عندما يكون الغدير في القلوب الناصعة، وفي العقول الناضجة، والنفوس المطمئنة، نشهد كلمات تجليات هذا الغدير الذي يُعد بحق تحفة سماوية للعالمين، أما اذا كان في أروقة السياسة والسلطة والحكم فانه يسفر عمّا نعيشه اليوم مما اتجنب عدّه من المساوئ والكوارث وكل ما يبعث في النفس على السلبية والكآبة واليأس المطبق...
"أنا لكم وزيرا خير منى لكم أميرا".
أمير المؤمنين، عليه السلام
نعتقد أن هذه الجملة لم تصدر مجاملة أمام الحشود المتدافعة على داره تريد أن يمدّ يده ليبايعوه خليفة وحاكماً عليهم، فهو الإمام المعصوم، والولي بنصّ كلام رسول الله، صلى الله عليه وآله، بأمر إلهي مباشر، إنما قصد الامام بشكل واضح الإمارة السياسية، ولم يخف على القارئ الكريم اسباب هذا الرفض بعد أن كُتب وقيل في المحافل الدينية والثقافية عن تلك الحقبة، وكيف أن الايام القليلة بعد هذه البيعة كشفت خبايا النفوس وأكدت توقعات الإمام، عليه السلام.
حاجة المسلمين في تلك الفترة الى العدل والحرية والمساواة وتحكيم القيم الدينية والاخلاقية، هي نفسها التي يظهرها مسلمو اليوم، و منهم؛ الشيعة اتباع أمير المؤمنين الذين يعتقدون أن علّة كل المآسي والانحرافات والخسائر التي منيت بها الأمة منذ عهد رسول الله الى اليوم، في عدم الالتزام ببيعة الغدير، وإبعاد الإمام عن الحكم، والاعتقاد جزماً بأن "منهج الغدير" هو الامتداد الحقيقي لرسالة النبي ولقيم السماء، بمعنى اختزال كل قيم الخير لحياة الانسان –الشيعي وكل انسان في العالم- في هذا المنهج، وفي ظل حكم أمير المؤمنين، عليه السلام.
ولكن؛ امام هذه الأماني الجميلة ثمة حقائق انسانية لها دورها في تحقيق تلكم الأماني، فعندما نتأوه اليوم من عدم التزام المسلمين بتلك البيعة التاريخية العظيمة، وأمام أنظار النبي الأكرم، علينا الالتفات ايضاً؛ الى بيعة تاريخية اخرى بصبغة سياسية حصلت بعد مقتل عثمان، وجعلت أمير المؤمنين حاكماً سياسياً مع كونه حاكماً دينياً بالاساس بتوصية مباشرة من السماء وبنصّ القرآن الكريم، فلماذا ارتد البعض على اعقابه بعد بيعته الامام خليفة وحاكماً، كما فعل طلحة والزبير، فيما ضاق آخرون بعدل الإمام بعد أن ضاقوا ذرعاً وذاقوا هواناً من جور وظلم عثمان، علماً أن المسلمين سنة 36 للهجرة كانوا أكثر حاجة للعدل والمساواة والحرية مما كانوا عليه في عهد رسول الله، نظراً لما ارتكبه عثمان وبطانته الأموية، وأن وصول الامام على الحكم كان بإجماع المسلمين بما لم يسبقه مثيل في التاريخ، كما يشير العلماء؟
هذا السؤال يدفعنا لسؤال آخر من واقعنا المعاصر؛ لماذا يجب أن نستسهل تحقيق العدل والحرية والمساواة والكرامة الانسانية وكل ما حمله هذا منهج أمير المؤمنين، في وقت نعلم أن مطالبين بها من الأوائل فشلوا في تفهّم المشروع، رغم حاجتهم اليه؟
هل المسألة قائمة على قانون ميكانيكي بفعل يقابله رد فعل؟ بمعنى أن المسلمين آنذاك لو لم يبتلوا بحاكم (خليفة) مثل عثمان بن عفان، ولم يشهدوا استئثار الأمويين بأموالهم، ولم يكتووا بنار الطبقية الاجتماعية التي خلقها عثمان، وكان شخصاً آخر مكانه يسايسهم باللين والمداراة وتهدئة النفوس، هل كانوا يتوجهون الى دار أمير المؤمنين بالشكل المريع الذي وصفه، عليه السلام، في خطبته الشقشقية: "فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الْحَسَنَانِ.وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ"؟
ماذا يريد منّا أمير المؤمنين
عندما نقرأ كلمات الإمام في نهج البلاغة وتوصياته الينا بالتقوى والورع والشعور بالمسؤولية الجماعية، فهو إنما يكشف لنا منهجيته الثابتة منذ أن رافق رسول الله في حياته، مثلاً؛ وصيته الشهيرة: "أعيوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد" التي جاءت في رسالة العتاب الى عثمان بن حنيف، واليّه على البصرة، لم تكن فكرة استحدثها الامام، او افراز لمشاعر معينة، بقدر ما هي تعبير عن منهج متكامل ومنظومة قوانين وقيم تمثل ترجمان للقرآن الكريم ولما جاء به الله –تعالى- الى البشر، وقد بيّن له رسول الله ذات مرة "بأنك تقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل"، بمعنى أن مسيرة الكفاح من اجل الرسالة واحدة، وعلى الأمة أن تقلل العناء والتكاليف في مشروع التطبيق العملي للرسالة في الحياة، وأن لا يشهد أمير المؤمنين حروباً ثلاث يسقط فيها عشرات الآلاف من المسلمين صرعى بسبب أطماع جماعة من المتقمصين للدين والتديّن، ولا أن نشهد اليوم المآسي والويلات رغم احتفائنا بعيد الغدير، وأننا نحظى دون سائر الأمم في العالم بمنهج عظيم لا مثيل له يضمن السعادة والخير والحرية والكرامة و.... الى آخر القائمة.
