الإمام علي ابن أبي طالب (ع) هو صوت العدالة وضمير الإنسانية الخالد، وأفضل شخصية نموذجية جسدت العدالة والحق على أرض الواقع، وما العجب وهو ذو الشخصية الفريدة والمتميزة في الوجود بعد شخصية سيد الخلق النبي محمد (ص)، فهو قد ولد بأطهر موقع في جوف الكعبة المشرفة، وصاحب مسيرة جهادية ونضالية فريدة كأول مؤمن وأول فدائي في التاريخ الإسلامي، وهو البطل والشجاع في كل المعارك والحروب، وصاحب المكانة العالية فهو اخو رسول الله ونفسه ووصيه وأمير للمؤمنين، وزوج أبنته السيدة فاطمة الزهراء ووالد سبطيه الحسن والحسين، وإمام المتقين والفصاحة والبلاغة،... وختم حياته بالشهادة في محراب الصلاة في حالة السجود في أفضل الشهور شهر رمضان وفي أفضل الليالي ليلة القدر.
وقد كرس حياته في سبيل الحق والعدل، بل هو مصداق ذلك المفهوم على أرض الواقع ولقد قال رسول الله محمد (ص) بحقه:«علي مع الحقّ والحقّ مع علي» و«علي مع القرآن والقرآن مع علي»،.. ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة». وقال الإمام علي -عليه السلام-: «أنا القرآن الناطق». وليس هناك غيره يمكن أن يقول ذلك، كما لا يوجد شخص يمكن ان يقال عنه ما قاله رسول الله (ص) بحقه.
الحق هو مقياس التعامل عند الإمام علي في كل القضايا الشخصية والعائلية والاجتماعية، ومع الصديق والعدو، وفي السلطة وخارجها، فلا مكانة للتلون السياسي والمكر والخداع واستغلال الفرص والبحث عن المصالح والمنافع ومجاملة السلطات والوقوف على أبوابها أو مدحها ولو بكلمة، بل كان مع المظلومين والضعفاء والمساكين واليتامى بمقياس الحق.
ولهذا ينبغي ان تكون شخصية الإمام علي(ع) حاضرة في عقل وقلب وضمير كل إنسان يتطلع للحق وتطبيق العدالة مهما كان دينه وقوميته ولونه، وفي كل مكان وزمان، فهو أنموذج للعدالة الإنسانية.
وحتما عندما ورغم إحياء ذكرى أسمه ومسيرته فلا يمكن لأحد الإحاطة بشخصيته العظيمة والفريدة من قيم ومبادئ سامية، ومنها التمسك بالحق وتحقيق العدالة.
أمير المؤمنين (ع) ليس فقط شخصية للافتخار وهي كذلك، ولكن الأهم الاستفادة منها كنموذج وقدوة في الحياة العملية لتحقيق العدالة وتثبيت الحق على أرض الواقع.
الامام علي (ع) عاش حياته منذ طفولته وإلى يوم استشهاده، للحق والعدالة ومحاربة الإنحراف وبالخصوص بعد رحيل خاتم الأنبياء والمرسلين النبي محمد (ص) التي كانت شديدة الصعوبة، فقد رفض التعامل السياسي النفعي والمصلحي واللجوء للمبررات والمخارج باسم المداراة على حساب القيم والمبادئ والحق والعدالة، ورفض التعامل بالطريقة الانتهازية واستغلال قرابته القريبة من رسول الله (ص) وتضحياته العظيمة للرسالة؛ للوصول للسلطة وكرسي الحكم، أو لأجل إرضاء اطراف مستعدة لدعمه لتحقيق مصالح لها.
علي (ع) هو الخليفة الشرعي بعد النبي (ص)، ورغم علمه باجتماع البعض للسيطرة على منصب الخلافة في ظل انشغاله بتجهيز رسول الله ودفنه، لم يتحرك ولم يهتز لأجل المنصب، فالكرسي ليس له أهميه لشخصه فهو زاهد فيه، ومقامه لديه أقل من عفطة عنز فيقول عن ذلك: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لاَلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَ لأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزِ)، ويقول عليه السلام: " إنّ دنياكم عندي لأهون من ورقةٍ في فم جرادةٍ، تَقضِمُها، ما لعليٍّ ولنعيم يفنى، ولذّةٍ لا تبقى!".
