فاذا به المثال الذي يضربه فقهاء المذاهب الاربعة، للسلطان الجائر(30)..
واذا به الباغي الذي يجب قتاله برأي أبي حنيفة النعمان بن ثابت(31).
فأين الخلافة المزعومة، ياترى ؟.
وجاء المعتضد العباسي، فنشر من جديد فعال معاوية وبوائقه الكبرى وما قيل فيه، وما روي في شأنه. ودعا المسلمين الى لعنه، في مرسوم ملكي اذيع على الناس سنة 284 للهجرة(32).
وقال الغزالي بعد ذكره لخلافة الحسن بن علي (ع): «وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق(33)».
وكان أروع ما ذكره به القرن السادس، قول نقيب البصرة فيه: «وما معاوية الا كالدرهم الزائف(34)».
وصرّح ابن كثير بنفي الخلافة عن معاوية استناداً الى الحديث، قال: «قد تقدم أن الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول الملك(35)».
وقال الدميري المتوفى سنة 808 هجري بعد ذكره مدة خلافة الحسن (ع): «وهي تكملة ما ذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم من مدة الخلافة، ثم تكون ملكاً عضوضاً ثم تكون جبروتاً وفساداً في الارض، وكان كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(36)».
وجاء محمد بن عقيل - اخيراً - فكتب كتابه الجليل «النصائح الكافية لمن يتولى معاوية» وهو بحق: القول الفصل في موضوع معاوية، وقد طبع الكتاب مرتين، فليراجع.
وفي اباء التشريع الاسلامي مثل هذه الخلافة - أولاً -.
وفي المخالفات الصلع التي ثبتت على معاوية للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم - ثانياً -.
وفي انكار قادة الرأي المسلمين عليه - في مختلف العصور الاسلامية - ادعاءه الخلافة - ثالثاً - ما يكفينا مؤنة البحث في موضوع (معاوية والخلافة).
وكذلك كان الحسن نفسه بعد تسليم الامر لمعاوية، صريحاً في نفي الخلافة عنه، شأنه في ذلك شأن سائر القادة من المسلمين. فقال في خطابه يوم الاجتماع في الكوفة: «وان معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها اهلاً، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عزّ وجل وعلى لسان نبيه». وسيأتي ذكر خطابه هذا في [الفصل 18].
وقال في خطاب آخر له - بعد الصلح - وكان معاوية حاضراً: «وليس الخليفة من دان بالجور وعطل السنن واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكن ذلك ملك أصاب ملكاً يمتع به، وكان قد انقطع عنه، واستعجل لذته وبقيت عليه تبعته، فكان كما قال اللّه جل وعزّ: وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين(37)».
2 - حديث البيعة:
وجاء فيما يرويه الكليني رحمه اللّه (ص 61): «ان الحسن اشترط على معاوية أن لا يسميه أمير المؤمنين».
وجاء فيما يرويه ابن بابويه رحمه اللّه في العلل (ص 81)، وروا غيره أيضاً: «أن الحسن اشترط على معاوية أن لا يقيم عنده شهادةً».
ولا أكثر مما تضمنته هاتان الروايتان تحفظاً عن الاعتراف بصحة خلافة معاوية فضلاً عن البيعة له. ولم يكن ثمة الا تسليم الملك الذي عبرت عنه المعاهدة «بتسليم الامر» وعبر عنه آخرون بتسليم الحكم.
اما قول الدينوري في «الامامة والسياسة» أن الحسن بايع معاوية على الامامة، فهو القول الذي يصطدم قبل كل شيء بقابليات معاوية التي عرفنا قريباً النسبة بينها وبين الخلافة وصلاحية البيعة على المسلمين، ويصطدم ثانياً بتصريحات الحسن في انكار خلافة معاوية. سواء في خطابيه الآنفين، أو في تحفظاته الواضحة في هاتين الروايتين.
