من نتائج التقوى الهدى بما يلازمها من استقامة في النفس والعقل والروح، وأمّا النتيجة الأُخرى فيشرحها المقطع الأخير من الآية والفلاح لغةً هو الظفر بالهدف المتوخّى بعد الكدّ والتعب، والمتّقون وحدهم هم المفلحون؛ لأنّهم عبروا طريق (ذات الشوكة) حتى نالوا مقصودهم وهو السعادة في الدنيا والآخرة. ويدلّ على...
(الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) البقرة1/5
والآن لنلقِ نظرة على السِّمات التي رسمتها الآيات الكريمة للمتقين:
1 ـ الإيمان بالغيب.. وقد تم طرحها في الموضوع السابق.
2 ـ إقامة الصلاة
والصفة الثانية للمتقين هي أنهم (يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ).
و(إقامة الصلاة) تواصل مستمّر مع (عالم الغيب) الذي آمن به المتّقون، وهذا التواصل ضروري، إذا ما أُريد للإيمان أن يظلّ ثابتاً وللتقوى أن تثمر آثارها في الحياة العملية.
وذلك لأن نوازع الشهوة تعصف بالإنسان باستمراره، وتبعده عن خطّ التقوى دوماً، ولكي يتحرّر الإنسان من ضغوط الشهوات، وتستمر فيه (التقوى) كان لا بدّ من الارتباط الدائم بالله تعالى، لكي يستمدّ منه العزيمة والقوّة في مواجهة الأهواء والشهوات.
من هنا جاء في القرآن الكريم: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).
وينبغي هنا أن نشير إلى أنّ إقامة الصلاة لا تعني مجرد الإتيان بصورتها ـ من قيام وركوع وسجود ـ بلا توجّه إلى محتواها وروحها، كيف وقد توّعد الله سبحانه الساهي عن حقيقة الصلاة بالويل؟ فقال عزَّ وجلَّ: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)(1) فهو وإن اطلق عليه لفظ (المصلّي) إلاّ أنه منعوت بالسهو عن حقيقتها، والحرمان من بركاتها في حياته العملية، ومن هنا تقول له الصلاة: (ضيّعك الله كما ضيعتني)، كما ورد في الحديث الشريف(2).
بل المراد بـ(إقامة الصلاة): آداؤها بشروطها وآدابها كاملة غير منقوصة، وحفظها عن وقوع الخلل فيها. يُقال: أقام العود إذا قوَّمه، و(قام بالأمر) إذا أحكمه.
أو المراد بذلك: إدامة أداء فرضها، يقال للشيء الراتب (قائم) ولفاعله (مقيم) ويقال: (فلان يقيم أرزاق الجند) إذا كان يستمرُّ على ذلك.
وفي التقريب: إقامة الصلاة الإتيان بها دائماً على الوجه المأمور بها، ولذا تدلّ على معنى أرفع من معنى (صلّ)(3).
ويحتمل أن يكون المراد بـ(إقامة الصلاة) إقرارها في المجتمع وسوقه نحوها، كما يظهر من نظائر هذه الجملة، فإذا قلنا: (فلان أقام الخير أو الشرّ) فإن ذلك يعني تعميم الخير أو الشرّ في المجتمع لا مجرّد الإتيان به وحده، ولكنّ هذا المعنى بعيد عن سياق الآيات، فتأمّل.
3 ـ الإنفاق ممّا رزق اللَّه
والصفة الثالثة للمتقين هي أنهم (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
أ ـ وهذه الصفة تعبر عن الارتباط بين (المتقين) و(الناس) كما كانت (إقامة الصلاة) تعبر عن الإرتباط بينهم وبين الله، وهي في الواقع من آثار (الإيمان بالغيب) فمن يؤمن بالغيب سوف يندفع إلى الإنفاق ممّا عنده؛ إذ إنّ (من أيقن بالخلف جاد بالعطية).
ب ـ والرزق لا ينحصر في (المال) فقط، بل يشمل كلَّ المواهب التي منحهم الله سبحانه كما يستفاد من عموم كلمة (ما) الموصولة، فالمال والجاه، والعلم، والسلطة و.. كلّها من مصاديق الرزق، وإنفاق كلّ واحد منها بحسبه.
ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أنّه قال: «وممّا علّمناهم يبثّون، وممّا علّمناهم من القرآن يتلون»(4).
وروي «وممّا علّمناهم ينبئون»(5).
جـ ـ والحقيقة الجلية في أذهان المتّقين هي أنّ كلّ هذه المواهب هي ممّا (رزقهم الله)، فلم يكونوا ليحصلوا عليها بأنفسهم، بل بسبب العطاء الإلهي.
