لم يعرف العلم الحديث حالة التخصص إلا في وقت متأخر ونظراً لحاجة الانسان وما يواجهه من مخاطر وتحديات في الحياة من أمراض وكوارث، الى جانب حاجته المتواصلة لتسخير الطبيعة والثروات والمعادن لتوفير قدر أكبر من الراحة والرفاهية. وهذا ما حصل في الغرب في القرون الاخيرة، فقد تطور علم الكيمياء كما الطب والرياضيات وغيرها، على ما كان موجوداً في العهود الماضية، بيد أن الملاحظ من حياة الإمام الصادق، عليه السلام، الذي عاش في القرن الثاني الهجري، والموافق للقرن الثامن الميلادي، مبادرته الحضارية في تلك الفترة لرعاية العلماء المتخصصين في شتى العلوم الدينية منها والطبيعية.
بدايةً؛ يجدر بنا الاشارة الى مسألة محورية؛ وهي ان مجتمع الحضارة الاسلامية، واجه تحدياً ثقافياً وفكرياً في عهد الامام الصادق، عليه السلام، حيث ازداد احتكاك المسلمين بالمجتمعات والثقافات الاخرى، بفعل الفتوحات في الشرق باتجاه بلاد فارس والهند وما تحمله من ثقافة وحضارة، وباتجاه الشمال، حيث بلاد الروم وبقايا الحضارة اليونانية. فدخلت الكتب ونشطت حركة الترجمة، وبدأ المسلمون يتعرفون لأول مرة على افكار غريبة تثير مسائل عديدة تقف في المقدمة؛ المسائل العقائدية، فابتليت الأمة آنذاك فآفة "الإلحاد" والتشكيك، ومردّ هذا الى المستوى الضعيف لعامة المجتمع الاسلامي في جانب الثقافة والفكر الاسلامي، وعدم استيعابهم الكامل لفلسفة الاسلام ونظامه المتكامل في الحياة. من هنا جاء الدور الحضاري للإمام الصادق، عليه السلام، لأن يجسّد علوم جدّه رسول الله، صلى الله عليه وآله، ويقف بقوة أمام كل المحاولات الرامية لاختراق الامة وضربها من الداخل. فكانت أولى خطواته توزيع تلامذته المقربين على اختصاصات علمية متعددة للإجابة على الكم الهائل من الاسئلة والاستفهامات، بل وتقديم الحلول والبدائل لما يعانيه المجتمع الاسلامي آنذاك، فكان هنالك التخصص في العقائد، وفي اللغة العربية، وفي الفلسفة (علم الكلام)، وفي الكيمياء، والطب وغيرها من العلوم التي كانت تدرس في جامعة الامام الصادق، عليه السلام، في المدينة المنورة.
العالم المتخصص، طوق نجاة
منذ تلك الفترة والإمام الصادق، عليه السلام، يعد تلامذته ليكونوا علماء متخصصين في كل شأن يحتاجه الانسان، لئلا يبقى الانسان المسلم في وطنه نهباً للتفسيرات والآراء المستوردة والغريبة على ثقافته وهويته وتراثه الكبير.
جاء رجل من أهل الشام الى المدينة المنورة، وقصد الإمام، عليه السلام، وكان جالساً مع جماعة من اصحابه، وكان يتوقع أن يناظر الإمام في جملة من الأسئلة حول مسائل عديدة، فبدأ بالقرآن الكريم، وأحكام التلاوة، فأحاله الى حمران بن أعين، وقال له: إن غلبته، فقد غلبتني، فكانت الغلبة لحمران، ثم توجه نحو اللغة العربية، فأحاله الى أبان بن تغلب، ثم انتقل الى الفقه، فأشار الى زرارة بن أعين، ثم طلب المناظرة في "الكلام" فأشار الى مؤمن الطاق، وهكذا؛ كلما أراد ان يناظر الإمام في حقل معين من العلوم، أحاله الى أحد اصحابه الجالسين، فما كان من الشامي، أن طلب منه، عليه السلام، أن يجعله من شيعته، وهنا الالتفاتة الرائعة في ختام هذه الجلسة، بأن طلب من هشام بن الحكم، بأن "علمه، فإني أحب ان يكون تلميذاً لك".
هذه الاخلاق العالية والطريقة الحكيمة في التعامل مع أهل العلم، هي التي جعلت الآلاف من طلبة العلم آنذاك يتسورون حول الإمام، وقد قطعوا المسافات البعيدة للوصول الى منبع العلم الحقيقي.
وممن وثّق المسيرة التعليمية للإمام الصادق، عليه السلام، الشيخ الطوسي في رجاله، حيث قال: "ان 3211 رجلاً، و13 امرأة، نالوا من المنهل العلمي للإمام، عليه السلام. وعن الحسن بن علي، من اصحاب الامام الرضا، عليه السلام، "أدركت في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ كلٌ يقول: حدثني جعفر بن محمد". وهنالك إجماع من المؤرخين والعلماء على أن حوالي أربعة آلاف اسم راوي ينقلون عن الإمام، عليه السلام، وهؤلاء من الثقاة فقط، بينما يبلغ عدد تلاميذ الإمام حوالي عشرين ألف تلميذ.
