لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون حياة الأئمة الأطهار عليهم السلام مكملة بعضها بعضاً كخرز المسبحة بفقدان أو زيادة إحداها تفقد المسبحة فائدتها، هكذا حياة الأئمة سلام الله عليهم أجمعين فإن حياتهم تكمل بعضها بعضاً كما الفصول تكون الكتاب فإن حياتهم هي الفصول والكتاب هو الإسلام، فهم سلسلة واحدة تشع عرضاً وطولاً الأنوار من أجل إظهار طريق الحق الذي رسمه الله سبحانه وتعالى وهو طريق محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
وبسبب صعوبة تقبل الناس للأفكار الجديدة التي لم يعهدوها من قبل، فعلى صاحب الفكرة من أجل إنجاحها من خلال تقبل الناس لها عليه أن يهيئ العوامل التي تبين وتوضح هذه الفكرة أو يدخلهم في تجربة مشابهة حتى يألفوا الفكرة عندما تطرح ولقول رسول الله (ص) (أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها)، وقال رسول الله (ص) (إنا أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس بقدر عقولهم).
ولأهمية وخطورة إمامة الإمام الحجة بن الحسن (عج) وما يرافقها من أمور لم تتعود الأمة عليها كصغر سنه عندما أستلم أعباء الإمامة وكذلك غيبته سلام الله عليه، هذا الأمر تطلب أن تتهيأ له الأمة وتعتاد عليه حتى لا تدخل في معترك الأفكار والانحرافات ومن ثم التفرقة والضلال وهذا يناقض السبب الذي من أجله بعث الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام، لهذا فإن الله سبحانه وتعالى قد هيأ الأمة لهذا الأمر قبل ولادة الإمام الحجة (عج) بحوالي واحد وخمسون سنة، حيث أدخل الأمة بتجربتين يستلم بها الإمام الإمامة وهو صغير السن، حيث استلم الإمام الجواد عليه السلام وعمره حوالي ثمان سنين، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى العوامل التي دعمت إمامة الإمام الجواد عليه السلام كتركيز الإمام الرضا عليه السلام على إمامته ودفع المؤمنين الى معرفته وطاعته وهو ابن عمر ثلاث سنين وكذلك كثرة المعجزات والعلوم التي طرحها الإمام الجواد عليه السلام بالإضافة الى وجود عم أبيه علي بن جعفر كبير الهاشميين وعالمهم الذي دعمه بكل ما يملك من أدوات، وكذلك وجود الأصحاب العلماء المؤمنين الذين كونهم الإمام الرضا (ع) كيونس بن عبد الرحمن والريان بن الصلت وغيرهم، كل هذه العوامل سهلت قبول الناس لإمامة الإمام الجواد عليه السلام على الرغم من صغر سنه وعدم تعود الناس على هذا الآمر وبعد وفاة الإمام الجواد عليه السلام عام 220 هجري كان عمر الإمام الهادي عليه السلام أما ست سنين أو ثمان سنين حسب الروايات التي اختلفت في تاريخ ولادته (هجري 212 أو 214 هجري).
فعندما استلم الإمام الهادي عليه السلام الإمامة لم يكن الناس في حيرة كما في إمامة الإمام الجواد عليه السلام حتى وصل الأمر ببكاء ونحيب الموالين لهذا الأمر المحير ؟؟؟، لأن تجربة صغر السن قد عايشوها وتعرفوا عليها فأصبحت معتاد عليها فليس هناك غرابة في أمرها، لهذا لاحظنا التفاف الموالين حول إمامة الإمام الهادي عليه السلام وليس هناك ممن ترك إمامته أو ابتعد عنه أو تكون فرق جديدة ذات تأثير في المجتمع الشيعي الموالي.
فهاتان التجربتان قد مهدا الأمر للأمة أن تتقبل إمامة الإمام الحجة (عج) بسنه الصغير بالإضافة الى الأدلة العقلية والنقلية التي دعمت إمامته سلام الله عليه، فبالإضافة الى مسألة العمر وصغر السن فإن مسألة الغيبة الصغرى وابتعاد الإمام (عج) بجسده المادي عن الأمة كانت مسألة خطيرة لم تتعود عليها الأمة لولا التجارب المماثلة التي عاشها الموالين مع أئمتهم، كتجربة الإمام الكاظم عليه السلام عندما كان في السجن وقد وجًّه الموالين للاتصال بوكلائه عبد الله بن جندب وعلي بن ابي حمزة البطائني وعثمان بن عيسى وغيرهم، ولخيانة بعض وكلاء الإمام الكاظم عليه السلام كعلي بن أبي حمزة البطائني وأصحابه وتفرق الناس عن إمامة الإمام الرضا عليه السلام ونشوء فرقة الواقفة، كل هذا تطلب اعادة الثقة بالوكلاء ومن ثم دفع الأمة الى أبوابهم كما حدث في فترة إمامة الإمام الهادي عليه السلام وكيف كان يدفع الموالين الى مراجعة وكلاءه في بغداد كعثمان بن سعيد العمري (الدهان) أو بقية وكلاءه في المدن المختلفة.
وقد أظهرت أحاديث الإمام الهادي عليه السلام ومن بعده الإمام الحسن العسكري عليه السلام في توثيق العمري وابنه محمد ما يحير العقول ويذهب بالجنان حيث يقول الإمام الهادي عليه السلام عن أحمد ابن اسحاق قال (سألت ابا الحسن عليه السلام وقلت له : من أعامل وعمن أخذ وقول من أقبل فقال له عليه السلام : العمري ثقة فما أدي إليك عني فعني يؤدي وما قال لك عني فعني يقول فاسمع له وأطعه فإنه الثقة المأمون)، وعن أحمد بن اسحاق وقد سألت أبا محمد الحسن عن مثل ذلك فقال عليه السلام (العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان).
