الإمام الجواد (ع) بالخصوص كان معجزة الإمامة والولاية فعلاً، الذي جعله الله حجة على خلقه وهو في السادسة من عمره، وليس غريباً على الله أن يُلقي على وليِّه أنواره ويفيض عليه من علومه ما يبهر العقول والألباب، فهو الذي جعل يحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم أنبياء ورسلا...

ولد الإمام محمد الجواد (ع) 10 رجب سنة 195 هـ في المدينة المنورة

مقدمة إعجازية

الإعجاز هو بحث ومفهوم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنبوة وبعثة الأنبياء والمرسلين وهي ما يؤيدهم به الله تعالى في إثبات مدَّعاهم بالنبوة أو الرسالة والبعثة من قبل الله تعالى، فمَنْ يدَّعي ارتباطه بما وراء الغيب والسماء فمن الطبيعي أن يطلب منه الناس أمراً يُثبت هذا الادعاء، ولا يوجد إلا المعجزة وهي خرق نواميس الطبيعة، وقوانين الفيزياء والكيمياء وكل القوانين الحاكمة والناظمة لشؤون الدنيا، وهذا أمر لا يمكن أن يفعله إلا الخالق العظيم فالذي وضع القانون وأحكمه هو الذي يستطيع خرقه وإبطاله ثم إعادته إلى حاله وطبيعته.

فقانون التوالد بين الأجيال لا يمكن أن يتم إلا عبره حفظ النسل ولا يمكن إلا أن يكون من رجل وامرأة وعلاقة بينهما حتى يحصل الحمل خلال وقت ومدة يتكامل فيها المخلوق ثم يولد من أمه التي تربيه وترضعه بغريزتها التي وضعها الله فيها، وإذا أراد البشر خرق هذا القانون -كما يجري الآن بالاستنساخ، أو عمليات التلاعب بشريط المورِّثات (dna)- فإنهم لا يستطيعون ذلك إلا بواسطة العلم، ولكن الله تعالى الذي وضع هذا القانون قال لأبينا آدم وأمنا حواء (عليهما السلام) كن: فكانا، ونفخ في السيدة مريم العذراء البتول فتحولت تلك النفخة إلى روح الله المسيح عيسى بن مريم (ع) رسول الله.

وكذلك هذا القانون يسري في كل شيء لا سيما الحيوانات فالأمر الطبيعي أن تتزاوج الناقة مع الجمل فينتجون فصيلاً، وأما الإعجاز بأن يأتي نبي الله صالح (ع) ويصلِّي ركعتين ويدعو الله فيتمخَّض الجبل في أشدِّ ما فيه من صخور فينجب ناقة ومن بعدها فصيلاً يعيشان حياة طبيعية يأكلان العشب ويشربان الماء وتعطي الناقة حليباً بمقدار الماء الذي تشربه ليشربه الناس عوضاً عن الماء والغذاء فهذا لا يمكن إلا بالإعجاز وخرق القوانين الحاكمة في الكون وهو لا يتمُّ إلا بالله تعالى وعلى يدي مَنْ يدَّعي اتصاله به سبحانه.

الإمام محمد الجواد (ع)

هو الإمام الذي ولد للإمام علي بن موسى الرِّضا بعد أن تجاوز الخمسين من عمره الشريف حتى الناس لا سيما العلويون والشيعة المقربون منه ضجُّوا من أجل ذلك وشكَّ بعضهم بالإمام -والعياذ بالله- وجاؤوا إليه يسألونه وجهاً لوجه ويردون عليه الكلام بكل صفاقة ووقاحة أحياناً بدل أن يسلِّموا له بما يقول، أو يكتبوا له الرسائل بما في أنفسهم كرسالة ابن قياما التي يرويها الشيخ الكليني فيقول: (كَتَبَ ابْنُ قِيَامَا إِلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه ‌السلام) كِتَاباً يَقُولُ فِيهِ: كَيْفَ تَكُونُ إِمَاماً ولَيْسَ‌ لَكَ ولَدٌ؟! فَأَجَابَهُ أَبُو الْحَسَنِ (عليه ‌السلام)، شِبْهَ الْمُغْضَبِ: (وَمَا عَلَّمَكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِي ولَدٌ؟ وَاللهِ، لَا تَمْضِ الْأَيَّامُ واللَّيَالِي حَتّى يَرْزُقَنِيَ اللهُ ولَداً ذَكَراً يَفْرُقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ). (الكافي: ج2 ص100)