وهكذا دلّ الدينوري فيما مرَّ عليه من قضايا الحسن ومعاوية، على تحيز واضح لا يليق بمؤرخ يعيش في القرن الثالث حيث لا معاوية ولا رشواته ولا دعاواته، ولكنها الدوافع العاطفية التي لم يسلم من تأثيرها كثير من مؤرخينا المسلمين... فقال مرة اخرى: «ولم ير الحسن والحسين طول حياة معاوية منه سوءاً في أنفسهما ولا مكروهاً !». اقول: وأي سوء يصاب به انسان أعظم من قتله سماً ؟. وأي مكروه ينزل بانسان أفظع من اغتصاب عرشه ظلماً ؟. فأين مقاييس الدينوري بعد هذا يا ترى؟
ونحن اذ أردنا هنا، ان نتعسف للمتسرعين الى ذكر البيعة عذراً أو شبه عذر، حملناهم على التأثر بالدعاوات الكثيرة التي كانت لا تزال آخذة بالاسماع، ولم يكن في التاريخ قضية أبرز من انتقال الحكم في الاسلام من سبط النبي نفسه، الى طليق من الطلقاء المعروفين بتاريخهم القريب، ولذلك فقد بلغ الكلف بالمنكرين على الصلح حداً استساغوا به الاسترسال في ذيوله وحواشيه، فحوَّروا ما كان، وزوَّروا ما لم يكن. ومن هنا نسج الخيال حديث البيعة، وكان في اللغط بهذا الحديث - المصطنع - غرض قويّ للقوة القائمة على الحكم بعد حادثة الصلح، لأنه الدعامة التي تسند دعاوتهم باستحقاق الخلافة المزعومة، الامر الذي تصايح المسلمون بانكاره لهم وانكارهم له، منذ قال سفينة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك وأول الملوك معاوية».
ثم جاءت السطحية الساذجة التي تقمصها اخواننا المؤرخون فيما جمعوه أو فيما فرّقوه من تاريخ الاسلام، فمرّوا على هذه الاقصوصة المصطنعة كحقيقة واقعة، وكان القليل منهم من وقف عن الفضول في الكلام، وكان منهم من جاوز الحقيقة فخلط وخبط، حتى نسب الى الحسن نفسه الاعتراف بالبيعة صريحاً !. وكان منهم من أوقعه الخلط والخبط في فرية وضيعة لا تجمل بمروءة الرجل المسلم فيما يكتبه عن سبط من أسباط نبيه العظيم (ص)، فضلاً عن نبوها المكشوف بأمانة التاريخ، فادّعى انه باع الخلافة بالمال !!..
ولسنا الآن بصدد الردّ على تقولات الافاكين.
ولكننا اذ نبرئ حديث الصلح بواقعه الاول الذي رضيه الفريقان من قضية البيعة المزعومة، لا نعتمد في التبرئة الا على الفهم الذي يجب ان يفهمه المسلم من معنى البيعة ومن معنى الامامة على حقيقتهما - هذا أولاً وأما ثانياً فلما مرّ عليك قريباً من روايات الحادثة، ومن تصريحات ذوي الشأن في الموضوع.
وما من حقيقة تتعاون على تقريرها مثل هذه الادلة فتبقي مجالاً للشك.
وقديماً اعتاد الناس أن يرجعوا في كشف الوقائع الماضية الى اقوال المؤرخين القدامى، ممن عاصر تلك الوقائع أو جاء بعدها بقليل أو كثير من الزمن. وكان من الجمود على هذه الطريقة ما أدى في الاجيال المتأخرة الى مختلف الآراء وشتى التحزّبات، بين المجتمع الواحد وفي الافق الواحد والدين الواحد، ذلك لان مراجع هذا التاريخ أنفسهم، كانوا يعيشون تحت تأثير آراء وتحزبات لا معدى لهم عنها في مثل عصورهم. ومن الصعب جداً أن يطيق كاتب ما يومئذ التحلل - فيما يكتب - من المؤثرات العاطفية التي تشترك في تكوينه أدبياً وفي تدوير أعماله ومصالحه اجتماعياً. ومن هنا كان هذا القلق الملموس - المأسوف عليه - في كثير من موضوعات التاريخ الاسلامي.