فخلال أكثر من عشرين سنة يدعم الإمام الهادي عليه السلام وكذلك الإمام الحسن العسكري عليه السلام عثمان بن سعيد الدهان ويدفعا الناس الى مراجعته في مختلف الأمور حتى أصبح الثقة المأمون وكذلك ابنه محمد، فعندما أستلم الإمام الحجة (عج) الإمامة وابتدأت الغيبة الصغرى وثبًّت وكالة وسفارة العمري لم يتفاجئ الموالون لأنه الثقة المأمون من قبل الإمام الهادي وكذلك العسكري بالإضافة للإمام الحجة سلام الله عليهم أجمعين، وعندما توفى السفير الأول عثمان بن سعيد العمري واختار الإمام الحجة (عج) ابنه محمد أبا جعفر الملقب بالخلاني لم يتفاجئ الموالون لأنه الثقة المأمون بالإضافة الى فكرة السفارة قد تأصلت واعتاد الناس عليها.
وهكذا أصبحت النيابة أو السفارة من الأمور الواضحة لدا الموالين نتيجة التهيئة من قبل الأئمة جميعهم عليهم السلام وخصوصاً فترة الإمام الجواد والهادي بالإضافة للإمام العسكري سلام الله عليهم أجمعين، وهكذا فإن كل حدث أو حركة أو موقف لدى المعصوم عليه السلام فإنه يمثل حلقة من حلقات الرسالة المحمدية السمحاء التي تكمل بعضها بعضاً، لهذا فإن صغر سن الإمام الجواد وكذلك الهادي عليهما السلام كان لتهيئة الأمة لإمامة منقذ البشرية الإمام الحجة بن الحسن (عج).
الفائدة من غيبة الإمام (عج)
ولكن ما الفائدة من غيبة الإمام (عج)، كثير من العلل لا يمكن للإنسان أن يستوعبها أو يصل إليها وهذا يعود الى مستوى الإنسان العلمي الذي لايمكن له أن يفهم الحقائق الكبرى وهو الناقص وأين للذي تحيط به الذنوب والآثام أن يعي حقائق الأمور وأين وأين....، ولكن ليس كل ما يجهله الإنسان دلالة على عدم فائدته أو عدم وجوده، فمثلاُ قال رسول الله (ص) (لا يعرف الله إلا أنا و انت ولا يعرفني إلا الله و أنت ولا يعرفك إلا الله وأنا)، أي عدم معرفتنا بالله المعرفة الحقيقية دلالة على عدم وجوده أو عدم فائدته (أستغفر الله عن هذا القول)، فكيف تحيط قطرة الماء بالمحيط وكيف تحيط حبة الرمل بالمجرات وكيف يحيط من كان عدماً بواجب الوجود وكيف و كيف....
فعقولنا في كثير من الأحيان تقف حيرا ومرتبكة لصغرها أمام الحقائق الكبرى ولكن هناك إشارات من المولى عزة قدره والمعصومين عليهم السلام تبين لنا ما جهلته عقولنا لوضاعتها وصغرها، إن الإمام المهدي (عج) ليس الوحيد الغائب في هذا الكون بل هناك أكثر من واحد من الأولياء الصالحين غائبين في عالمنا هذا، وهذا ما اتفقت عليه الأمة الإسلامية قاطبةً وهم إدريس والخضر والياس على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسلام، اذن ما الفائدة من غيبة هؤلاء عن الناس؟
القرآن الكريم أشار الى فائدتهم في غيبتهم عندما رافق موسى عليه السلام الخضر (ع) فأرانا الله سبحانه وتعالى كيف ينشر ألطافه ورحمته على خلقه بواسطة هؤلاء الغائبين، وهذه بعض الآيات التي تبين هذا الأمر، قال الله سبحانه وتعالى (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائها ملكٌ يأخذ كل سفينة غصبا، وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً، وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا).
لاحظنا من خلال هذه الآيات الكريمة كيف ينشر الله سبحانه وتعالى رحمته وألطافه على بني البشر من خلال أوليائه الصالحين الذين يقومون بتنظيم الأمور وقضاء حوائج الخلق بأمر من الله سبحانه وتعالى وما قصة الخضر (ع) مع موسى (ع) إلا نقطة في بحر من الألطاف اللاهية التي ينشرونها علينا هؤلاء الأولياء الصالحون، ولكن هذه القصة تفتح علينا الأفاق وتبين لنا الجزء اليسير من المصلحة في غيبة هؤلاء الأولياء وفي مقدمتهم سيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان (عج).
وهكذا فإن مشروع خروج الإمام صاحب الأمر في آخر الزمان مشروع الهي متكامل أسسه وطرحه وهيأ الأمة له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبعه جميع الأئمة الأطهار عليهم السلام بل أدخلوا الأمة في تجارب عملية لقبول هذا المشروع بشكله الإلهي المتكامل الذي سيملئ الأرض قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا وهو المشروع الذي سيكمل جهود جميع الأنبياء والرسل في إرساء أعمدة الإيمان في هذه الأرض ومن ثم قطف البشرية للسعادة المرجوة من خلال تطبيق الشرع الالهي ما بين بني البشر.
اضف تعليق