لحظة لقاء السماء والتأريخ بالأرض، هي تلك اللحظة التي قرر فيها، الإمام علي (عليه السلام) إعلان الكوفة، عاصمة للدولة الإسلامية، ومن هنا بدأت رحلة الأعوام الأربعة، التي أثمرت وأزهرت أربعة عشر قرناً، من دولة العدل الإلهي.
في العام السادس والثلاثون للهجرة، أبان تسلم الإمام علي (عليه السلام) الخلافة، ونتيجة للظروف السياسية المعقدة في المدينة المنورة، إتجه أمير المؤمنين صوب الكوفة، وأعلنها عاصمة لدولته المباركة.
يتوارد على العقل سؤال عن أسباب، مغادرته (عليه السلام) للعاصمة الأم (المدينة المنورة)، خصوصاً وأنها مدينة رسول الحق (صلواته تعالى عليه)، إلا أن معرفة الأسباب تبطل العجب، فعبقرية الأمام ودرايته وتسديده الإلهي، جعلته ينأى عن المدينة لأسباب نورد منها:-
أولاً: الكثافة السكانية القليلة نسبياً مع ما تتمتع به الكوفة، وهنا لم يجد الأمام بدّ من مواجهة التحديات بجيش قادر على تجاوزها.
ثانياً: لم يكن كل أهل المدينة وبالخصوص وجهاءها، مع خلافته (عليه السلام) لذلك وجد بالكوفة مركزاً، يواجه من داخلها الأخطار المتوقعة.
ثالثاً: الطبيعة المجتمعية في العراق، وحداثة الإسلام فيه، مما يؤهل المنطقة على إستقبال الشرعية الجديدة. على خلاف المدينة ورجالها، وتمركز أعداء الأمام في مراكز قيادية متقدمة.
مما سبق الإشارة إليه، تجد الإستراتيجية السياسية والعسكرية حاضرة، وهي التي ساعدت الإمام في الحفاظ على الثوابت الإلهية، وتجديد عصر الرسول الأكرم (صلواته تعالى عليه)، في خطط مدروسة ومحسوسة، على سبيل الذكر لا الحصر نسرد منها:-
أولاٍ: تجديد المثال النبوي في الحكم، وإزالة صور الإنحراف المختلفة التي طرأت على الحياة الإسلامية.
ثانياً: تجاوزه (عليه السلام) عن موضوعة إغتصاب الخلافة، المنصوص بالأمر الإلهي "يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك" [المائدة:67]، والبدء بإعادة النظام السياسي الحقيقي للإسلام.
ثالثاً: مغايرته لإسلوب الحاكم الموروث سابقاً، من الذي إرتضاه سابقيه بقوله لجمع الناس، "وأعلموا أني أن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ لقول القائل وعتب العاتب"، [نهج البلاغة:92].
رابعاً: إرساء القواعد العامة لإختيار ممثليه في الولايات الإسلامية، محذراً من البخيل والجاهل والجافي والمرتشي والمعطل للسنة.
خامسا: الإصلاح الإقتصادي وإعادة توزيع المال، مترفعاً عن التمييز بين المسلمين على أساس الجنس واللون والعرق، [فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إذا كان مسلماً حراً] نهج البلاغة:38.
سادساً: تصديه (عليه السلام) للناكثين والقاسطين والمارقين، ممن أرادوا بالإسلام سوءاً، تحقيقاً لأمر الرسول الأكرم (صلواته تعالى عليه)، كما جاء عن أبو أيوب الأنصاري.. (أمر الرسول (ص) علي بن أبي طالب (ع) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين) [مستدرك الحاكم: الحديث4674].
مما ذكر تتجلى الحقائق والأحداث، التي رسمت فيها الكوفة الطريق الأصوب لتحقيق العدالة الإلهية، ترسخ المفاهيم والقيم التي أقرها رسول الإنسانية (صلواته تعالى عليه).
الكم الكبير من الأحاديث المحرفة، ورواة الحديث المأجورين، والطغيان الذي مارسه الأمويين والعباسيين، وذلك التشويه والسب والشتم، كل هذا وذاك لم يأخذ من مكانة الكوفة شيئا، ولم يطفأ نورها الذي اختار الحق سبيلا.
ذاك لأنها ولدت بعلي ومن علي ولعلي (عليه أفضل الصلاة والسلام)، ولأنها مرسى سفينة نوح وغصة حوت يونس (عليهما السلام).
اضف تعليق