إنّ منطق غير المتقين يتمثّل في كلام قارون حينما حصل على تلك الكنوز التي كانت مفاتحها لتنوء بالعصبة أولي القوّة: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ).
بينما منطق المتّقين يتمثّل في كلام يوسف (عليه السلام) حينما تولّى عرش مصر العظيم فقال يناجي ربّه: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)(6).
وذلك: لأنّ كلّ المواد المودعة في هذا الكون هي من صنع الله سبحانه وتعالى، وكلّ هذه الطاقات التي استطاع بها الإنسان الحصول على ما يملك هي من عطاء الله والاحتياج إلى هذا العطاء ليس في البدء فقط.. بل في كل لحظة من لحظات الحياة بحيث لو انقطع العطاء الإلهي لحظة واحدة لانتهى كلّ شيء(7).
د ـ وليس المطلوب أن تنفق (كلّ) ما رزقك الله، بل المطلوب أن تنفق (بعضه)، كما يستفاد من كلمة (من) التبعيضية في قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) إذ أصل الكلمة (ومن ما) ثمّ قلبت النون ميماً واُدغمت الميم في الميم فأصبحت (ممّا) وذلك رفق إلهي بالمؤمنين؛ إذ لم يكلّفهم أن ينفقوا (كلّ) ما عندهم وإنما (بعضه)، ولكنّ الإنسان رغم كلّ ذلك: ظلوم كفّار!.
ولا بأس أن نذكر هنا المثال التالي.
(يُنقل أنه كان لإنسان عبد، فسافر هو وعبده إلى بلد بعيد، وترك عائلته في بلده، وبعد فترة كتب إليه بعض عياله يقول: إنّ نفقتنا قد انتهت وإنّنا بأشد الحاجة إلى المال. فأعطى السيد لعبده ألف دينار، وقال له: اذهب وسلّم المال إلى عائلتي، وهذه عشرون ديناراً لأجل سفرك.
فلمّا ابتعد العبّد قليلاً ناداه السيد وقال له: إن مائتين من الألف أيضاً لك وسلّم إلى عائلتي ثمانمئة.
قال العبد: أيّها السيد، إنّي رهين إحسانك ومنَّتك، وقد أعطيتني نفقة السفر، فلا حاجة لي إلى الزائد.
قال: السيد: اسمع ما أقول لك.
فشكره العبد ومضى.
وما إن مشى خطوات حتّى ناداه السيِّد وقال له: لك أربعمائة وسلِّم ستمائة إلى عائلتي.
فأخذ العبد يكرّر كلامه السابق، لكنّ السيد أصرّ على مقالته، فشكره العبد وذهب غير بعيد، وإذا بالسيِّد يناديه ويقول له: لك ستمائة وسلِّم لعائلتي أربعمائة.
فكرّر العبد كلامه السابق، وكرّر السيد إصراره، فأكثر العبد شكره.
ولم ينتقل العبد خطوات حتّى ناداه السيد قائلاً: لك ثمانمائة والبقيّة لعائلتي.
فذهب العبد ووصل إلى بلد السيد، لكنّه لم يسلم المال إلى عائلة السيد، وكلَّما طالبوه وهم في أشدّ الحاجة لم يعطهم العبد شيئاً)(8).
4 ـ الإيمان بما أُنزل على النبي (صلى الله عليه وآله)
والصفة الرابعة للمتقين هي أنهم (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ـ أي بما أُنزل على الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ .
وما أُنزل على النبي (صلى الله عليه وآله) يعمّ القرآن وكلّ ما اُوحي إليه (صلى الله عليه وآله) من القوانين والتشريعات والأحكام.
والإيمان بكلّ ذلك، إنَّما هو باعتبار أنه (أُنزل) عليه (صلى الله عليه وآله)، فليست للنبي (صلى الله عليه وآله) جنبة (شخصية)، بل هو ممّثل السماء على الأرض، فالإيمان بما جاء به (صلى الله عليه وآله) هو في الواقع إيمان بـ(الغيب) واتّباعه (صلى الله عليه وآله) اتِّباع لله سبحانه.
واستخدام كلمة (الإنزال) هنا هو باعتبار العلوّ المعنوي للمصدر الذي جاء منه الوحي، وهو الله سبحانه، لا باعتبار (العلو المادي) إذ لا حيِّز ولا جهة ولا مكان لله سبحانه؛ إذ هو خالق الحيِّز والجهة والمكان، فلا ينحصر في حيِّز أو جهة أو مكان.