ماذا يعني هذا الرقم الهائل والكبير؟
ليس فقط يعكس مدى تعلّق المسلمين بهذا المنبع الغزير واعتمادهم الكلّي عليه، إنما يؤكد الإدارة المتفوقة للإمام لكل هذا العدد الهائل من التلاميذ، لنتصور جامعة، او حوزة علمية تضم – مثلاً- ألف طالب؟، كيف يكون الوضع فيها؟ فما بالنا بـ (20) ألف تلميذ وطالب وعالم كانوا يتقاطرون على الإمام للحصول على بغيتهم من مختلف العلوم والمعارف.
انه سعة الصدر والحلم وتفضيل مصلحة الأمة ومكانة الاسلام في العالم على كل شيء.
ينقل محمد بن مسلم، وهو من كبار الفقهاء: "ما شجر في قلبي شيء إلا وسألتُ عنه جعفر بن محمد الصادق، حتى سألته عن ستة عشر ألف مسألة". فيما يُنقل عن زرارة بن أعين: "كنت أسأل الإمام الصادق أربعين عاماً عن مسائل الحج، فقلت له يوماً: ألا تنتهي مسائل الحج وأنا أسأل عنها منذ أربعين عاماً؟، فقال الإمام، صلوات الله عليه: بيتٌ يُحَجُّ إليه قبل آدم بألفي عام فهل تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً"؟.
إعادة الحياة الى تراث الإمام
إن الارقام الكبيرة وضخامة الحاضرة العلمية للإمام الصادق، عليه السلام، في تلك الفترة المتقدمة من تاريخنا الاسلامي، تحملنا مسؤولية حضارية في مجال التعليم، بأن نستفيد من التجربة الثرية وتبادر الحوزات العلمية الى التخصص في العلوم الدينية والانسانية وحتى الطبيعية منها، مثل القانون والاقتصاد والاجتماع الى جانب الفلك، فما المانع من وجود فقيه في الاجتماع او السياسة او الاقتصاد الى جانب فقيه في الأحكام الشرعية؟
وربما يتذرع البعض بعدم وجود المصادر الكافية لاستخراج الاحكام اللازمة في تلكم العلوم، كما لو أن الامام الصادق، عليه السلام، وسائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، تحدثوا فقط وفقط عن الاحكام العبادية والزواج وبعض الامور التجارية والمعاملات. ولم يتحدثوا عن القانون والحقوق، وعن السياسة وعن الاقتصاد وحتى العلوم الطبيعية.
صحيح إن آلاف الاحاديث خسرتها الأمة بين نيران الحروب والاضطرابات السياسية، فأحرقت الكتب، وسجن الرواة الثقاة وماتوا وفي صدورهم آلاف الاحاديث عن مختلف العلوم الباهرة والخارقة، بيد أن الصحيح ايضاً، أن هنالك فرصة كبيرة أمام المعنيين بالأمر لأن يحيوا هذا التراث ويكرروا التجربة الناجحة. يقول سماحة الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- أن الخطيب المرحوم السيد محمد كاظم القزويني، ألّف موسوعة في حياة الإمام الصادق، وقد طُبع منها (15) مجلداً حتى الآن، وقد ضمّت هذه الموسوعة حوالي عشرة آلاف رواية منقولة عن الإمام الصادق، عليه السلام، وقد "اعتمد المرحوم على أحد أعظم الرواة وأجلهم وهو جابر بن عبد الله الجعفي ، وهو مذكور في "الكشّي" – من أمهات الكتب المختصة بعلم الرجال- حيث يقول في كتابه: انه روى لوحده عن الإمام الصادق تسعين ألف رواية، فكم مجلداً يضم كل هذه الروايات؟ ربما يصل الرقم الى حوالي (135) مجلداً من راوٍ واحد، وهذه تُعد بحقٍّ ثروةً عظيمة".
وفي ذكرى استشهاد الامام الصادق، عليه السلام، يثور السؤال الكبير؛ أين معالم مدرسة (جامعة) الامام الصادق، عليه السلام، هذه المدرسة التي أقرّ علماء الغرب في العصر الحديث، بفضلها على مسيرة الاكتشافات العلمية التي ينعم من خلالها الانسان في حياته اليوم؟ إن شخصاً مثل جابر ابن حيان، وهو تلميذ الامام الصادق، عليه السلام، ويفترض ان يكون أحد ابرز "علماء الدين"، بيد أن التاريخ يعده أحد ابرز علماء الكيمياء والرياضيات الذين عرفتهم البشرية. وهكذا التلاميذ الآخرين من خريجي مدرسة الإمام، عليه السلام، من الذين كانوا علماء في الفلسفة واللغة والقرآن الكريم. فهم اضافة الى استيعابهم الكامل للعلوم الدينية وتبصّرهم العميق بالأحكام الشرعية، كانوا يبدعون ويبرعون في علوم اخرى طالما يحتاجها انسان اليوم لحل عديد أزماته ومشاكله.
اضف تعليق