فيأتي هذا الواقفي الضَّال ويدَّعي علم الغيب، ويشكك بعلم مَنْ يعلم الغيب، أو ذاك الذي يأتي إلى الإمام ويسأله كما عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أَنَّهُ سُئِلَ: أَ تَكُونُ اَلْإِمَامَةُ فِي عَمٍّ أَوْ خَالٍ؟ فَقَالَ: لاَ، فَقُلْتُ: فَفِي أَخٍ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَفِي مَنْ؟ قَالَ: (فِي وَلَدِي وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لاَ وَلَدَ لَهُ). (الكافي: ج1 ص714)، وفي رواية ابْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ لِيَ ابْنُ النَّجَاشِيِّ: مَنِ الْإِمَامُ بَعْدَ صَاحِبِكَ؛ فَأَشْتَهِي أَنْ تَسْأَلَهُ حَتّى أَعْلَمَ؟ فَدَخَلْتُ عَلَى الرِّضَا (عليه ‌السلام)، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَقَالَ لِي: (الْإِمَامُ ابْنِي)، ثُمَّ قَالَ: (هَلْ يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: ابْنِي ولَيْسَ لَهُ ولَدٌ؟) (الكافي: ج2 ص100)

نعم؛ الإمام المعصوم الذي يكون علمه من الله تعالى، يستطيع أن يقول هذا القول ويدَّعي هذا الادعاء وهو في سن فوق الخمسين ويصدق فيه لأن الإمام الرِّضا (ع) ولد له الإمام محمد الجواد (ع) وعاش معه أربع سنوات قبل أن يستقدمه عبد الله المأمون إلى مرو ثم إلى خراسان ليقتله بالسَّم ولا يدعه يرى ولده الوحيد الذي تحمَّل كل الأذى في سبيله وذلك ليكون هذا المولود العظيم الذي يقول فيه: (هذَا الْمَوْلُودُ الَّذِي لَمْ يُولَدْ مَوْلُودٌ أَعْظَمُ بَرَكَةً عَلى شِيعَتِنَا مِنْهُ). (الكافي: ج2ص102)

فالإمام محمد الجواد (ع) ثبَّت إمامة والده الرِّضا (ع) في الأمة وأبطل أقوال كل الفرق الضَّالة لا سيما الواقفة والغلاة وغيرهم، ثم تحداهم في نفسه وإمامته لأنه تولى الإمامة والقيادة وأثبت جدارته فيها وهو ابن ست سنوات فقط فملأ مكان والده العظيم عالم آل محمد (صلوات الله عليهم) وولي عهد المأمون، الذي سُكَّت العملة الذهبية والفضية باسمه الشَّريف، ثم نودي باسمه كل جمعة وصلاة على ستين ألف منبر من منابر المسلمين في طول البلاد وعرضها، فلما استشهد الإمام الرِّضا (ع) وهو بعيد عن ولده الجواد (ع) تسنَّم كرسي الولاية والقيادة وقاد الأمة بحنكة وجدارة عجيبة وحتى تحدى به عبد الله المأمون بني العباس جميعاً، وعلماء الأمة الإسلامية وفاز وفلج عليهم جميعاً ببركة ووجود وعلم الإمام الجواد (ع) لا سيما في مجلسه وأسئلة يحيى بن أكثم قاضي القضاة في الدولة العباسية.

زواج الإمام الجواد (ع)

يوجز الإمام الراحل محمد الشيرازي (قدس سره الشريف) قصة زواج الإمام الجواد (ع) من ابنة عبد الله المأمون ويشرح أسبابه من قبل المأمون، فيقول: (المأمون العباسي بعد أن فضحه الله تعالى، وعرف الناس بأنه هو القاتل للإمام الرضا (عليه السلام)، أراد أن يمتصَّ ذلك الغضب بإظهار حبَّه للإمام محمد الجواد (عليه السلام)، وبتزويج ابنته أم الفضل من الإمام (صلوات الله عليه)، مضافاً إلى خطته الخبيثة حيث كان يريد أن يجعل عيناً على الإمام (عليه السلام) حتى في بيته وأسرته.

