في كل زمن هناك مؤامرات باستطاعتها تغيير ظواهر الأمور، تجعل منها ذات بريق وتقضي على الرشد والرؤية الدقيقة للمهمات، وتجعل من الانسان مشوه الفكر، لذلك حثتنا الأحاديث والروايات والآيات القرآنية على التدقيق والتمعن في الأمور والأخبار (وإن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) ولكن مع كل هذا هناك فئة كبيرة تلهث وراء الظواهر وتحكم على الأمور بما تراه العين المجردة من ظواهر الأمور بل ويصل الأمر إلى أسوأ من ذلك ويؤاخذ إمامه وينعته بأسوأ الألقاب وما إلى ذلك حيث كان يقول جماعة من الذين يسمون أنفسهم "مسلمين" للامام الحسن عليه السلام: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين.
وكان هؤلاء أنفسهم الذين حثوا الامام على الحرب والوقوف في وجه معاوية من خلال ارسال الرسائل المتواترة لشخصه الكريم ولكن بعد ذلك تراجعوا إلى الوراء الامام عليه السلام كان يعرف نواياهم ولم يكن قلبه مطمئناً إليهم وكان يعلم أنهم لا يوفون بعهودهم ولم تكن مواثيقهم رصينة وان آخر الامر ستكون الغلبة لمعاوية ومع ذلك أراد أن يلقي الحجة عليهم لعله باستنهاضهم وتشجيعهم يلحقوا بجبهات القتال فقام فيهم خطيبا مرات عديدة وتكلم عن ذلك ولكن عندما يقفل عقل الانسان ويملأ القلب بملذات الدنيا لا يستطيع كلام الحق فتح هذا القفل ولكن الامام عليه السلام أراد ان يُبين الحق ويبين ان هذه الرسائل ليست سوى تفاهات من أصحاب العقول السكارى بحب الدنيا قال عليه السلام: معشر الناس عفت الديار ومحيت الاثار وقل الاصطبار فلا قرار على همزات الشياطين وحكم الخائنين الساعة والله صحّت البراهين وفصّلت الآيات وبانت المشكلات ولقد كنا نتوقع تمام هذه الآية وتأويلها قال الله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.
فلقد مات والله جدي رسول الله وقتل أبي وصاح الوسواس الخناس في قلوب الناس ونعق ناعقة الفتنة وخالفتم السنة فيا لها من فتنة صماء عمياء لا يسمع لداعيها ولا يُجاب لمناديها ولا يخالف واليها أظهرت كلمة النفاق وسيرت رايات أهل الشقاق وتكالبت جيوش أهل العراق هلموا رحمكم الله الى الافتتاح والنور الوضاح والعلم الجحجاح والنور الذي لا يطفأ والحق الذي لا يخفى.
أيها الناس تيقظوا من رقدة الغفلة ومن تكاشف الظلمة فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة لئن قام إليّ منكم عصبة بقلوب صافية وبينات مخلصة لا يكون فيها شوب نفاق ولا نية افتراق لأجاهدن بالسيف قدماً ولأضيقن من السيوف جوانبها ومن الرماح أطرافها ومن الخيل سنابكها فتكلموا رحمكم الله .
وبهذ الخطاب البليغ شرح الامام الحسن خطورة الموقف فدعا الناس الى تحمل مسؤولياتهم تجاه العدو إلا انه عميت ابصارهم عن مناصرة الحق ومقارعة الباطل فاختارت لنفسها حياة الذل وحب الدنيا الذي لم ينلها فيما بعد وخسر الدنيا والاخرة أدى هذا الانزلاق إلى مآسي رهيبة ونتيجة سلبية في غاية الخطورة بسبب مواقفهم مع كل هذا لم يستسلم الامام ولكن كان على استعداد تام ليخرجهم من الضلالة ومع كل النفاق الذي كان يشعر به لم يستسلم من ان يحرك زمام المبادرة لحرب معاوية مع هذا الجيش المنافق بتركيبته الغريبة.
وقد ذكر الشيخ المفيد رضوان الله عليه: انه سار معاوية نحو العراق ليقلب عليه اي الامام عليه السلام فلما بلغ جسر منبج عشر فراسخ عن حلب تحرك الامام وبعث حجر بن عدي يأمر العمال بالمسير واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ثم خفر معه أخلاط من الناس بعضهم شيعه لأبيه وبعضهم محكمه يؤثرون قتال معاونيه بكل حيله و بعضهم اصحاب فتن وطمع في الغنائم وبعضهم شكاك وبعضهم اصحاب عصبيه اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى الدين هذا المزيج الغريب من المجتمع الكوفي خرج معه الامام الحسن كان يشكل ٥/٢ من جيش الامام الحسن أي ثمانية آلاف رجلا ولم يكن كل جيش الامام من هذا المزيج وهذا ما بينه لنا الشيخ المفيد وهو يتعلق فقط بالفرق العسكرية التي خرجت مع الإمام الحسن ولكي نتعرف اكثر على طبيعة الفرق العسكرية التي تحدث عنها الشيخ المفيد اعلى الله درجته نشيرالى التالي:
الاول: الطليعة الرسالية
وهذه تؤمن بحق الامام الحسن المشروع في ولاية المسلمين وتقف الى جانبه كما وقفت الى جانب ابيه امير المؤمنين وهذه الفئة هي قليلة قياسا بغيرها من الفئات الاخرى في الفرق العسكرية لجيش الامام.
