في أحد الأيام بعدما عاد العصفور إلى عشّه، لم يجده كما كان قبل رحيله عنه في آخر مرة، فالطوفان غيّر شكله رأساً على عقب، ولم يبقَ سوى الدمار الذي لحق بالعش، تألّم العصفور كثيرا من منظر الخراب الذي طغى على عشه، وشكا بأنه فقدَ كل ممتلكاته، ولم يبقَ له أي شيء، ولكن بعد ذلك رأى ثعبانا كبيرا يقترب من مكان عشّه الذي بات شبه مدمّر ويسوده منظر الخراب، هنا تبين له أن فقدانه للعش كان هدية من الخالق، كي يعيش زمنا أطول في هذا العالم، وقد يبدو الأمر في غاية الرعب للوهلة الأولى، وربما يندب المرء حظه العاثر، ويتذمر مما حصل له أو لممتلكاته، لكنه سوف يعرف الحكمة من ذلك فيما بعد.
يروي أحد الرجال الكبار وهو من عائلة معينة، قصة طالب علم في مدينة مشهد، حيث كان يعاني من الوحدة ولم يكن لديه عائلة ليعود إليها في أيام العطلة المقررة لهم، بينما كان جميع الطلبة يقصدون عائلاتهم ليقضوا بينهم أيام العطلة هناك، في حين كان هذا الطالب يبقى في حجرته دون أن يسأل عنه أي أحد من الناس، وكانت حالته المادية ضعيفة جداً مما يدفعه إلى البؤس أكثر فأكثر.
في أحد الأيام طرق بابه شخص ما لا يعرفه، وأعطاه كيسا فيه قطعة لحم (نذر)، غمرته السعادة وكأنه أصبح ملكاً للبلاد، وجُعل التاج الملكي على رأسه، ذهب إلى أثاثه مطبخه المتواضع ليبحث عن قِدر ليطبخ اللحم، ووضع اللحم في القدر على نار هادئة، ليعود ويحتفل بغدائه الفاخر وترك البيت قاصداً حرم مولاه علي بن موسى الرضا، فكان الإمام (ع) هو عائلته الوحيدة وملجأه الوحيد في هذه الدنيا.
ففي كل يوم كان يجلس ساعة واحدة في الصحن المبارك، يقرأ الأدعية ومن ثم يقصد الضريح، ويؤدي مراسيم الزيارة عن ثرب، ثم يعود إلى البيت، ولكن في ذلك اليوم فكر بأنه ليس لديه عمل فلماذا لا يجلس وقتا أكثر من المعتاد؟.
وعندها نسي قصة اللحم تماما وذهبت عن باله كل الأفكار، ولم يتذكر أن قِدْر اللحم على النار، وبعد أن عاد إلى حجرته وجد النار قد التهمت الحجرة بوحشية، ودمرّتْ معها أحلامه بتناول غداء فاخر والاحتفال بيوم جميل، لكن ذلك الحلم تحول الى حريق أتي على غرفته وكل ممتلكاته البسيطة والقليلة أصلا.
تبخرت أحلامه وكل ما عنده خلال لحظات، مثل امرأة فقدت زوجها وأطفالها للتو، جلس يندب حظه ويتذمر مما حدث لحجرته، وفقدانه اللحم، وبعد أن أطفأ النار ذهب شاكياً إلى حرم الإمام الرضا عليه السلام، وأخذ يعاتبه بصيغة مختلفة، وانهمرت الدموع على وجهه، وقد كانت الدموع بمثابة كمادات الحمى وأخذت تشفيه شيئا فشيئا، وتبرّد قلبه المحروق، لم يترك أية كلمة لم يتكلم بها، ولكن بعد أيام رجع إلى ملجئه الوحيد وهو مطأطأ الرأس، بينما آثار الندم كانت واضحة على ملامحه.
بدأ يبكي بحرقة ويعتذر من الامام عليه السلام، وقال: لم أكن أعرف أن الله كان يريد أن يعطيني بيتا جديدا، وأثاثا جديدا أيضا، لو كنت أعرف ذلك لما تذمرت ولا تكلمت بهذه الصورة.
قال كبير العائلة بأنه بعد هذه الحادثة، جمع العلماء والطلاب مبلغا من المال ليساعدوا به هذا الطالب واشتروا له بيتا وأثاثا حديثا، وبعد ذلك تغيرت أحواله وتخلص من فقره ذلك، ليتحول إلى رجل غني، ثم بعد ذلك أصبح من أهم التجار في مشهد.
بعد هذه الحادثة تعلم الجميع بأن نعم الله تأتي أحيانا على شكل ابتلاء بمال أو مرض أو فقدان أحد الأحبة، ولأن العقل البشري قاصر الإدراك، لا يعرف ذلك وربما يتذمر المرء على فقدانه أو ابتلائه بحادث أو موقف ما، لذلك جميل أن ينزع المرء نظارته السوداء ويتوكل على ربه ويتيقن إن الله لا يريد له إلا الخير.
لذلك كلما اشتد الحزن وشعرت بأن هموم الدنيا أثقلت كاهلك ولا يوجد أمامك طريق لتكملة المسير، أحضر ورقاً واكتب النعمة التي منحك الله إياها: "الصحة، العائلة، المال، شهادتك الدراسية والأمان وغير ذلك الكثير".
بعد ذلك سترى أنك أغنى مما تتصور وربما تكون أغنى من كل الناس أو من كثير منهم، لأنك تحمل في قلبك حب النبي صلى الله عليه وآله وعترته الأخيار كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحب إليه من ذاته.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحبنا أهل البيت، فليحمد الله على أول النعم قيل: وما أولا النعم؟.. قال: طيب الولادة، ولا يحبنا إلا من طابت ولادته.
ستكون النعم وبال على عاتق الإنسان، فيجب أن يجاوب ربه بما فعل بها "لتسألنّ يومئذٍ عنّ النّعيم". لذلك جميل أن نعرف أول سؤال نُسأل به في يوم القيامة، كما قال الامام الرضا عليه السلام عن أول نعمة في حياة الإنسان، كما أشار إليها النبي وهي حب أهل البيت عليهم السلام.
قال الإمام الرضا عن آبائه عليهم السلام: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أول ما يُسأل عنه العبد حبنا أهل البيت*1. ومهما طالت أو كثرت بك المآسي، تذكّر إنك أغنى الناس لأنك تحمل أغنى الكنوز في قلبك ألا وهو حب محمد وآل محمد صلى الله عليه واله.
اضف تعليق