وأخذ المأمون يتظاهر باحترام الإمام، فلما خرج المأمون من خراسان إلى بغداد كتب رسالة جميلة إلى الإمام الجواد (عليه السلام)، وأراد منه (عليه السلام) أن يهاجر إلى بغداد، ثم هناك قام بتزويج ابنته للإمام الجواد (عليه السلام)، ولكن كبار بني العباس أنكروا عليه ذلك، حيث لم يكونوا يعلمون بمكره، فقالوا: له إن الخلافة والحكومة قد استقرت فينا بني العباس، فلِمَ تزلزلها بتقربك إلى بني علي وفاطمة (عليهما السلام)، مع ذلك العداء القديم الذي كان بين العلويين والعباسيين، وألا يكفيك استخلافك لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وقد أقلقنا ذلك كثيراً إلى أن توفي الإمام!

فقال المأمون وهو يتظاهر بما يقول: إن سبب العداء بيننا وبينهم ما قام به آباؤنا من غصب خلافتهم، ولولا ذلك لما كانت العداوة، فإن بني علي (عليهم السلام) أولى منا بالخلافة.

فقالوا له: محمد بن علي (عليه السلام) طفل لم يكتسب العلم والكمال، ولا يناسب أن يصاهرك، فلو انتظرت حتى يكبر.

فقال المأمون: أنتم لا تعرفون أهل هذا البيت، فإن علمهم لدنِّي من الله وليس بالاكتساب، ولا فرق بين صغيرهم وكبيرهم، فهم أفضل خلق الله.. ثم قال: إذا أردتم معرفة صدق كلامي، فاجمعوا كبار العلماء من كل مكان ليباحثوه.

فاختاروا جمعاً من كبار العلماء، وعلى رأسهم قاضي القضاة يحيى بن أكثم في قصة مفصلة؛ ليجمعوا مجموعة من الأسئلة المعقدة، ليطرحوها على الإمام ويناظروه، ولكن الإمام (عليه السلام) أجاب على جميع تلك الأسئلة، حتى عجز جميع العلماء في مقابل الإمام (عليه السلام)، واعترفوا بعظيم علمه على صغر سنه، وعَلِمَ الجميع أن هذا العلم لدنِّي من الله عز وجل وليس بالاكتساب). (من حياة الإمام الجواد (ع): ص134)

ثم ينقل الرواية المفصَّلة في ذلك عن الشيخ الطبرسي في الاحتجاج عن ابن شبيب، ولكن تأكيد الإمام الراحل على أن علم الإمام كان ليس مكتسباً بل لدُنيَّاً أي من الله تعالى مباشرة وهي من قوله تعالى عن العبد الصالح الذي امتحن به موسى (ع): (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) (الكهف: 65)، فإن كان علم الخضر (عليه السلام) لدنيَّاً فعلم أئمة المسلمين وأوليائهم لدنيَّاً من باب أولى، لأنهم عيبة علم الله وخزان وحيه وفي أبياتهم نزل القرآن الحكيم والذِّكر الشَّريف.

من معاجز الإمام الجواد (ع)

يروي الإمام الراحل (رحمة الله عليه) عدد من المعاجز للإمام الجواد (ع) ولكن نكتفي بهذه الرواية الجميلة التي جرت عفو الخاطر بين عبد الله المأمون حينما كان خارجاً في رحلة صيد عادية له، وصادف الإمام الجواد (ع) وجرت معه هذه القصة العجيبة الغريبة، فقد روي: إن أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) لما استشهد والده علي الرِّضا (عليه السلام)، وقدم المأمون إلى بغداد بعد وفاته بسنة، اتفق أنه خرج إلى الصيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه والصبيان يلعبون، ومحمد (عليه السلام) واقف ينظر إليهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنةً فما حولها، فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمد (عليه السلام) فلم يبرح مكانه، فقرب منه المأمون فنظر إليه، وكان الله عز وعلا قد ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف المأمون وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصبيان؟

فقال له محمد (عليه السلام) مسرعاً: (يا أمير، لم يكن بالطريق ضيق لأوسعه عليك بذهابي، ولم يكن‏ لي جريمة فأخشاها، وظني بك أنك لا تضر من لا ذنب له فوقفت).