الثاني: المُحكَّمة
وسميت بهذا الاسم لانها قبلت بالتحكيم في حرب صفين وطلبت من الامام علي القبول بذلك ثم تظاهرت على الامام علي بعد ان أكرهته على التحكم وهذه الفئة تكيد العداوة لمعاوية وتسعى لحربه بأي صورة كانت وتحت أي لواء كان طالما ضد معاوية الا ان هذه الفئة لا تحمل ولاءا حقيقيا للأمام الحسن وإنما ارادت ان تحارب مع الامام ضد معاوية لانها وجدت في الامام لواء يمكنها الانضواء تحته في الحرب ضد عدوها
الثالث: المصلحيون والمحاربون من اجل المغانم
وهذه الفئة لا تحمل هدفا مقدسا أو غرضا ساميا وإنما تستخدم الحرب كوسيلة لاكتساب المغانم وتحقيق المصالح والرغبات الشخصية وهذه الفئة لايمكن ان تدخل صراعا حقيقيا بل لديها القابلية للانقلاب على الامام الحسن والانحياز الى جانب معاوية في حالة لو تعرض جيش الامام للانكسار والتقهقر.
الرابع: الشكاكون والمتذبذبون
هذه الفئة لا تقف على أرض ثابتة وليس لها قدم راسخ فهي كالماشي على رمال متحركة لا يقر لها قرار ولا يهدأ لها البال فقد يطفح كيل الشك بها فتترك الموقع التي هي فيه وتمرح الأعداء وهذه الفرقة من الصعب الاعتماد عليها او إيلائها الثقة في حال السلم فكيف في حال الحرب التي فيها امتحان الإرادات؟.
الخامس: اتباع الفكر القبلي .
اما هذه الفئة فينحصر ولاؤها لزعماء القبيلة فهي تتلقى اوامرها من هؤلاء الزعماء فتقدم طاعة رؤساء القبيلة وزعاماتها على طاعة الامام الحسن فان هذه الفئة غير قابلة لان تتبع استراتيجية الامام في حربه مع معاوية إلا بما يمكّن زعماء القبيلة عليها وربما يسأل السائل لماذا الامام قام بتجنيد هؤلاء؟.
العامل الاول أراد الامام الحسن بتوجيه كافة الأسلحة تجاه معاوية ولوجود جبهات معارضة في داخل الكوفة ضد جبهة الشام لذلك استفادمن حركات المعارضة في الحرب مع معاوية بالرغم من اختلاف أهدافها وتطلعاتها.
العامل الثاني
لم يكن الامام يأمن غائلة هذه الفرق خاصة ان فيها من هي على استعداد تام لشهر السلاح ضد الامام فيما لو يتم استغلالها وتوجيه سهامها نحو عدو اخر لها ومن جهة ثانية ان بعض هذه الفئات لديها القابلية للحرب مع معاوية ضد الامام وإذا لم يستفد منهم الامام في حربه ضد معاوية من الممكن ان يغريهم معاوية وسنجدهم لصالحه وفيهم من يركع ببريق المعدن ويسجد لطعم الشهرة والمنصب ...*1
خطبته (ع) لما عزم الصلح
روي أنه لما صار معاوية نحو العراق وتحرك الحسن عليه السلام واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه، صار عليه السلام حتى نزل ساباط، وبات هناك، فلما أصبح أراد عليه السلام أن يمتحن أصحابه، ويستبرئ أحوالهم في طاعته، ليميز أولياءه من أعدائه، ويكون على بصيرة من لقاء معاوية، فأمر أن ينادى في الناس بالصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فخطبهم، فقال: الحمد لله كلما حمده حامد، واشهد ان لا اله الا الله كلما شهد له شاهد، واشهد ان محمدا عبده ورسوله، ارسله بالحق وائتمنه على الوحي. اما بعد، فو الله اني لأرجوا ان أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه، وانا انصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملا على امر مسلم ضغينة، ولا مريدا له بسوء ولا غائلة، وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، واني ناظر لكم خيرا من نظركم لا نفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردوا على رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا. قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا : ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظن انه يريد ان يصالح معاوية ويسلم الامر إليه، فقالوا: كفر والله الرجل وشدوا على فسطاطه، فانتهبو، حتى اخذوا مصلاه من تحته - الخ ..
وهذا حال من كان يُكشف صدره للقتال ويتظاهر بأنه من الموالين ويعلن استعداده التام للقتال انزلق في نهاية المطاف واستسلم لقوى الشيطان وصار من جنوده فما بال الذي لا يرى امام زمانه أبدا ويتعرف عليه من خلال الكتب والمنقولات ويكتفي على حب امام زمانه بعدة كلمات من هنا يصبح الأمر صعب مستصعب ويغدو الايمان في اخر الزمان كإلقاء الجمر في اليد.
اضف تعليق