الرسول الأعظم وعترته الطاهرة هم المَثل الأعلى للعظماء في التاريخ باعتراف الشرق والغرب. إذن لماذا هذا التقصير منا نحن المسلمين وما هذا الموقف السلبي منا إزاء أيام كهذه، فهل في حياتنا أيام أهم منها؟ إن يوماً كيوم ولادة منقذ البشرية لهو أحقّ أن يكون أهم يوم...
مقدمة
في هذا العصر المضطرب، والظروف العصيبة التي تمر بالعالم، والمشكلات الكبيرة التي تعيشها الأمة الإسلامية، والمعاناة السياسية والاجتماعية التي نُقاسيها بمضض، وفوق ذلك كله الأزمات الروحية والأخلاقية التي يئن من وطأتها العالم أجمع، وذلك نتيجة التصرفات الهوجاء من أهل السياسة الاستكبارية من طغاة العالم الرقمي، الذين يتحكمون في العالم ويسوسونه بالحرب لا بالحب، وبالدمار لا بالعمار، فأدخلوا العالم في أتون لا مخرج منه، وفي حروب لا نهاية لها، وفي أمراض نفسية وروحية وشقاء عالمي لا شفاء منه إلا بالعودة إلى الصلاح والإصلاح التي جاءت به رسالات السماء..
يقول الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره): "والحاجة الماسة إلى نشر وبيان مفاهيم الإسلام ومبادئه الإنسانية العميقة التي تلازم الإنسان في كل شؤونه وجزئيات حياته وتتدخل مباشرة في حل جميع أزماته ومشكلاته في الحرية والأمن والسلام وفي كل جوانب الحياة..
فالتعطش الشديد إلى إعادة الروح الإسلامية الأصيلة إلى الحياة، وبلورة الثقافة الدينية الحيّة، وبث الوعي الفكري والسياسي في أبناء الإسلام كي يتمكنوا من رسم خريطة المستقبل المشرق بأهداب الجفون وذرف العيون ومسلات الأنامل".
وهي حاجة ملحَّة على الإنسانية جمعاء إلا بعض أولئك الذين أعماهم المال وأطغاهم الرقم في حضارته، فتحوَّل من إنسان له أحاسيس ومبادئ وقيم وأخلاق وفضائل، إلى روبوت إلكتروني فاقداً لكل قيمة وفضيلة، ولكل شعور وإحساس وبما يتصف به الناس، فهؤلاء النوادر لا حديث لنا معهم لأنه صم، عمي، بكم، فهم لا يفهمون، ولا يدركون، ولا يعقلون، ولا يشعرون، وأما السواد الأعظم من البشر فهم يشعرون بالعطش الروحي، والنفسي للمعرفة، وللإستقرار الذي فقدوه نتيجة ما يرونه من طغيان للمادة على الروح، والاهتمام بالجسد عدا النفس، والجري خلف الغرائز والحاجات الحيوانية البهيمية وإهمال حاجات الروح وراحتها، والنفس وتزكيتها، حتى كادوا أن ينسوا ذلك كله في زحمة الحياة المادية المعاصرة.
تقصير بعض المسلمين
فما هو واجبنا نحن المسلمين في مثل هذه الظروف الاستثنائية في بلداننا، وأهلنا، ثم تجاه العالم أجمع والإنسانية قاطبة؟ يقول الإمام الشيرازي (رحمه الله): "في مثل أيام مواليد العظماء يجب أن يقف الجميع وقفة إجلال وإكبار لهذه المناسبات ولأصحابها؛ لأن ذلك يعكس شيئاً مهماً جداً وهو قوة تمسّك وارتباط أجيالنا الحالية بعظمائهم كما يُدلل على العلاقة الوثيقة بين الناس وبينهم.
فالرسول الأعظم (ص) وعترته الطاهرة (ع) هم المَثل الأعلى للعظماء في التاريخ باعتراف الشرق والغرب.. إذن لماذا هذا التقصير منا ـ نحن المسلمين ـ وما هذا الموقف السلبي منا إزاء أيام كهذه، فهل في حياتنا أيام أهم منها؟!
