من الأصحاء قد لا يشعرون بهذه النعمة العظيمة إلا عندما يفقدونها، وكما قال الإمامُ الصّادقُ «العافِيَةُ نِعمَةٌ خَفِيَّةٌ، إذا وُجِدَت نُسِيَت، وإذا فُقِدَت ذُكِرَت» وقال: «كَم مِن مُنعَمٍ علَيهِ وهُو لا يَعلَمُ» وعلى الإنسان العاقل ألا يفرط في صحته، لأن من يفرط فيها تتنغص حياته...
من مفاتيح جودة الحياة الحفاظ على الصحة العامة للإنسان، والوقاية من الأمراض المختلفة، وذلك لأهمية الصحة في حياة الإنسان نفسه، ومسار المجتمع الإنساني، وكما أن المرء الذي يتمتع بصحة عالية يشعر بالسعادة، ويمتلك القدرة على العمل والعطاء والإنجاز والنشاط، بينما من تفتك به الأمراض والأسقام المزمنة يفقد -غالباً- القدرة على ذلك؛ كذلك حال المجتمعات من حيث الصحة والمرض، والعافية والوباء؛ حيث تعاني المجتمعات المصابة بالأوبئة وكثرة الأمراض المزمنة من تأخر في التنمية، وكساد في الاقتصاد، وتأخر عن ركب التقدم والازدهار.
وبالصحة والعافية يشعر الإنسان بمتعة الحياة، ويستمتع بجمالها، ويمارس حياته بصورة طبيعية، وهي نعمة إلهية يجب أن تقابل بالشكر؛ فالنعم إنما تدوم بالشكر، وتزول بالجحود، وكما قال الإمامُ الصّادقُ (عليه السلام): «لا تَدومُ النِّعَمُ إلّا بعدَ ثَلاثٍ (إلّا بثَلاثٍ): مَعرِفَةٌ بما يَلزَمُ للَّهِ سبحانَهُ فيها، وأداءُ شُكرِها، والتَّعَبُ فيها»[1]. وعنه (عليه السلام) قال: «أحسِنوا جِوارَ النِّعَمِ، واحذَروا أن تَنتَقِلَ عَنكُم إلى غَيرِكُم، أما إنّها لَم تَنتَقِلْ عَن أحَدٍ قَطُّ فكادَت أن تَرجِعَ إلَيهِ»[2].
والصحة أفضل نعمة كما قال أمير المؤمنين الإمامُ عليٌّ (عليه السلام): «الصِّحَّةُ أفضَلُ النِّعَمِ»[3]، لأن كثيراً من النعم الأخرى ترتبط بها وجوداً وعدماً.
وكثير من الأصحاء قد لا يشعرون بهذه النعمة العظيمة إلا عندما يفقدونها، وكما قال الإمامُ الصّادقُ (عليه السلام): «العافِيَةُ نِعمَةٌ خَفِيَّةٌ، إذا وُجِدَت نُسِيَت، وإذا فُقِدَت ذُكِرَت»[4]، وعنه (عليه السلام) قال: «كَم مِن مُنعَمٍ علَيهِ وهُو لا يَعلَمُ! »[5].
وعلى الإنسان العاقل ألا يفرط في صحته، لأن من يفرط فيها تتنغص حياته، وتتكدر معيشته، ويفقد الكثير من السعادة والمتعة والطمأنينة والراحة، قال الإمامُ الصّادقُ (عليه السلام): «النَّعيمُ في الدنيا الأمنُ وصِحَّةُ الجِسمِ، وتَمامُ النِّعمَةِ في الآخِرَةِ دُخولُ الجَنَّةِ»[6]، وعنه (عليه السلام) قال: «خَمسُ خِصالٍ مَن فَقَدَ مِنهُنَّ واحِدَةً لَم يَزَلْ ناقِصَ العَيشِ، زائلَ العَقلِ، مَشغولَ القَلبِ: فَاولاها صِحَّةُ البَدَنِ»[7].
وكما يجب على الأفراد المحافظة على صحتهم، واتباع سبل ووسائل الوقاية للاحتراز من الأمراض بكافة أنواعها، وخصوصاً الأمراض الوبائية والمعدية، كما هو الحال مع (جائحة كورونا) التي حولت حياة المجتمعات البشرية في العالم كله إلى توقف شبه كامل في مفاصل الحياة العامة، وأثرت على الاقتصاد والأعمال والسياحة ومختلف جوانب الحياة وأبعادها.