ومن الحق أن نعتقد هنا، بأن قصة «البيعة» التي طعنت بها قضية الحسن في صلحه مع معاوية، انما كانت وليدة تلك المؤثرات التي كتب المؤرخون تحت تأثيرها تواريخهم، فرأوا من الدعاوات المغرضة لتسجيل هذه القصة كحقيقة واقعة ما يحفزهم الى حسن الاحتذاء، تطوعاً للمنفعة العاجلة أو جهلاً بالواقع، ورأوا من التصريح «بتسليم الامر» في صلب المعاهدة ما يسوّغ لهم - أو قل - ما ييسر لهم التوسع الى ادعاء الاعتراف بالخلافة، ثم الى ادعاء الانقياد بالبيعة !!. وخفي عليهم ان الخلافة - بما هي منصب الهي - لا يمكن ان تنقاد الى مساومة أو تسليم، ولا يمكن ان تمسها الظروف الزمنية في «صلح» أو «تحكيم».
ولكي نزداد بصيرة في تفهم معنى «تسليم الامر» الوارد في المادة الاولى من معاهدة الصلح، علينا أن نرجع الى طريقتنا في استنتاج الحدّ بين هزل المؤرخين فندرس على المتعاقدين أنفسهما تفسير هذا المجمل من حيث التقييد والاطلاق.
3 - تسليم الامر:
علمنا - مما تقدم - أن معاوية قال لابنه يزيد، وهو يشير الى أهل البيت عليهم السلام: «ان الحق حقهم».
وعلمنا انه كتب الى الحسن في التمهيد للصلح «ولا تقضى دونك الامور ولا تعصى في أمر».
وعلمنا أنه قال بعد الصلح: «رضينا بها ملكاً».
وعلمنا أنه خطب على منبر الكوفة يوم وصوله اليها. فقال: «اني لم اقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا.. وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم».
وعلمنا أن الحسن بن علي أنكر عليه الخلافة وجاهاً، فسكت ولم يرد عليه.
فلنعلم اذاً، بأن معاوية حين رضيها ملكاً نفاها عن نفسه خلافة، وحين قال: «لم اقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا..» دل على أنه ليس خليفة دين، ولكنه ملك دنيا لا همَّ له في صلاة ولا زكاة، وانما كل همه في التأمر على الناس. وهو حين يقول للحسن: «لا تقضى دونك الامور» ويقول لابنه: «ان الحق حقهم»، يعترف للحسن بالمقام الاعلى وبالسلطة التي لا تعصى في أمر. وما ذلك الا مقام الخلافة فحسب. وكان لابد لمعاوية أن يسكت - والحال هذه - حين يصارحه الحسن بإنكار خلافته، ويكذبه على ادعائها بغير استحقاق.
فأين من هذا، تسليم الخلافة الذي فسّروا به تسليم الامر ؟.
وشيء آخر، قد يكون في مغزاه أدق دلالة على اعتراف معاوية ببراءته من استحقاق الخلافة، وذلك هو ضحكته المخذولة لسعد بن أبي وقاص يوم دخل عليه وقال له: «السلام عليك ايها الملك»، ولم يقل يا امير المؤمنين، فقد كانت هذه الضحكة بلغتها المبطنة، صريحة بالاعتراف بالخطأ اذ يريد أن يأخذ الخلافة لقباً من غنائم الحرب، لا واسطةً بين المسلمين ونبيهم (ص)، وبهذا استحق من سعد، وهو الرجل الذي لا تغلبه مداورات معاوية، أن يقول له: «واللّه ما أحب أني وليتها بما وليتها به»، يعني أنه كان يترفع عنها لقباً ينبت على الدماء المحرمة، والفتن السود، والعهود الخائسة.