والحقيقة إن يوماً كيوم ولادة منقذ البشرية (ص) وعترته الأطهار(ع) لهو أحقّ أن يكون أهم يوم في حياة البشرية ككل.. وللمسلمين على وجه الخصوص، فهل يفعل المسلمون جزءاً مما يفعله المسيحيون في ولادة المسيح (ع)؟!
وهل عاتب المسلمون أنفسهم على ذلك؟ وهل تنبَّه أحدهم إلى رأس السنة الميلادية وما يجري من استعدادات خلال مدة الأربعين يوماً التي تسبق ذكرى رأس السنة الميلادية لإحياء ذكرى مولد المسيح (ع)؟، فالمسيحيون يوقفون جميع مشاريعهم لما بعد الميلاد ويُعطلون الأسواق والمدارس، وتُغلق أبواب الشركات والمؤسسات العامة اللهم إلا بعض ما كان خدمياً منها.
أي أن مرافق الحياة العامة شبه متوقفة لمدة أربعين يوماً إحياء لهذه الذكرى.. التي يعتبرها المسيحيون عيداً عالمياً.. وندخل ـ نحن المسلمين ـ ضمن المحتفلين في هذا (العيد) من حيث ندري أو لا ندري، ونترك عيدنا الكبير يمر وكأنه يوم كبقية الأيام الأخرى من السنة بل البعض من المسلمين وللأسف الشديد لا يُعطلون حتى يوماً واحداً احتراماً لميلاد نبيّنا العظيم(ص)". (المولد النبوي؛ السيد محمد الشيرازي: ص7)
فهل يُعقل أن نفعل ذلك ونحتفل بمولد السيد المسيح (ع)، ولا نهتمُّ بمولد النبي العظم (ص) الذي لو كان السيد المسيح موجوداً لاحتفل فيه بمولده هو، وذلك لأنه يعرف عظمة وقدر ومكانة الرسول الأعظم (ع) فهو نصير تابع لحفيده الإمام المهدي في آخر الزمان كما هو معروف وواضح، من التاريخ الإسلامي والروايات الواردة في الباب والتي تُؤكد نُصرة السيد المسيح (ع) والصلاة وراء الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجهما وسهَّل مخرجها وظهورهما ليملآ الأرض قسطاً وعدلاً، وصلاحاً وإصلاحاً.
معنى الاحتفال
فالاحتفال أمر مرغوب ومطلوب ومحبوب أيضاً، ولكن ما معنى الاحتفال، وكيف يمكن أن نفهم الاحتفال في أدبياتنا نحن، وتشريعاتنا، وأخلاقياتنا في هذه الأمة المباركة المرحومة، يقول الإمام الشيرازي مجيباً على ذلك: "ومما تجدر الإشارة إليه هو أن الاحتفال لا يعني توزيع الحلوى والمرطبات ونصب المصابيح والنشرات والأشرطة الملونة وغيرها من أدوات الزينة في الشوارع في أسبوع الاحتفال الذي يصادف من (12/17 ربيع الأول) فحسب، بل يجب أن يتعداه إلى أن يشمل توزيع الكتب والنشرات الثقافية الإسلامية بين الطلاب والمثقفين، بل كل من يحسن القراءة والكتابة، مضافاً إلى تقديم بعض الأعمال الخدماتية للناس، وتكثيف الأعمال الخيرية للجميع، وإقامة المؤتمرات والندوات والمهرجانات في هذه الأيام المباركة.
فالبلدان المسيحية مثلاً، في حركة دائبة وعمل مستمر نحو بناء أكبر عدد ممكن من الكنائس فيها وبعضها تفتتح آلاف الكنائس في هذه المناسبة، بالإضافة إلى بعض المستشفيات ومراكز الأمومة والطفولة ومعاهد الصم والبكم، ودور الحضانة وملاجئ الأيتام ودور رعاية المسنين ومراكز رعاية ذوي العاهات المستديمة، وإقامة حفلات الزواج الجماعية لتشجيع الزواج، ومختلف الأعمال الخيرية.