وعندما تم السيطرة على السلطة في ظل غيابه بالانشغال برحيل خاتم الأنبياء والمرسلين ودفنه، لم يسكت ولم يستسلم بل بذل كل ما يستطيع لتأكيد حقه الطبيعي الرسالي والتاريخي، وتذكير الموجودين بالحجج والبراهين ومنها أقوال الرسول ولكن لا حياة لمن تنادي، وكما قال كلمته المشهورة: (لا رأي لمن لا يطاع). وحاول بما يستطيع لإصلاح الإنحراف في الأمة رغم إيمانه بحقه.
ومن خلال ذلك يقدم الإمام رسالة للعالم بضرورة المطالبة بالحق وعدم السكوت عنه، وقد قال -عليه السلام- فى خطبته المشهورة والمعروفة بالشقشقية التي تظهر شكواه على ما حدث حول اختطاف السلطة وتصبره للمصلحة العامة: (.. وَ إِنَّهُ ليَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ.. فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِر).
وهذا الكلام يظهر ويؤكد رفض الإمام لتلك الأحداث والسلطات ولم يشارك بها، وكان يقدم النصيحة للشأن العام، ولم يتواصل معها لتحقيق منفعة أو مصلحة شخصية رغم قوته وحكمته وعلمه ولو بأي تبرير أو منصب.
دعم الحق والمناضلين
الإمام علي (ع) ساند وتضامن مع كل صاحب حق وإصلاحي ومعارض للإنحراف، فقد وقف مع اصحابه ومنهم أبو ذر الغفاري حيث قام هو وأبنائه الحسن والحسين وشقيقه عقيل وبعض محبيه بتشييع ابوذر عند قرار نفيه من المدينة إلى الربذة بسبب اعتراضه على السلطة القائمة، ورغم تهديد السلطات بأن لا أحد يكلمه أو يشيعه أي أبو ذر، وابتعاد الناس عن ذلك خوفا من العقاب. فقال علي (ع):( يا أبا ذر، إنك غضبت لله فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك، وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسَّداً، ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا، يا اباذر لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوك).
ورَبَّى وهذب صحابته ومحبيه على التمسك بالحق والعدالة ومقاومة الإنحراف والفساد والوقوف مع المظلوم، ونتيجة تمسكهم بالحق والعدل وعدم التنازل للسلطات الحاكمة باسم السياسة والمنفعة والمدارة فقد دفعوا الثمن بالحصول على أعلى مراتب الشرف والفخر الشهادة مثل: عمار بن ياسر، والمقداد أبن الأسود الكندي، ومالك الاشتر، ومحمد ابن أبي بكر، وقيس بن سعد ابن عبادة، وغيرهم ومنهم، البطل حجر بن عدي الذي قدم درسا في دروب التمسك بالحق وعدم التنازل ولو كلف ذلك الشهادة له ولأفراد عائلته حيث تحمل معاناة رؤية ابنه وتقديمه للشهادة قبله ليطمئن بأن ابنه قد رحل من الدنيا بأعلى وسام وهو وسام السعادة الخالدة بالتمسك بطريق الحق والعدالة بولاية الإمام علي -عليه السلام-، وفي ذلك دروس لكل من يسير على درب الحق والعدالة طريق اميرالمؤمنين بأن يكون على استعداد لتقديم التضحيات وعدم المساومة على الحق والعدل، والابتعاد عن التلون السياسي لتحقيق منافع مهما كانت المبرارات.
ما أحوج العالم من حكومات وشعوب إلى فكر ومبادئ وقيم الإمام علي -ع- لتحقيق العدالة الإنسانية.
سلام عليك أيها القرآن الناطق، يا علي ابن أبي طالب.
اضف تعليق