في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وفي حجة الوداع، جاء الأمر الإلهي المباشر الى النبي الأكرم بأن يعين علي بن أبي طالب خليفة من بعده، وهتف عالياً أمام حوالي مائتي ألف مسلم في تلك الظهيرة التاريخية الخالدة: "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم وال من والاه وعادِ من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله"، فلما أتم الناس بيعتهم لأمير المؤمنين في الخيمة التي ضربها له رسول الله، نزلت الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً}، ويعني بوضوح أن اكتمال دين الانسان المسلم مشروط بولاية أمير المؤمنين، فهذه مرحلة التأسيس التي يجب أن يكون فيها المعيار للحكم؛ الدين وليس المال و السلاح والتحالفات السياسية.
وهذا ما لم يفهمه المسلمون آنذاك نظراً للذهنية الجاهلية المتعمّقة لدى الكثيرين، فالحاكم المطاع هو ذلك المتوفر على شروط السلطة والهيمنة كما كما كان عليه حال أبناء أمية في مكة قبل الإسلام، فقد كانوا يمثلون القوة العسكرية والمالية، كما كانوا يجسدون الغدر، والفتك، والخيانة، والفجور، بينما كان حال أبناء هاشم، الكرم، والشجاعة، والنجدة، والفضيلة، فكانوا في قلوب الناس أجمعين.
وهذا كان جواب الأنصار للصديقة الزهراء عندما طافت بالبيوت تدعو الى ولاية أمير المؤمنين وكفن رسول الله بعدُ لم يجفّ، إذ قالوا لها: "لو جاء ابن عمّك لوقت أقرب كنا بايعناه"! مضمون الرواية التاريخية.
ثم أصبح أمير المؤمنين حاكماً سياسياً وزعيماً للأمة، وفيما كان يسير في طرقات المدينة في احدى ليالي شهر رمضان المبارك إذ سمع أصوات الصلاة في المساجد فعرف أن البعض يصلون الصلوات المستحبة جماعة بما يطلقون عليها "التراويح"، فنهاهم عن البدعة في الدين، ولكن جاء الجواب من نفس أولئك الذين مدّوا ايديهم للبيعة في يوم الغدير، ثم البيعة الثانية، بالرفض الشديد بما يرويه هو، عليه السلام، كما جاء في "الكافي": "وَاللهِ لَقَدْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي فَرِيْضَةٍ وَأَعْلَمْتُهُمْ أَنَّ إجْتِمَاعَهُمْ فِي النَّوَافِلِ بِدْعَةٌ فَتَنَادَى بَعْضُ أَهْلِ عَسْكَرِي مِمَّنْ يُقَاتِلُ مَعِي: يَا أَهْلَ الإِسْلَامِ غُيِّرَتْ سُنَّةُ عُمَرْ يَنْهَانَا عَنِ الصَّلَاةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعَاً وَلَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَثُوْرُوا فِي نَاحِيَةٍ جَانِبَ عَسْكَرِي... مَا لَقِيْتُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الفُرْقَةِ وَطَاعَةِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ". [الكافي 8 : 63].
التضحية من أجل الغدير لا القتال من أجل الحكم
قبل أن تسجل ادبياتنا الشيعية هذه الجملة الرائعة؛ "انتصار الدم على السيف" استلهاماً من نهضة الامام الحسين وواقعة الطف، أرى أن نعود الى حركات إصلاحية مصغّرة انطلق بها اتباع أمير المؤمنين في أوساط الأمة قبل واقعة كربلاء، حملت نفس النسمات الإصلاحية لكن بشكل محدود، كما فعل الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري في عهد عثمان، والتابعي الجليل حجر بن عدي الكندي في عهد معاوية، مع التأكيد على أن النهضة الإصلاحية الأولى في تاريخ الاسلام كانت على يد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء في تصديها الشجاع والبطولي للانحراف الذي طرأ في الأمة بعد ساعات من وفاة النبي الأكرم، فقد أماطت اللثام، وكشفت الزيف، وحمّلت الأمة مسؤولية ما يحصل بسكوتهم على ذلك الانحراف.