ألا يجدر بنا نحن المسلمين أن نقوم بأكثر من هذه الأعمال في مولد نبينا الأكرم (ص) وهو سيد الكائنات، ونبني المساجد والحسينيات وننشئ المكتبات والمؤسسات الخيرية بكافة أنواعها، وكل ما يخدم الناس تكريماً لهذه الذكرى العظيمة؟ لما لهذه الأعمال من أثر فاعل في النفس البشرية ونشر الوعي الإيماني بين صفوف المسلمين وزرع روح المحبة والتعاون بينهم وفوق كل هذا رضى الخالق جل وعلا.
من هنا نعرف أن التمسك ـ بعظماء الإسلام ـ لا يعني أداء بعض المراسم في مواليدهم فقط، بل نشر فضائلهم وتعاليمهم واتباع سيرتهم وتوعية الناس الآخرين على ضرورة اتباعها.. وقد قال الإمام الرضا (ع): (رحم الله عبداً أحيا أمرنا)، فقيل له: وكيف يحيى أمركم؟ قال (ع): (يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)، وهذا هو بعض المغزى من الاحتفال في هذا اليوم المبارك". (المولد النبوي؛ السيد محمد الشيرازي: ص8)
هكذا يتحوَّل المولد النبوي الشريف إلى موسم تبليغ إسلامي عالمي بحيث نُخاطب العالم أجمع وندعوهم إلى الإسلام بتعريفنا بمكان ومكانة، ومقام وأخلاق شخصية رسول الله (ص) فهذا يكون له أعظم الأثر في الأمة الإسلامية، والأمة الإنسانية في العالم أجمع، وذلك لأن العالم جافٌ جداً وعطشان ظامئ، ويحتاج إلى ماء الحياة، وتلك هي كلمات وأخلاقيات رسول الله (ص).
العظمة في رسول الله (ص)
هنا السِّر الذي خفي على الكثير من أهل الإسلام، عدا عن غيرهم من الأمم والشعوب في شخصية محمد بن عبد الله رسول الله الخاتم (ص)، تلك هي كلمة السِّر التي لم يكتشفها إلا الحاذقون في المعرفة، والسَّامون في الفضيلة، والرَّاقون في القيم، ألا وهي (الخُلق العظيم)، ولذا جاءت وصفاً من الله الخالق له حيث قال ربنا سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)
فالأخلاق الفاضلة هي تلك الجوهرة المخزونة المكنونة في تلك الشخصية الربانية، وذلك لأنها مفتاح القلوب، وإذا انفتحت القلوب بالمحبة، والمعرفة، شعَّ ذلك كله علماً وعملاً يتصف بكل معاني ومباني الفضائل والقيم، ويتحقق في الإنسان إنسانيته ويتبلور فيه جوهره الذي يُأهله لتلقي التكليف الرباني، والخطاب الإلهي، الذي جاء على لسان الحبيب المصطفى (ص)، قولاً وعملاً وبذلك كله جاء القرآن الحكيم لهذا الإنسان الغارق في الهموم والغموم، وظلمات الجهل والتخلف.
فالقرآن هذا الكتاب السماوي الذي جمع الله فيه كل الكتب، والصُحف المنزلة على كل الأنبياء والرسل، فجاء منظومة مكتملة من القيم والفضائل التي يجب أن يتصف فيها البشر، ولذا عندما سأل المسلمون إحدى زوجات الرسول الأعظم (ص) عن أخلاقه قالت: (كان خُلُقُه القرآن)، فما أعظمها من كلمة، وما أجلَّها من عبارة، وما أجملها من صفة، حيث جعلت القرآن الحكيم، بكل ما فيه من قيم أخلاقاً للرسول الأعظم (ص).