وترى - على هذا - أن سعداً لم يفهم من تسليم الامر الا تسليم الملك وهو ما يجب أن يفهمه كل من فهم لغة القرآن في الخلافة، أو لغة الفريقين
المتعاقدين في المعاهدة. ولما مرّ البحاثة الاسلامي الجليل السيد أمير علي الهندي رحمه اللّه، على ذكر هذا الصلح عبّر عنه «بالتنازل عن الحكم(38)».
وكان فيما قاله الحسن عليه السلام في سبيل التعبير عن صلحه مع معاوية جواباً لبعضهم: «لا تقل ذلك يا أبا عامر، لم أذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك(39)».
وقال لآخر: «أضرب هؤلاء بعضهم ببعض في ملك من ملك الدنيا لا حاجة لي به(40)».
وهكذا نجد الفريقين - الحسن ومعاوية - يتفقان على أن الحرب التي زحفا اليها بجيوشهما، انما كانت حرباً على الملك. ومعنى ذلك أن الصلح الذي اتفقا عليه في معاهدتهما، انما كان صلحا على الملك، لانهما يصطلحان اليوم على ما تنازعا عليه أمس. وليس في وجهة النظر القائمة بين الاثنين في خلال هذه التصريحات ولا يوم صلحهما، ذكر للخلافة تسلّماً ولا تسليماً.
ثم نجدهما يتفقان في هذه التصريحات، على ايثار أحدهما دون الآخر بالمركز الذي لا تقضى دونه الامور.. وهو المركز الذي سوّغ للحسن أن يقول عن معاوية كما لو قلده عملاً من اعماله وهو اذ ذاك حاضر مجلسه: «انه أعرف بشأنه وأشكر لما ولّيناه هذا الامر(41)» يعني امر الملك.
أقول: وكم هو الفرق بين هذا المركز وبين ما توهمه المتحذلقون من حديث البيعة أو من تفسير تسليم الامر بتسليم الخلافة ؟.
وكانت فيما نظن غلطة سبق اليها كاتب عن قصد، ثم أخذها عنه كتّاب عن غير قصد، واندست على مثل هذا الاسلوب اخطاء كثيرة في التاريخ، شوّهت من حقائقه وبدلت من روعته وضاعفت من جهد الباحثين فيه، ثم اذا أنت عُنيت بموضوعك فدققت مراجعه، رأيته لا يرجع الا الى أصل واحد، ثم اذا محصت الاصل رأيته لا يرجع الى أصل !.
هذا، واما الخلافة الاسمية، فلا خلاف فيها على معاوية ولا على أحد من هؤلاء المتنفذين الذين ادعوها لأنفسهم، أو غزوها بسلاحهم، أو ورثوها من الغزاة والمدّعين.
واذا صح في عرف المجتمع الذي بايع معاوية، أو بايع أحد هؤلاء، ان ينتزع من الادعاء أو قوة السلاح «خلافة» فلا مشاحة في الاصطلاح.
وليكن معاوية - على هذا - خليفة النفوذ والسلطان، وليبق الحسن بن علي خليفة النبي وشريك القرآن.
وليكن ما ورد في بعض النصوص - على تقدير صحة السند والامن من التحريف - تطبيقاً عملياً لاستعمال الكلمة في مصطلحها الجديد !.
4 - مصير الامر بعد معاوية
ولم يعهد في كتب معاوية الى الحسن فيما كان يراسله به في سبيل التمهيد للصلح، كتاب يغفل تعيين المصير الذي كان يجب أن يرجع اليه الامر من بعد معاوية. وهو اذ يطلب من الحسن في هذه الرسائل تسلم الامر محدوداً بحياته، يقول في بعضها: «ولك الامر من بعدي(42)» ويقول في بعضها الآخر: «وأنت اولى الناس بها(43)».
وهكذا جاء النص في المعاهدة.
