دعواتنا الى الحوار المشترك تبقى نظرية ما لم نضخّ فيها روح الأخلاق والآداب السامية بشكل عملي ضمن الممارسة اليومية لتكون ثقافة عامة ومنهج تربوي ليكون لدينا حوار مثمر وناجح يعطينا نتائج ايجابية، وأول مطلب لمن يدعو للحوار؛ الاستماع الذي يُعد آلية الحوار والأرضية الممهدة لنجاحه...

{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}

سورة الإسراء- الآية:36

أول مطلب لمن يدعو للحوار؛ الاستماع الذي يُعد آلية الحوار والأرضية الممهدة لنجاحه والوصول الى نتائج مرضية للطرفين، بيد أن المشكلة تبدأ بمن يجب عليه الاستماع كون الحظوة بإطلاق الحديث مُراد معظم الناس، فالبعض يريد ان يكون هو المتحدث أمام مستمعين ومنصتين له، ومن ثمّ يأخذون كلامه على محمل الجدّ والأهمية، وهذا ما نجده في الشارع، وفي السوق، وفي الاماكن ذات الطابع الثقافي والنخبوي، كما نجده في مراتب عليا، حيث العلماء والمفكرين عندما تجمعهم مؤتمرات او ندوات يدعو الجميع فيها –نظرياً- الى أهمية الحوار لتبادل الأفكار والآراء، ثم لصياغة حلول وبدائل لما هو أحسن، بيد أن "العبرة بالنتائج"، وما موجود على أرض الواقع. 

الاستماع المعرفي

لا يماري أحد في أهمية الحوار كوسيلة حضارية لتبادل الأفكار، ثم مناقشتها بالأدلة والبراهين، فربما يتوصل الطرفان الى نتيجة مشتركة مرضية، وربما لا يتحقق هذا، فكلٌ يطرح ما عنده، ثم يعود كل طرف الى طريقه ومنهجه بكل سلاسة وهدوء، وهذا ينجح عندما يكون لدينا حالة استماع، وليس فقط سماع للرأي الآخر، والاستفادة من فرصة التعرّف على افكار الطرف المقابل بشكل كامل ودقيق، واحياناً تكون الحاجة للاستزادة من المعرفة بالأسئلة عن المقاصد والدلالات لفكرة معينة، او مصطلح يتم استخدامه، ربما يكون ذو علاقة بأصل الفكرة، مثلاً؛ شخص يتحدث عن امكانية استنطاق القرآن الكريم لاستخراج حلول لمشاكل يعيشها الناس من خلال "التدبّر" بالقرآن، او ان تكون للانسان "بصيرة"، هذه المفردات وأشباهها لها دلالات عميقة تهدي للحلول وفق الرؤية القرآنية والسماوية وفق ما يحمله الطرف المحاور من متبنيات، فاذا لم نفهم معنى التدبّر كعملية ذهنية، أو ان يكون الانسان متبصراً كممارسة يومية، من الصعب الخروج من الحوار بنتيجة تثبت لنا القدرة على الاستفادة من القرآن الكريم من عدمه.

ولذا أكد العلماء والحكماء منذ القدم على الاستماع والإصغاء قبل التفوّه بكلمة، حتى يكون الكلام عن معرفة دقيقة بالطرف المقابل كفرد، وبالجماعة على الصعيد الاجتماعي. 

وقد أكد هذه الحاجة؛ القرآن الكريم في عديد آياته الكريمة بذكر مفردة "السمع" التي عدّها من المواهب العظيمة قبل ذكر البصر، كما أشار الى أهمية ودور الاستماع كآلية دقيقة للتوصل الى الحقائق، والاستماع في اللغة دلالة على المبالغة في السمع، بما يؤشر على إعطاء الأهمية لما يُقال خلال الحوارات المشتركة، فثمة مسائلة عظمى على هذه الحاسة المادية الموهوبة للإنسان، كما صدّرنا المقال بالآية الكريمة، وفي آية أخرى لنا بشارة جميلة فيمن يحسن الاستماع: { فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}. (سورة الزمر، الآية: 17-18).

كل هذا ينبهنا الى عدم الميل نحو الأنا وحب الذات خلال الحوار باستصغار الكلام من الطرف المقابل، او الإيحاء له بأنه كلام "مكرر"! او "مثالي"! واحياناً يكون الاستماع بالطريقة العابرة واستدراج الطرف المقابل للتفاعل ثم فرض الرؤية والفكرة المراد تسويقها في نهاية الحوار! وهذا ما نلاحظه كثيراً في الحوارات غير المتكافئة الاطراف، مثل؛ الحوار بين الأب و أفراد عائلته، او بين مدير المؤسسة او الدائرة او المصنع او القائد العسكري مع من يعملون معه، فهؤلاء يستمعون لما يتحدث به الافراد الجالسون في الاجتماع، ولكن قبل نهاية الحوار يقطعون العلاقة بين الاستماع وبين النتيجة النهائية التي يريدون ان تكون من وحي افكارهم وإراداتهم.

الاستماع النشط 

وهو نوع من الاستماع الذي يبعث الحيوية والروح في أي حوار، ويضمن له النجاح عندما يجسّر العلاقة بين المتحاورين بإيحاءات وحركات تجعل الحوار ذو طرفين وليس طرف واحد، "توضح أنك مهتم بالحوار، وتسمح للطرف الآخر أن يعبر عن رأيه"، (هندسة الحوار والاقناع- الدكتور مصطفى يوسف كافي).

وكتب الكثير من الباحثين في علم النفس والاجتماع فيما يتعلق بأدب الحوار والتواصل مع الآخرين والتأثير عليهم، مؤكدين أهمية التفكير بردود الفعل تزامناً مع الاهتمام بما نريد عرضه من افكار وآراء في جلساتنا وندواتنا، وحتى أحاديثنا الجانبية، وهو ما اطلقوا عليه بـ "التغذية الراجعة" لما نسمعه من الطرف الآخر، حتى لا يكون الحوار بما يشبهه البعض بـ "حوار الطرشان"! 

ثم تدخلت لغة الجسد في عملية إنجاح الحوار المشترك والنشط من خلال تركيز النظر في العين، او الإيماءات بالرأس كعلامة للتفاعل بالرضى او الأسف على ما يتحدث عنه الطرف المقابل، او عدم التفريط بالنظر وتوزيعه الى آخرين في المجلس.

وقبل كل هؤلاء؛ يجدر بنا مراجعة سيرة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، للإطلاع على تفاصيل خلقه والرفيع وآدابه في الحوار مع الآخرين، وأبرزها؛ انه كان يتوجه بوجهه كاملةً الى محدثه ولا يبرح عنه إلا ان يقضي حاجته او ينصرف بعد أن يستمع كاملة الى ما يريد قوله دون ان يقاطعه في الحديث.

إن دعواتنا الى الحوار المشترك تبقى نظرية ما لم نضخّ فيها روح الأخلاق والآداب السامية بشكل عملي ضمن الممارسة اليومية لتكون ثقافة عامة ومنهج تربوي ليكون لدينا حوار مثمر وناجح يعطينا نتائج ايجابية.

اضف تعليق