إن بطولة الإمام الحسين يوم عاشوراء، وما حققه من انتصار ساحق بدمه على سيوف أعدائه، وخلوده في التاريخ وفي ضمير الانسانية جمعاء، لم يأت بضربه بالسيف والتضحية والصبر وحسب، بل كان على قاعدة رصينة من المعرفة الإلهية الخالصة، ولم تكن هذه المعرفة في وقت الشدّة، إنما هي ملازمة لحياته...
من أصول التنشئة والتربية لدى المجتمعات العربية الأولى أن يكون السيف والساعد المفتول والقوة البدنية أولى شروط الرجولة، فكان المحيط التعليمي للطفل؛ بعد تعلّم اللغة وفروعها من فصاحة وبلاغة، هو فنون القتال والضرب بالسيف، ولعل السبب في ذلك؛ الصراعات المستديمة بين القبائل على أتفه الاشياء، ثم الغارات على الأضعف والسلب والنهب وسبي النساء، وأصدق وصف جاء على لسان أمير المؤمنين، عليه السلام: "وكان شعارهم الخوف ودثارهم السيف".
ورغم بزوغ فجر الإسلام على ربوع الجزيرة العربية، فان هذه الفقرة بقت على حالها في المنظومة التربوية ثم أضفى عليها مجموعة من القيم الاخلاقية والانسانية كالإيثار والتعاون والمروءة والتضحية، فأضحى الرجل المقاتل لا يحمل السيف فقط، وإنما يحمل هذه الصفات الحميدة، كما انه الشجاع في الحرب مع الاعداء، فهو الشجاع ايضاً في محاربة النفس في مسيرة التهذيب والكمال، هكذا علّمه رسول الله، وهو يصوغ الشخصية الانسانية الجديدة لابناء الجزيرة العربية، ولابناء الأمة كلها على مر الاجيال.
الامام الحسين وتأمين الحياة للدين
الأئمة المعصومون، وقبلهم جدّهم المصطفى محمد، صلى الله عليه وآله، كانوا يملكون من الشجاعة والمنعة والقوة ما يقذف الرعب في قلوب اعدائهم، حتى إن أمير المؤمنين، يسجل شهادة لرسول الله، بأن "اذا حمى الوطيس احتمينا برسول الله"، وهو ذاك الفتى المغوار والمقاتل الكرار، وهذا انعكاس للطابع الاجتماعي آنذاك، بيد ان هذه الخصال الظاهرية لم تكن لتعبر عن حقيقة شخصيتهم، وهو ما كانوا يدأبون على توضيحه للمحيطين بهم ولابناء الامة عامة، بأنهم لا يستعينون بالقوة البدنية والمادية لتحقيق مراميهم على ارض الواقع، إنما هم امتداد للنبوة والرسالة السماوية التي تستنهض الانسان وتدعوه للتكامل والتسامي بدوافع ذاتية، {ليحيا عن بينة....}، وذلك من خلال سلسلة طويلة من الأعمال العبادية من قيام وصيام وتهجد لساعات طويلة في الليل والنهار، فقد كانوا المثال الأعلى في العبودية لله –تعالى-.
ويقف الإمام الحسين، عليه السلام، في قمة العبودية والتجسيد لقيم السماء، ليس لأنه أفضل من جدّه رسول الله، وهو خاتم النبيين وأشرف الخلائق، والذي {قاب قوسين أو أدنى}، ولا حتى أفضل من أبيه أمير المؤمنين، عليه السلام، وهو سيد الوصيين، وصاحب تلك المنزلة اللصيقة برسول الله، إنما المهمة الإلهية الموكلة اليه هي التي جعلته في منظار أهل البيت، محوراً للدين، والضمانة لاستمراريته في الحياة بفضل التضحيات الجسام والمواقف الخالدة في واقعة الطف.
ويتساءل العلماء عن سبب كشف الله –تعالى- لنبيه الأكرم في معراجه المكانة الخاصة لحفيده الامام الحسين، وأنه "مصباح الهدى وسفينة النجاة"، وفق تفسير الآية الكريمة {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} بان إحدى الآيات الكبرى، هي هذه المنزلة العظيمة والخاصة، فيجيب سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي بأن الامام الحسين هو "خير من طبق الآية الكريمة: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}، فالامام الحسين هو الذي أقام الدين وحفظ الشريعة، ولولاه لما كانت اليوم الصلاة ولا الصيام ولا الحج"، (الامام الحسين أقام الدين- ص53)، وقد أجمع العلماء والمؤرخون على أن بني أمية، وفي طليعتهم آنذاك؛ معاوية، كان على يخطط للقضاء على الاسلام من خلال تحريف الشريعة وقلب الموازين، والعودة الى حكم الجاهلية الأولى، لتعود العنصرية والقومية والاحتكام الى منطق القوة بالمال والسلاح، وانتهاك حقوق الانسان.