فصار القرآن رسول صامت، والرسول قرآن ناطق بالقيم والفضائل، قولاً وعملاً، فتحوَّل القرآن الحكيم مع رسول الله (ص) إلى برنامج عمل يومي، تراه منه الأمة الإسلامية، وتعيشها في كل نواحي حياتها ليكون البرنامج الإلهي حاضراً، نصَّاً في القرآن الحكيم، وعملاً وترجمة في الرسول العظيم (ص) ولذا أمرنا ربنا سبحانه بقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)
المولد النبوي الشريف
فعندما نحتفل في هذا العصر الظالم المظلم بالمولد النبوي الشريف، وفي هذه الظروف الاستثنائية التي تعيشها الأمة من هذه الهجمة الشرسة على مقدساتها لا سيما رسول الله (ص) والقرآن الحكيم، من قبل دعاة الحضارة الرقمية والتحرر من كل قيمة وفضيلة، فلا يجرؤ أحدهم على إهانة كلبه أو قطته لأنه ستقوم عليه زوجته وابنته، ومنظمات حقوق الحيوان عندهم، وأما أن يوجِّه الإهانة لأقدس مخلوق في الوجود فيستغرب لماذا تقوم أمته وهي ربع سكان العالم في وجهه القبيح، ويُناشدهم بعدم المقاطعة، أو اتخاذ أي إجراءات رادعة له ولأمثاله من المعتوهين.
فعلينا جميعاً أن نستغلَّ هذه المناسبة العطرة، لنشر أكبر عدد ممكن من المقالات، والأبحاث، والدراسات، وحتى الصور، والمقاطع، والأفلام لتعريف هذا العالَم الجاهل، بل الغارق في جاهليته برسول الله (ص) وأخلاقياته، وقيمه، وكلماته، وأحاديثه الشريفة، ونملأ الدنيا فيها وكل في مكانه ومن موقعه على كل وسائل التواصل الاجتماعي التي هي بين أيدينا جميعاً صغاراً وكباراً علماء وكسبة، فالعالَم اليوم أحوج ما يكون لتلك الكلمات والأحاديث النبوية الشريفة.
ففي حديث الشريف، قال (ص): (بلِّغوا عني ولو آيَةً) (الاستذكار ابن عبد البر: 4/420)
وفي حديث آخر قال (ص): (نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سمعَ مَقَالَتِي فَحفظَها ووَعَاها، ثُمَّ ذهبَ بِها إلى مَنْ لمْ يَسْمَعْها، فَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ ليس بِفَقِيهٍ، ورُبَّ حامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أَفْقَهُ مِنْهُ). (صحيح الترغيب: 91، ابن ماجه (236)، وأحمد (13350) الحديث صحيح)
فكلنا مكلفون بالتبليغ لدين الله ولرسول الله (ص) بأمر من رسول الله في الكثير من الروايات لا سيما في يوم الغدير الأغر، حيث كان يقول لهم: (لبلغ الشاهد منكم الغائب)، وفي هذا العصر والتنوع الكبير والتوفر لوسائل التواصل الاجتماعي علينا أن نُغرقها بأحاديث الرسول العظم (ص) وأهل البيت (ع) كل بأسلوبه وطريقته، فإننا نقوم بواجبنا تجاه ديننا ورسولنا الكريم (ص)، ونُعرِّف العالم بهذا التراث القيَمي الإنساني التي أطلقها وبينها رسول الله (ص) وأهل بيته في الأمة، فآن أوانها لتصل إلى كل أنحاء المعمورة بشكل جميل، وطريقة سهلة وجذابة وحضارية.
ومناسبة المولد النبوي الشريف هي أفضل وأجمل وأكمل مناسبة لأجل ذلك، فمنها تبليغ، ومنها دفاع عن رمز الإنسانية، رسول المحبة والسلام، ونبي الله الأعظم لكل إنسان في كل زمان ومكان وفي عصر التفجر العلمي والقرية الإلكترونية يجب أن يعرف العالم شرفه وكرامته التي فقدها في زحمة الأرقام، ولم يبقَ إلا رسول رب العالمين، محمد بن عبد الله (ص)، ليُعيدها إلى إنسانيتها ويُحقق لها شرفها وعزتها وكرامتها في حياتها، لتسعى لبناء حضارتها الإنسانية الحقيقية التي تتطلع إليها في هذه الدنيا.
آلاف التحية والسلام على رسول السلام في الأنام.
اضف تعليق