والإيمان بما أُنزل على النبي (صلى الله عليه وآله) يشكّل مفترق الطريق بين (المسلمين) و(أتباع الأديان الأُخرى) إذ قد يؤمن أُولئك بـ(الغيب) إلاّ أنّهم لا يؤمنون بما أُنزل على النبي (صلى الله عليه وآله).
5 ـ الإيمان بما أُنزل من قبل
والصفة الخامسة للمتقين هي أنّهم يؤمنون بـ(ما أُنزل من قبلك) أي النبوّات والكتب السابقة.
فنفس العامل الذي يدفعهم للإيمان بما أُنزل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يدفعهم للإيمان بما أُنزل من قبل ـ من نبوّات وكتب ووحي ونحو ذلك.
إذ المصدر واحد، وكلّ هذه الرسالات (أُنزلت) من قبل الله سبحانه، فلا معنى للتفرقة بين رسل هذا الإله الواحد.
ما هي ضرورة الإيمان بالرسالات السابقة؟
ولكن، ما هي ضرورة الإيمان بالرسالات السابقة؟
في الإجابة على هذا السؤال نذكر النقاط التالية:
1 ـ الرسالات السابقة مهّدت الطريق لرشد هذه الأُمّة وإيصالها إلى هذا المستوى الرفيع الذي وصلت إليه.
فلا بدّ أن ندين لتلك الرسالات بالفضل، ونشكر لها ذلك الجميل.
إن من يصل ـ على أكتاف الابتدائية والثانوية ـ إلى الجامعة لا يصحّ له أن يلعن الابتدائية بعد الوصول إلى الجامعة، بل ينبغي أن يدين لها بالفضل، حيث أنها السلَّم الذي أوصله للجامعة.
وهكذا الأمر في رسالات السماء السابقة فهي كانت درجات في السلَّم الذي وصل الإنسان من خلاله إلى أعلى مراحل النضج الإنساني.
ومن هنا روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق».
2 ـ الرسالات السابقة منابع للهداية، وومضات نور على الدرب، وقد نقل القرآن الكريم لنا كثيراً من قصصهم، كما نجد في الروايات الشريفة الكثير ممّا يتناول ذلك.
ففي الإيمان بالرسالات السابقة (توسيع لدائرة الأُسوة) و(تكثيف لنقاط النور).
وينفع ذلك أيضاً في (استصحاب الشرائع السابقة) على القول به ـ كما قُرِّر في (علم الأُصول).
3 ـ الجذور التاريخية ضرورية لكلّ دين، لكي لا يكون كشجرة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
ومن هنا نجد: أنّ المبادئ الجديدة تحاول أن تلصق نفسها ببعض العظماء التاريخيين لكي تقول للناس: إنّها ليست طارئة على مسيرة المجتمع الإنساني، بل هي موغلة في أعماق الأرض والزمن!
وبهذا يشعر المنتمي بأنه يسير فوق خطّ معبّد لا فوق طريق جديد لم يسلك من قبل.
ومن هنا نجد أنَّ اليهود كانوا يحاولون أن يلصقوا أنفسهم بإبراهيم الخليل (عليه السلام). والنصارى هم الآخرون كانوا يدّعون بأن إبراهيم (صلى الله عليه وآله) منهم.
وجاء القرآن الكريم لكي يفند كلّ هذه المزاعم، ويكشف الحقيقة بقوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(9).
ويقول في آية أُخرى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا)(10).
4 ـ والإيمان بكل الرسالات السابقة يعبر عن واقعية الإنسان تجاه الأحداث، فهو ليس رجلاً معصّباً، بل يقرّ بكل ما له واقعية، وباعتبار أنّ الأديان السابقة هبطت من السماء فهو إذاً يؤمن بها ويعتقد بها.
5 ـ ولا ننسى ما لهذا الإيمان من أثر في نزع الأحقاد وتأليف القلوب واستقطاب الآخرين إلى دائرة الحق.
وقد ذكر السيد الوالد ـ دام ظلّه ـ ما مضمونه: أنّ شخصاً مسيحياً جاءه وحاوره حول الإسلام، فلمّا اقتنع قال: بقيت هنالك عقبة.
فقال السيد: وما هي؟
قال: إنّ إسلامي يعني التبرّؤ من السيد المسيح والسيدة مريم (عليهما السلام) وهذا ما لا أرضى به.