ولو عرجنا الى وادي الطف واستعرضنا المشهد في ليلة العاشر من محرم سنة61 للهجرة، لوجدنا طبول الحرب تقرع في الكوفة من قبل الحكم الأموي، بينما ينشر الإمام الحسين قيم الدين وهو بعد في مدينة جده رسول الله، لم يغادرها الى مكة ثم الى كربلاء، عندما أعلن في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية بأن "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
وبلغ التوهّج الرباني في ليلة عاشوراء عندما استمهل جيش ابن سعد حتى يوم غد (العاشر من المحرم)، حتى يصلي لربه، لأن "يحب الصلاة وقراءة القرآن الكريم"، بل جلّ كلماته التي ألقاها الى الآلاف المتجحفلة لقتاله كانت تتضمن آيات من الذكر الحكيم، فقد كان صنو القرآن بحق: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}، (سورة هود،71)، ثم يردف بالقول: {إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}، (سورة الأعراف،196).
وبالامكان مراجعة الأدعية التي تلاها، عليه السلام، صبيحة اليوم العاشر من المحرم، في وقت، هو من أشد الاوقات على انسان يواجه تلك الجموع الغادرة، وهو يعلم بمصيره، ثم يرى خلفه جمهرة من النساء والاطفال الذين سيلاقون من بعده السبي والآلام النفسية والبدنية، مع كل هذا، كان الامام الحسين متوجهاً بكل وجوده نحو السماء بأن "اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدّة..."، الى آخر الدعاء، ودعائه الآخر: "اللهم أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء...".
المعرفة أساس العطاء
يروى أن الامام الحسين، عليه السلام، مر في جماعة بينهم عبد الله بن عباس، وهم جلوس في مكة، فدعاه الاخير الى مسألة عقدية وأن يشارك معهم الحديث فكان جوابه الحازم أن "يا بن عباس وهل عرفت من تعبد"؟!
إن المعرفة الإلهية العالية للإمام الحسين لم تكن في وقت الشدّة، وفي ساعة الحاجة والحرج يوم عاشوراء، إنما هي ملازمة لحياته، عليه السلام. يكفي أن نقرأ عن ابنه الامام السجاد، عليه السلام، سئل عن سبب قلة "ولد أبيك، فقال: العجب كيف ولدت، كان أبي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة"، (بحار الأنوار- ج44،ص196).
وعندما نقول: إن الله –تعالى- أعطى الإمام الحسين ما لم يعط لغيره، لأنه أعطى لله كل شيء، فنحن نتعلم من الامام الحسين الحصول على العطاء الإلهي بمقدار المعرفة الإلهية، وهو مصداق معادلة الانتصار والفلاح في الحياة التي سنّها الله –تعالى- { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ}، و{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، فمن يدعو الله لرفع الشدائد كما يحصل اليوم من اجتياح داء "كورونا المستجد" جميع انحاء العالم، وهو يحصد يومياً المئات من أرواح البشر حول العالم، لابد أن يفكر قبل توقع الاستجابة والعطاء الإلهي، بحجم معرفته بالله، وما أسداه من شكر، وتسبيح، وتنزيه والتزام بأحكامه وتعاليمه.
في دعاء عرفة، نقرأ إشارات مدهشة الى تفاصيل جسم الانسان، من أطراف، وقلب، ومخ، وشرايين، ومفاصل، وجهاز عصبي وغيره، يقسم بها الإمام الحسين، عليه السلام، في دعائه المعروف، بأن "لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والاحقاب لو عمرتها أن أؤدي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك".
إن بطولة الإمام الحسين يوم عاشوراء، وما حققه من انتصار ساحق بدمه على سيوف أعدائه، وخلوده في التاريخ وفي ضمير الانسانية جمعاء، لم يأت بضربه بالسيف والتضحية والصبر وحسب، بل كان على قاعدة رصينة من المعرفة الإلهية الخالصة، لذا في كل لحظات المعركة كان له نظرة على مشهد الحرب، ونظرة أخرى نحو السماء، فكان يردد: "هوّن ما نزل بيّ إنه بعين الله"، بينما خطأ البشرية بشكل عام والمسلمون بشكل خاص أنهم تصوروا أنهم أبطال بأموالهم وعقولهم وقدراتهم التي انكشفت اليوم على حقيقتها كم هي واهية! ربما أوهن من بيت العنكبوت، وكيف أن العجز المريع أمام فيروس بسيط (كورون المستجد- كوفيد19) يصرع زعماء العالم ويُعجز العلماء عن مجرد تطويقه والحد من فتكه بالبشر، بعد أن عجزوا عن مكافحته والوقوف امامه.
اضف تعليق