إن مشروع الإصلاح الذي ضحى من أجله الامام الحسين مع أهل بيته، أسس قاعدة مضمخة بالدماء لنشر الوعي والثقافة المستمدة هويتها من رسالة السماء، ثم نهضت العقيلة زينب مع الامام السجاد، عليهما السلام، للبناء الثقافي على هذه القاعدة، ولتستمر المسيرة بخطوات ثابتة مع حياة الأئمة المعصومين، عليهم السلام، لنشر الوعي بين افراد الامة حتى يعرفوا كيف يؤمنوا؟ وكيف يلتزموا بهذا الايمان؟ وما هي الحقوق والواجبات المترتبة ضمن هذه العلاقة.
بهذا المستوى من التفكير حوّل الشيعة واتباع أمير المؤمنين دمائهم الى مدارس تقدم للأمة دروس الإيمان والتحدي والاستقامة، كما تعلّم طريقة مواجهة الظلم والانحراف كما علّمهم الأئمة الاطهار.
واستمرت المسيرة بعد غياب الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، وظهور علماء أبطال وأفذاذ في العلم والمعرفة والتضحية ايضاً في سبيل المبادئ والقيم، وممن قالوا كلمة الحق أمام سلطان جائر.
هذه الدماء التي أريقت في ثورات، او احتجاجات، او في اقبية السجون، هي التي أرعبت الحكام رغم كونهم يحكمون الغالبية العظمى من المسلمين المسالمين لهم، فيما أتباع أمير المؤمنين ممن يٌسمون "الرافضة" أقلية على طول المسيرة إلا من بعض الفترات الزمنية، وهي التي خلقت عامل القوة والمنعة المحيّرة للعقول، فكيف تصمد طائفة دينية أمام حملات إبادة جماعية على مر التاريخ، وأعمال تنكيل واضطهاد ومختلف اشكال الضغوط والتشويه والتحريف، وما تزال شامخة أمام العالم بين عشرات الطوائف الدينية، وهو ما لفت أنتباه ابناء الطوائف غير الاسلامية ايضاً، فحدا بالمفكرين وفلاسفة الغرب لأن يفسروا جانباً من سرّ هذه القوة في تحديدهم للشعائر الحسينية والحوزة العلمية، ويبدو أن هذا التشخيص كان في محلّه، عندما شهدنا تجسيداً لجانب من المنهج الغديري في الاستجابة الجماهيرية المذهلة لفتوى الجهاد الكفائي في العراق لمواجهة المد التكفيري والارهابي، وتحقيق نصر مؤزر على عناصر مدربة ومدعومة بالمال والسلاح وحتى الإعلام من اطراف اقليمية ودولية، بفضل التقاء الروح الحسينية (التضحية) بالمسؤولية العلمائية (الدين).
التمكين الشيعي ثقافياً
في مثل هذه الايام المباركة، وبمناسبة الذكرى البهيجة التي يجب ان تكون في قلوبنا طوال ايام حياتنا، أرى لازماً علينا النظر فيما أراده أمير المؤمنين من ابناء الامة ليكونوا حقّاً في طريق الغدير، وما هي عناصر "التمكين الشيعي" في خطاب أمير المؤمنين من الساعات الأولى لبيعة الغدير وحتى آخر لحظة من حياته الشريفة، الأمر الأول: الايمان المطلق بالله –تعالى- والالتزام بأحكامه وبما أنزله في كتابه المجيد، ثم الالتزام بسيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وما أوصى به حتى "لا تضلوا من بعدي أبدا".
وهذا هو سرّ قوة الشيعة، وسر قوة أتباع أمير المؤمنين ممن نرجو ان يسود منهج الغدير العالم كله، فهل يكون هذا بقرار حكومي، او قانون يصوّت عليه برلمان، او حتى بدعوة من زعيم ملهم، او ثائر مُحرر؟ أم القضية بالتمنيات والآمال؟!
نعم؛ المطلوب تحقيق عناصر القوة في الاقتصاد والتجارة أولاً، ومعالجة ظواهر مثل البطالة والفقر، ثم عناصر القوة في الثقافة، ومنها؛ الأمية والجهل والتبعية الفكرية، وتأصيل الافكار، وايجاد تطبيقات عملية لكل ما لدينا من مناهج وأنظمة وقوانين غديرية، ثم يأتي الحكم ونظرياته ليستقر على قاعدة رصينة من الولاء والالتزام ومستوى مطلوب من الفهم والاستيعاب لكل ما يتعلق بمنهج الغدير.
عندما يكون الغدير في القلوب الناصعة، وفي العقول الناضجة، والنفوس المطمئنة، نشهد كلمات تجليات هذا الغدير الذي يُعد بحق تحفة سماوية للعالمين، أما اذا كان في أروقة السياسة والسلطة والحكم فانه يسفر عمّا نعيشه اليوم مما اتجنب عدّه من المساوئ والكوارث وكل ما يبعث في النفس على السلبية والكآبة واليأس المطبق، وطالما أكرر في كتاباتي على عدم الامعان في الواقع السلبي والتنظير له والخوض فيه مع وجود البدائل العظيمة ومنها؛ هذا الغدير العظيم، فارجو ان نصل يوماً الى ضفاف هذا الغدير.
اضف تعليق