كانت مدركة لما تحمله من خصال وصفات نبيلة عملت على تنميتها في نفسها، ولم تفرط بها ابداً في فترة طفولتها ومراهقتها وشبابها حتى وقع الاختيار عليها كزوجة لأمير المؤمنين، ثم لتكون ممن تنطبق عليها المعادلة الإلهية؛ من كان مع الله كان الله معه...
أم لأربعة شباب تستقبل نبأ مقتلهم مرة واحدة مع شاب آخر، هل تسأل عن أولادها أولاً، أم تغضّ الطرف عنهم وتسأل عن كيفية مقتل ذلك الشاب؟
معروفة علاقة الأم بولدها، وكم هي حميمية، بل و عضوية، حتى أن علماء النفس تنبهوا الى هذه العلاقة وسلطوا عليها الضوء في طريق البحث والتحليل في دوافع سلوك الطفل، لاسيما المولود الذكر، وحتى في الموروث الاجتماعي شاعت مقولة أن نقطة ضعف الرجل المرأة، ونقطة ضعف المرأة الطفل، فاذا تعلقت الأم بولدها وفضلته على أي شيء آخر في حياتها، او استماتت في الدفاع عنه أمام أي مشكلة داخل البيت او خارجه، لن تكون ملامة، فهي انما تعكس الحالة الغريزية بكامل مواصفاتها، حتى وإن صادفت مفترق طرق بين الحق والباطل، فانها –في معظم الاحيان- تندفع بغريزتها للوقوف الى جانب ابنها، إلا اللهم بعض الاستثناءات من النسوة من ذوات الوعي والثقافة تغلّب بهما الحق على الباطل.
ولكن! توقف الزمن لحظة واحدة امام ظاهرة غريبة واستثنائية في المدينة المنورة عام 61للهجرة، وفيما كانت أسرة الامام الحسين، عليه السلام، عائدة من رحلة السبي، وما جرى في كربلاء، يتقدمهم الامام السجاد مع عمته العقيلة زينب، وسائر النساء والاطفال، فخرجت أم البنين، مع سائر الناس لدى سماعهم نعي الامام الحسين وأهل بيته وأصحابه، وكان لأم البنين أربعة أولاد بين شهداء الطف، في مقدمتهم أبي الفضل العباس، وبدلاً من أن تسأل عن أولادها، لاسيما العباس، بادرت الناعي بشكل عفوي بالسؤال: "اخبرني عن الحسين، أ هو حيٌ أم لا"؟! وأي امرأة مؤمنة وموالية لأهل البيت في مكان أم البنين، لابد أن تسأل عن ابنائها، ولو بعد حين، بينما هذه المرأة النموذجية والاستثنائية تناست ذكر العباس وجعفر وعثمان وعبدالله، و ألحّت بالبحث عن مصير الامام الحسين، ولسان حالها أن يعود الإمام الحسين سالماً وإن كلف ذلك استشهاد جميع ابنائها.
عوامل عديدة توصل البها الباحثون وكل من قرأ سيرة حياة أم البنين، جعلتها تتخذ هذا الموقف التاريخي الخالد، منها؛ الايمان العميق بالله وبرسالة النبي محمد، و بولاية أمير المؤمنين، والمعرفة اليقينية بمنزلة أهل البيت عند الله، والعامل الآخر؛ حسن التربية والتأديب على حسن التبعّل واحترام الآخرين، الى جانب العامل الوراثي في وجود خصال النُبل، والعزّ، والإباء، والكرامة، مع عوامل اخرى ربما يكتشفها الباحث بين صفحات التاريخ.
كل هذه الصفات والخصال وغيرها لها دورها المؤثر في صياغة شخصية أم البنين لتصل الى هذه المرتبة العظيمة بين نساء المسلمين، بيد أن هناك خصلة واحدة تميزت بها هذه السيدة بين اقرانها في المجتمع العربي، وبين جميع نساء العالم الى يوم القيامة، وهي؛ العطاء بلاء حدود لله، ولأهل البيت، عليهم السلام.
فاطمة بن حزام الكلابية، كانت فتاة من بين العشرات من الفتيات العربيات في الحجاز، وربما كان بينهنّ من يتصفن بالشرف والعفّة والنبل، ومن أصول منيفة، إنما الفارق والمائز في التضحية و نكران الذات، وهو ما لا عهد للفتيات والنساء به، والى اليوم –إلا بعض الاستثناءات- وقد كان تميز أم البنين ليس في التضحية بالمال والجاه في مشاريع البر، وإنما فيما يخصّ كيان وشخصية المرأة كأنثى، فكانت البداية من ليلة الزفاف عندما طلبت من أمير المؤمنين أن يختار لها اسماً مستعاراً بدلاً من اسمها الحقيقي حتى لا تثير شجون الحسنين وزينب وأم كلثوم، وبعد أن رزقت بأول نجم لامع في سماء بني هاشم؛ أبي الفضل العباس، بدأت مرحلة جديدة من نكران الذات، فكانت توصي وتذكّر ابنها العباس بأنه لا يتعامل مع أخوين غير اشقاء، وإنما مع إمامين مفترضي الطاعة، لذا لم يخاطب العباس الامام الحسين، طيلة حياته بغير لفظ "سيدي ومولاي"، وليس "أخي"، حتى لحظة استشهاده الأليمة، فكانت لفظة "أخي" عزيزة على نفس الامام الحسين أن يسمعها من أخيه العباس وهو في الرمق الاخير على مقربة من نهر الفرات.
هذا التفاني في الحب والولاء لأهل البيت، هو الذي زرع بذرة الوفاء والإباء في نفس العباس وإخوته ليكونوا في طليعة أنصار الامام الحسين، ويكون العباس ساعده الأيمن، ويكون الدرع الواقي للعقيلة زينب، ومصدر اطمئنان لجميع النسوة وأهل بيت الامام الحسين يوم عاشوراء.
طيلة فترة حياتها في بيت أمير المؤمنين، والى آخر يوم من حياتها لم تطلب أم البنين شيئاً لنفسها شأن أي امرأة متزوجة او أرملة او صاحبة أولاد، وهي امرأة عادية عندما كانت فتاة صغيرة لم تتوقع مطلقاً أن تكون يوماً زوجة لشخص مثل أمير المؤمنين، عليه السلام، ولكن كانت مدركة لما تحمله من خصال وصفات نبيلة عملت على تنميتها في نفسها، و لم تفرط بها ابداً في فترة طفولتها ومراهقتها وشبابها حتى وقع الاختيار عليها كزوجة لأمير المؤمنين، ثم لتكون ممن تنطبق عليها المعادلة الإلهية؛ "من كان مع الله كان الله معه"، و بمقدار عطاء الانسان لربه يكون العطاء الإلهي له، ولعل أم البنين فهمت هذه المعادلة مبكراً من خلال مواقف وسيرة الامام الحسين في السنين الاخيرة من حياته في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية آنذاك، فكما أنه، عليه السلام، "أعطى ما ملكت يداه إلهه"، فأعطاه الله –تعالى- من الخصائص ما لم يعط لأحد، فان أم البنين ايضاً أعطت كل شيء لله، فأعطاه الله ما لم يعط لأي امرأة من المسلمين، ما عدا الصديقة الزهراء، فكانت الوجاهة والمنزلة بدرجة أن يتوسل اليها الملايين على مر الأجيال لقضاء الحوائج المستعصية، ويجدون في اسمها الكريم باباً للفرج والخلاص.
اضف تعليق