قول شهير للإمام علي (ع) يضع النقاط فوق حروفها (إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله)، فالحق هنا لا يستدل عليه بالرجال والأقوال، إنما العكس هو الصحيح، فأنت إن عرفت الحق سوف تعرف من خلال ذلك من هم أهله وأصحابه والقائلين به، أما السلطة فقد تكون على خلاف مع الحق خاصة اذا كانت تتحرك خارج المقبول وتضرب قواعد الاتفاق المبدئي.
أما السُّلْطة فهي بحسب مختصين قدرة شخص معين أو منظمة على فرض أنماط سلوكية لدى شخص ما. تعتبر السلطة أحد أسس المجتمع البشري وهي مناقضة لمبدأ التعاون. إن تبني أنماط العمل نتيجة فرض السلطة يُسمى الانصياع، والسلطة كمصطلح يشمل غالبية حالات القيادة، وتُطبق السلطة استنادا إلى قوة اجتماعية معينة، وقد تكون هذه القوة حاضرة كالتهديد بالتسبب بأذى جسماني أو وهمية (غيبية) وتتحدد القوة من خلال الاستخدام المحتمل للعقوبة، فهي عملية تمس بالشخص الذي لا ينصاع إلى السلطة أو يهددها، بغية ضمان وجود قوة اجتماعية، وهناك مرجعيات قليلة فقط تعتمد على القوة الجسدية بينما يطبق الكثير من المرجعيات بفضل وجود جهاز تنظيمي يقوم على الصلاحيات. هكذا تكون قدرة تطبيق سلطة ما مرتبطة بكونها موجودة أصلا.
أما الحق فيعني في اللغة الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وفي اصطلاح أهل المعاني هو الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب، باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل، وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة، ويقابله الكذب، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع، وفي الصدق من جانب الحكم، فمعنى صدق الحكم مطابقة للواقع، ومعنى حقيقته مطابقة الواقع إياه، ويعرف أصحاب المذهب الشخصي الحق بأنه قدرة أو سلطة إرادية يخولها القانون لشخص معين، فالعنصر الجوهري للحق عن أنصار هذا المذهب يكمن في إرادة شخص صاحبه.
وحين نتطرق للسلطة بمنظار الإمام عليه، فثمة ثوابت وحقائق تاريخية فكرية ومادية نستند إليها، فقد أعلن الإمام رفضه للسلطة، وطالب باختيار شخص آخر وأعلن أن السلطة وامتيازاتها بل أن الدنيا ومغرياتها كلها لا تساوي عنده (عفطة عنز/ الخطبة الشقشقية)، ولكن والحال آل الى ركون السلطة إليه وليس العكس (كما يفعل سياسيو اليوم المتشدقون بمبادئ الإمام وغير العاملين بها)، فقد تصدى الإمام الى هذه المهمة وتعامل مع السلطة لصالح الأمة وليس عليها.
وهل هناك فرد متنور صاحب عقل رصين لا يمكنه الاستدلال على الكيفية التي تعاطى بها الإمام علي مع السلطة؟، قطعا كل الأمور والمدونات المحققة تعلن بصوت مدوّي أن السلطة بالنسبة لعلي (ع)، هي سلطة الحق ولا سواه من سلطة على الآخرين، فمتى ما كنت على حق فأنت صاحب سلطة على الآخر وليس العكس، أي أن السلطة لا يمكن أن تجبر الحق على أن يكون تابعا لها.
وإن حدث مثل هذا الشيء تدهورت المعايير وانقلبت الموازين، أي إذا تمكنت السلطة من الحق تفرعنت وتكبّرت وتكالبت على أهل الحق مثل تكالب الضواري الجائعة على فرائسها، هكذا هي السلطة إذا كان الحق نقيضها أو غريمها، لذلك ما أن آلت السلطة الى الإمام علي كي يدير شؤون الأمة حتى أعلن هذا المبدأ على رؤوس الأشهاد وتمسك به وهو القائل العامل بأن معرفة الحق تتقدم على معرفة أهله وصناعه والى من ينتمي.
فجرّد الإمام بهذه الرؤية كل من يدعي أنه صاحب حق أكثر من غيره، وجعل عنصر التحكيم والمقياس الحاسم هو الحق نفسه، فلا سلطة تفوق الحق، ولا حق مع السلطة عندما تخرج عن إطار هذا المقياس والمعيار الحاسم، ولهذا السبب وأمثاله تضاعفت أعداد كارهي الإمام علي، ذلك أن الأكثرية كارهة للحق، كما يبرز ذلك كلام القرآن الحكيم (وأكثرهم للحق كارهون)، فتكالب الأعداد وانتفض الخوارج وزعقت ألسنة السوء، وابتدرت الضغائن أسبابها المزيفة والكاذبة، كل ذلك لأن السلطة لدى الإمام علي هي سلطة الحق لا سواها.
أمس واليوم وغدا، هذا هو المبدأ العلوي الذي لم يجارِه حاكم أو حكومة حتى اللحظة، فحكام المسلمين والعرب منهم على وجه الخصوص، وضعوا الحق خلف ظهورهم، وقدموا السلطة أمامهم بل وضعوها على رؤوسهم وحموها بدمائهم، وقامت عروشهم على جماجم المعارضين لهم لمجرد إطلاق الرأي الآخر أو النظرة أو السلوك أو الكلمة التي لا تتفق مع رؤية الحاكم والحكومة، في حين كانت (مدرسة علي السياسية) شيء آخر، سياسة تجعل الحق قائدا للسلطة وليس العكس، مع التركيز على أن الحق يعرف بأهله والباطل كذلك.
في النهاية.. نحن أصحاب مدرسة سياسية (علوية) تزاوج بين الحق والسلطة، وترفض أن تجعل الحق تابعا للسلطة، وما على قادة المسلمين اليوم إلا أن يدرسوا الظاهرة العلوية في الحكم والسلطة والحق، فهذه المدرسة تحل لهم مشاكلهم التي عجزوا عن إيجاد الحلول المناسبة لها، وتركيزهم على السلطة وإجحافهم للحق هو أكبر الأسباب التي تغذي هذه المشكلات، وعليهم أن يتعلموا في المدرسة السياسية لعلي (ع)، فهو الذي عمل بسلطة الحق، وليس بحق السلطة.
اضف تعليق