الصحة والوقاية في توجيهات الإمام الصادق (عليه السلام)
عندما نتصفح التراث الصحي للإمام الصادق (عليه السلام) سنجد كماً كبيراً من التوصيات والإرشادات الصحية والوقائية التي تدعو في مجملها إلى الحفاظ على سلامة الإنسان من الأمراض، والتمتع بصحة الأبدان والنفوس والعقول، ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها في النقاط الآتية:
1-غسل اليدين:
اليدان من أكثر الأعضاء ملامسة للأشياء، وغسلها بالماء من أهم الوسائل التي ينصح بها الأطباء للوقاية من الميكروبات والفيروسات، ومنه (فيروس كورونا)، وقد حثّت التعاليم الدينية على غسل اليدين قبل الأكل وبعده، وأن ذلك من المستحبات وآداب المائدة، لجملة من الأخبار، ومنها: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «مَنْ غَسَلَ يَدَهُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ بُورِكَ لَهُ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَعَاشَ مَا عَاشَ فِي سَعَةٍ، وَعُوفِيَ مِنْ بَلْوَى فِي جَسَدِهِ»[8]. وعنه (عليه السلام) قال: «اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ قَبْلَ الطَّعَامِ وَ بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ، وَيَزِيدُ فِي الْعُمُرِ»[9].
إن المداومة على هذا المستحب يؤدي إلى نظافة اليدين، وهو شرط رئيس لحماية الإنسان ووقايته من الإصابة بالأمراض المعدية والمضرة بصحة الإنسان، وهذا ما وجهنا إليه الإمام الصادق (عليه السلام) عبر تعاليمه وتوصياته الحاثة على غسل اليدين قبل الطعام وبعده.
2- العناية بالنظافة العامة للجسم:
كثيرة هي التوجيهات والإرشادات الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) والتي تحث الإنسان على الاهتمام بالنظافة العامة للجسم، كالاستحمام بالماء، وقص شعر الرأس واللحية، وحلق الشعر غير المرغوب فيه في الإبطين والعانة، وتمشيط شعر الرأس، والحث على التنظف والتطيب والتزين، فقد روى الصدوق عن الإمام الصَّادِق (عليه السلام) أنه قال: « أَرْبَعٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ: التَّطَيُّبُ، وَالتَّنْظِيفُ بِالْمُوسَى، وَحَلْقُ الْجَسَدِ بِالنُّورَةِ، وَكَثْرَةُ الطَّرُوقَةِ»[10].
ويستحب ترجيل شعر الرأس واللحية بالمشط، ومن فوائده أنه يمنع الوباء، فقد روى الكليني بسنده: عن سُفْيَانَ بْنِ السِّمْطِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): « الْمَشْطُ لِلرَّأْسِ يَذْهَبُ بِالْوَبَاءِ. قَالَ قُلْتُ: وَمَا الْوَبَاءُ؟ قَالَ: «الْحُمَّى. وَالْمَشْطُ لِلِّحْيَةِ يَشُدُّ الْأَضْرَاسَ»[11].
والمراد من الوباء في الحديث ما يشمل جملة من الأمراض التي تصيب الشعر نتيجة عدم النظافة والعناية به، ولا يقتصر على الوباء بالمعنى الخاص عند الأطباء.
ويستحب تقليم الأظفار من اليد والرجل ويكره تركه، لأنه يمنع الداء ويدر الرزق، ففي صحيح الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ يَمْنَعُ الدَّاءَ الْأَعْظَمَ وَيُدِرُّ (يزيد) الرِّزْقَ»[12].
وورد الحث على أن تترك المرأة شيئاً منها، والعلة في ذلك أنه أزين لها، فقد روي عن السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «لِلرِّجَالِ قُصُّوا أَظَافِيرَكُمْ، وَلِلنِّسَاءِ اتْرُكْنَ مِنْ أَظْفَارِكُنَّ؛ فَإِنَّهُ أَزْيَنُ لَكُنَّ»[13].
وهذه الإرشادات والتوجيهات العامة المروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) ترشدنا إلى أهمية العناية بالنظافة العامة للجسم، لأنها من أهم الوسائل للحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض والأوبئة، إضافة إلى أنها ترمز إلى التزين والتنظف المحثوث عليه شرعاً وعقلاً. فقد روي عن رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «النَّظَافَةُ مِنَ الْإِيمَانِ»[14]، وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظيفٌ يُحِبُّ النَّظافَةَ»[15]، وفي المقابل ورد النهي عنه (صلى الله عليه وآله) بقوله: « بِئسَ العَبدُ القاذُورَةُ»[16]، حيث يكون الإنسان غير النظيف مصدراً للقذارة والنجاسة والوباء والمرض.
3- تنظيف الدار:
الإهتمام بالنظافة العامة في كل شيء من الأمور التي حثّ عليها الإمام الصادق (عليه السلام)، ومن المعلوم أن كثيراً من الأمراض والأوبئة تنتقل بسبب انعدام النظافة العامة، وتعد الدار (المنزل) من الأماكن المهمة التي يجب أن تحظى بالنظافة والتنظيف الدائم، وإزالة أية منفرات للبيئة الصحية، فأكثر الوقت نقضيه في منازلنا، ونظافتها دليل على رقي أصحابها، ولذا نجد أن من توجيهات الإمام الصادق (عليه السلام) الاهتمام بتنظيف الدار وغسل أواني الطبخ والأكل، فقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «غَسلُ الإناءِ وكَسحُ الفِناءِ، مَجلَبَةٌ للرِّزقِ»[17]، وعنه (عليه السلام) قال: «اكْنُسُوا أَفْنِيَتَكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ»[1]. وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «كَنسُ البُيوتِ يَنفي الفَقرَ»[19].