وهكذا فهم الناس الصلح، انتزاعاً للسلطة محدوداً بعمر معاوية الذي كان يكبر الحسن زهاء ثلاثة عقود، فكان من المتوقع القريب أن يسبقه الى الموت، وأن يعود الحق الى نصابه، والحسن بعدُ في أوائل كهولته أو اواخر شبابه، لولا أن للخطط الجهنمية حساباً لا يخضع للمقاييس !!.
وظلت المادة الصريحة باستحقاق الحسن الامر بعد معاوية، أبرز مواد المعاهدة في المجتمعات الاسلامية، وأكثرها ذيوعاً بين الناس، مدى عقد كامل من السنين. ثم طغت عليها الدعاوات العدوة، وأخذها حملة الاخبار الى مصانعهم الجديدة، فبدلوا من معالمها وغيروا من حقائقها، وصاغها بعضهم بقوله: «ليس لمعاوية أن يعهد الى أحد». وتلطف آخر بها من عنده فقال: «ويكون الامر بعده شورى بين المسلمين». - أما الصادقون فرووها على حقيقتها. وفات المؤرخين المحترفين، أن صرف الحقيقة عن واقعها في هذا النص، لن يجديهم في صرف الواقع عن حقيقته في مرحلة التطبيق، فلم يكن من المحتمل عادة، أن يتجاوز المسلمون - في شوراهم أو في غير شوراهم - ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، لو قدر له أن يكون حياً يوم يموت معاوية، وقدّر للمسلمين أن يختاروا الخليفة أحراراً، أو يتشاوروا أمرهم مختارين. فالروايتان - الصحيحة والمحرفة - بل الصور الثلاث المزعومة للرواية الواحدة، تتحد عملياً ما دام الحسن حياً.
اذاً، فلماذا التهرب من أمانة التاريخ الا أن يكون تعاوناً رخيصاً مع السلطة القائمة على التمهيد لبيعة يزيد ؟!!.
وخيل للمؤرخ البارع الذي الغى التعيين الصريح، ونقل الامر الى الشورى، أنه أحسن اتخاذ الاسلوب للوضع والتحريف، وخفي عليه، أنه لم يزد فيما هدف اليه على صاحبه الذي الغاهما معاً، وذلك لان الشورى التي عناها لا تكون في انتخاب الخليفة، وانما تكون في الشؤون التي يديرها الخليفة أو رئيس المسلمين من أمورهم، وهكذا كان تشريعها الاول يوم قال سبحانه «وشاورهم في الامر»، وعلى ذلك مدحهم بقوله تعالى «وامرهم شورى بينهم».
والآية في نفي الرئاسات التي جعلها الناس، أصرح منها في فرضها على الناس.
وليس فيما توهمه هذا المؤرخ أو توهمه آخرون، من الاستناد الى الكتاب في قضية الانتخاب الا الوهم - ولذلك فان عائشة لما أرادت الدعوة الى الشورى لم تنسبها الى اللّه عزّ وجل وانما نسبتها الى عمر بن الخطاب ولو وجدت في نسبتها الى اللّه سبيلاً لما تأخرت عنه لانه كان - اذ ذاك - أدعم لحجتها، فقالت يوم دخولها البصرة: «ومن الرأي ان تنظروا الى قتلة عثمان فيُقتلوا به، ثم يُردّ هذا الامر شورى على ما جعله عمر بن الخطاب(44)».
واخيراً، فان القرائن القطعية الكثيرة، لا تقبل لهذا النص - موضوع البحث - الا الرواية الصريحة التي ذكرناها في المادة الثانية من صورة المعاهدة.
أما اولاً - فلما دلت عليه كتب معاوية الى الحسن (ع) - كما أشير اليه قريباً -.
واما ثانياً - فلأنها الانسب بشروط يضعها الحسن نفسه - كما نبهنا اليه في حديث (الصحيفة البيضاء).
واما ثالثاً - فلأن رواتها أكثر، وروايتها أشهر.