فقال السيد: الأمر بالعكس تماماً، فإن إيمانك بالإسلام يجعلك أكثر إيماناً بالسيد المسيح (عليه السلام) والسيدة مريم (عليها السلام)؛ إذ إننا نعتقد أنّ المسيح (عليه السلام) من الأنبياء أُولي العزم وأُمُّه صدّيقة، وإنّهما معصومان عن كلّ خطأ وذنب.. ثم أتى السيد بالمصحف وأخذ يريه (سورة مريم) قائلاً له: إنّ قرآننا يحتوي على سورة كاملة باسم (سورة مريم). فأبدى الرجل استغرابه الشديد، وأسلم لله ربِّ العالمين.
6 ـ اليقين بالآخرة
والصفة السادسة للمتقين هي أنهم (بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).
و(اليقين) هو (الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه أيُّ نوع من أنواع الشك والتردد.
وقيل: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.
وعلى كلّ حال فهذه الحياة ليست في منظار المتقين المحطة الأخيرة في رحلة الحياة الطويلة، بل إنّها محطة في الطريق، وبعد هذه الحياة (الدنيا) توجد هنالك (آخرة) و(الموت) مجرّد بوابة ينفذ عبرها الإنسان إلى تلك الحياة، ليقدم على ما قدّم، ويرى نتائج أعماله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وهذه الرؤية تمنح الإنسان الاستقامة في عمله، فلا يخون ولا يظلم ولا يتوانى عن القيام بمسئولياته، لأنه يعرف أنّ كل عمل بذره يحصد ثمرته غداً، كما أنها تمنحه رحابة الصدر تجاه الصعاب؛ إذ إنه يعرف أنّ كل عناء يتحمّله في سبيل الله سوف يعوض أضعافاً مضاعفة في تلك الحياة.
ونظرة واحدة إلى حياة (المتقين) وحياة (غير المتقين) كفيلة بالكشف عن هذه الحقيقة.
أُولئك على هدى من ربهم
هذه هي صفات المتّقين، وباتصافهم بهذه الصفات كانوا مهديين سائرين على الطريق المستقيم.
إلاّ أن هذا الهدى لم يأت من قبل أنفسهم، بل جاء من جانب ربّهم.
صحيح أنّ الإنسان يسلك طريق (الهدى) بإرادته واختياره بدون أن يكون هنالك أيُّ قسر مفروض عليه؛ إذ القلب منطقة متحرّرة من تأثير مراكز القوى فلا تستطيع أن تفرض على القلب اتّجاهاً معيّناً، وإن استطاعت أن تفرض على البدن ما تريد.
وصحيح أنّ الإرادة اختياريّة بذاتها، فاختيارية كل شيء بالإرادة، أمّا اختيارية الإرادة فبذاتها، كما أن إنارة كل شيء بالضوء، أمّا إنارة الضوء فبذاته ـ بمعنى عدم افتقار هذا الوصف إلى حيثية تعليلية وراء علّة وجود الذات، فعلّة وجود الذات كافية في وجود الوصف الذاتي، بدون الاحتياج إلى علّة أُخرى تمنحه وجوده، ومن هنا قيل: (الذاتي لا يُعلَّل).
إلا أنّ حصول هذه الإرادة متوقّفة على مقدّمات، ومن هذه المقدِّمات (التصور) ـ أي: انطباع صورة الشيء في الذهن، وإذا لم يكن الله سبحانه يرسل الرسل، وينّزل الآيات لم يكن لأحد أن يتعرّف على طريق الهدى ليسلكه.
ومن هنا يقول المؤمنون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)(11).
وفي الدعاء: (يا من دلّ على ذاته بذاته)(12).
هذا مضافاً إلى أن نفس وجود الإنسان ووجود إرادته ووجود صفاته الكمالية التي بها أدرك الهدى، ووجود قدراته وطاقاته التي بها سلك طريق الهدى و... و.. كلّها رهينة بالعطاء الإلهي.
ومن هنا كان هدى المتقين آتيا من جانب ربّهم: (أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ).
نتيجة التقوى
هذه نتيجة من نتائج التقوى الهدى بما يلازمها من استقامة في النفس والعقل والروح، وأمّا النتيجة الأُخرى فيشرحها المقطع الأخير من الآية: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
والفلاح لغةً هو الظفر بالهدف المتوخّى بعد الكدّ والتعب، والمتّقون وحدهم هم المفلحون؛ لأنّهم عبروا طريق (ذات الشوكة) حتى نالوا مقصودهم وهو السعادة في الدنيا والآخرة.
ويدلّ على تعميم الفلاح للدنيا والآخرة حذف المتعلَّق بأنه يفيد العموم ـ كما ذكره علماء البلاغة ـ.
كما يدلّ عليه قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(13).
اضف تعليق