وفي المقابل ورد النهي عن ترك القمامة في البيت طول الليل، والحث على إخراجها قبل المغرب، فقد روى عن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) فِي حَدِيثِ الْمَنَاهِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «لَا تُبَيِّتُوا الْقُمَامَةَ فِي بُيُوتِكُمْ، وَأَخْرِجُوهَا نَهَاراً؛ فَإِنَّهَا مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ»[20]، فترك القمامة طول الليل في البيت قد يؤدي إلى نشر روائح كريهة أو أمراض معدية أو تجمع لحشرات مؤذية.
4- تغطية الطعام:
نظافة الطعام والمحافظة عليه من الملوثات أمر في غاية الأهمية للحفاظ على الصحة؛ إذ أن كثيراً من الأمراض تنتشر من خلال الأكل والطعام غير النظيف، ولذا يرشدنا الإمام الصادق (عليه السلام) في توجيهاته الصحية إلى تغطية الطعام حتى لا يلوث بأي نوع من الملوثات الضارة، فقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «لَاتَدَعُوا آنِيَتَكُمْ بِغَيْرِ غِطَاءٍ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ إذَا لَمْ تُغَطَّ الآنِيَةُ بَزَقَ فِيها، وَأخَذَ مِمَّا فِيهَا مَا شَاءَ»[21]، وأما تركه من غير غطاء فيجعله عرضة لمختلف الملوثات والأوبئة والفيروسات التي ستجد طريقها لجسم الإنسان من خلال معدته، وهي بيت الداء.
وتشير بعض الدراسات إلى أن كثيراً من الأمراض المرتبطة بالجهاز الهضمي ناتجة من الأكل من المطاعم التي لا تعتني بالنظافة والاشتراطات الصحية المطلوبة، وعليه ينبغي الاهتمام بالأكل النظيف والصحي، وتجنب الأكل من المطاعم التي لا تهتم بنظافة الطعام ونظافة العاملين فيه.
5- تجنب الاختلاط بأصحاب الأمراض المعدية:
من أهم وسائل الوقاية من الأمراض المعدية عدم الاختلاط بالمرضى منهم، والفرار منهم كما ورد في الحديث المروي عن الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: « فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ»، وأضاف: « وَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ الرَّجُلُ مَجْذُوماً إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرُ ذِرَاعٍ»[22]، والجُذَام: داء يصيب الجلد والأعصاب الطَّرفية، يسبب فقداً بقعيًّا، وقد تتساقط منه الأطراف كما في كتب المعاجم اللغوية، وهو مرض معدي، ولذا ورد الحث على عدم الاختلاط بالمجذومين، حتى لا يعرض الإنسان نفسه للإصابة به، وهذه الأمر يتعدى إلى غيره من الأمراض المعدية كفيروس(كورونا) لعموم التعليل.
وكما ورد في الحديث بالابتعاد عن المجذومين بقدر ذراع، كذلك ينصح الأطباء بالابتعاد عن المصابين بفيروس (كورونا) بمقدار متر أو متر ونصف للوقاية منه، لحماية نفسه من الإصابة بهذا المرض أو غيره من الأمراض الوبائية والمعدية، وهو ما يعبر عنه اليوم بـ (التباعد الاجتماعي) كوسيلة من وسائل الوقاية.
وقد روي عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: «أقِلّوا مِنَ النَّظَرِ إلى أهلِ البَلاءِ ولا تَدخُلوا عَلَيهِم، وإذا مَرَرتُم بِهِم فَأَسرِعُوا المَشيَ لا يُصيبُكم ما أصابَهُم»[23]. وفي هذا أيضاً إشارة مهمة إلى ضرورة التباعد عن المصابين بالأمراض المعدية تجنباً من الإصابة مما أصابهم، مع الدعاء للمرضى بالصحة والسلامة والعافية.
وعلى المؤمن أن يداوم على التحميد لله سبحانه على نعمة الصحة والعافية، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه وآله يَحمَدُ اللّهَ في كُلِّ يَومٍ ثَلاثَمِئَةِ مَرَّةٍ وسِتّينَ مَرَّةً عَدَدَ عُروقِ الجَسَدِ، يَقولُ: «الحَمدُ للّهِ رَبِّ العالَمينَ كَثيراً عَلى كُلِّ حالٍ»[24].
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.
اضف تعليق