فأعجبه كلامه ووجهه، فقال له: ما اسمك؟ قال: (محمد).

قال: ابن مَنْ أنت؟ قال: (أنا ابن علي الرضا (عليه السلام).

فأخذ المأمون يتظاهر بالترحُّم على أبيه، وساق جواده إلى وجهته، وكان مع المأمون بزاة، فلما بعد عن العمارة، أخذ بازياً فأرسله على دراجة، فغاب عن عينه غيبةً طويلةً، ثم عاد من الجو، وفي منقاره سمكة صغيرة، وبها بقايا الحياة، فعجب المأمون من ذلك غاية العجب، فأخذها في يده، وعاد إلى داره في الطريق الذي أقبل منه، فلما وصل إلى ذلك المكان وجد الصبيان على حالهم، فانصرفوا كما فعلوا أول مرة، وأبو جعفر (عليه السلام) لم ينصرف، ووقف كما وقف أولاً.

فلما دنا منه المأمون قال: يا محمد، ما في يدي؟

فألهمه الله عز وجل أن قال: (يا أمير، إن الله تعالى خلق بمشيئته في بحر قدرته سَمَكَاً صغاراً، تصيدها بزاة الملوك والخلفاء، فيختبرون بها سُلالة أهل النبوَّة)، فلما سمع المأمون كلامه عجب منه، وجعل يطيل نظره إليه، وقال: أنت ابن الرِّضا حقاً). (من حياة الإمام الجواد (ع): ص132)

الله.. الله كم هو عظيم علم آل محمد (صلوات الله عليهم) حقاً؟ 

والحقيقة أن الإمام الجواد (ع) بالخصوص كان معجزة الإمامة والولاية فعلاً، الذي جعله الله حجة على خلقه وهو في السادسة من عمره، وليس غريباً على الله أن يُلقي على وليِّه أنواره ويفيض عليه من علومه ما يبهر العقول والألباب، فهو الذي جعل يحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم (عليهم السلام) أنبياء ورسلاً كراماً وحججاً على الأنام وهما في المهد فلماذا يستكبرها النواصب وضعاف العقول من هذه الأمة على آل محمد (عليهم السلام)؟

ألم يقل ربنا سبحانه عن يحيى (ع): (وآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيّاً) (مريم: 12)؟

ألم يقل عن السيد المسيح (ع): (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران: 46)؟

فلماذا لا يكون الإمام الجواد (ع) ممَّن آتاه الله الحكمة والعلم وهو في ذلك العمر، وهذا ما جاء في رواية مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: سَأَلْتُهُ - يَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ (عليه ‌السلام) - عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْ أَمْرِ الْإِمَامِ، فَقُلْتُ: يَكُونُ الْإِمَامُ ابْنَ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ؛ وأَقَلَّ مِنْ خَمْسِ سِنِينَ). (الكافي: ج2 ص283)

فمادام الأمر بيد الله تعالى يضعه فيمَّن يشاء من عباده، وهو حكيم في وضعه فلا يضع رسالته إلا بمَنْ يختاره على علم على العالمين، وكان الإمام محمد الجواد (ع) من تلك الخيرة في هذه الأمة، وليس ذلك له فقط بل ولده الإمام على بن محمد الهادي (ع) تسلَّم الإمامة وهو ابن ثمان سنين، وحفيده العظيم الحجة بن الحسن المهدي (عج) تسلمها ابن خمس سنوات فقط فأين العجب من ذلك كله؟

السلام على الإمام الهمام محمد بن علي الجواد (ع) معجزة الإمامة والولاية حقاً وصدقاً، لأنه تجلَّى فيه قدرة الرب سبحانه في أن يجعله إماماً وحجة على العباد وهو في السادسة من عمره الشريف.  

اضف تعليق