واما رابعاً - فلما أشرنا اليه من ذيوع المادة الثانية بنصها الصريح مدة حياة الحسن عليه السلام، حتى لقد كانت الشاهد في كثير من الخطب والاحاديث.
فنرى سليمان بن صرد يشير اليها فيما يعرضه للحسن بعد الصلح. ونرى جارية بن قدامة يذكر لمعاوية حق الحسن بالأمر بعده كقرار معروف. ونرى الاحنف بن قيس يرسله ارسال المسلّمات، في خطبته التي يرد بها على البيعة، ليزيد، وهو اذ ذاك يخاطب معاوية نفسه في حفل حاشد.
قال: «وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليه مقصاً. ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود اللّه ما قد علمت، ليكون له الامر من بعدك، فان تفِ، فأنت أهل الوفاء، وان تغدر تظلم. واللّه ان وراء الحسن خيولاً جياداً وأذرعاً شداداً وسيوفاً حداداً، ان تدنُ له شبراً من غدر، تجد وراءه باعاً من نصر. وانك تعلم من أهل العراق، ما أحبوك منذ أبغضوك..(45)».
الى كثير من الشواهد الاخرى التي يزهدنا في استيعابها رغبتنا في الاختصار.
5 - بقية المواد
ولقد ترى - الى هنا - بأن دراستنا للنقاط البارزة في مواد المعاهدة لم تتجاوز المادتين - الاولى والثانية -.
اما المادة الثالثة، فقد سبق في (الفصل: 14) مناقشة معاوية في موضوعها كما يجب - فليراجع -، وسبق في الكلام على حديث الصحيفة البيضاء التي أرسلها معاوية الى الحسن عليه السلام، ليكتب عليها ما يشاء من شروط، (في الفصل: 16) أن حديث هذه الصحيفة هو القرينة على ترجيح ما يكون من روايات المعاهدة أقرب الى صالح الحسن منه الى صالح خصومه، وعلى هذا فالمادة الثالثة لا تعني الا الاطلاق في منع معاوية من شتم أمير المؤمنين علي عليه السلام، سواء حضر الحسن أو غاب. ولا يؤخذ بما ألحقه بها بعض المؤرخين من اشتراط الامتناع عن السب بحال حضور الحسن واستماعه(46)، ولا هو مما يتمشى مع روح الصلح اذا كان الفريقان في صدد صلح حقيقي وتفاهم دائم.
وأما المادة الرابعة، فلم تكن في حقيقتها الا استثناء متصلاً من الماديات التي اشترطت المعاهدة تسليمها لمعاوية. ومعنى ذلك أن المعاهدة سلمت لمعاوية ما أراد من الملك عدا المبالغ المنوّه عنها في هذه المادة، فاستأثر الحسن بها لنفسه ولاخيه ولشيعته، وكانت من حقوقه التي جعل له اللّه تعالى التصرف فيها. واختار من الخراج الحلال - فيما استثنى - أبعده عن الشبهات من الوجهة الشرعية، وهو خراج دار ابجرد(47).
اقول:
وأين هذا التفسير مما تطاول به بعضهم من التحامل الجريء والافتئات البذيء، على مقام الامام الحسن بن علي عليهما السلام، حين أساء فهم هذه المادة فخلق من هذه الاموال ثمناً للخلافة ومن الحسن بائعاً ومن معاوية مشترياً. وان الاولى بهذا الفهم البليد - الذي هان عليه أن يتصور الثمن والمثمن كليهما من البائع، ثم يدعي مع ذلك وقوع البيع - ان لا يتعرض فيما يكتب للموضوعات التي تكشف لقارئه بلادته، فيسيء الى نفسه قبل أن يسيء الى موضوعه.
وقد مرّ في معنى الخلافة (لذاتها)، وفي قابليات معاوية للخلافة ما يكفينا القول باستحالة هذا الهذر، ولا نعيد.
واما المادة الخامسة، فللفصول القريبة الآتية ما تحمله عنها...
اضف تعليق